- مع سريان وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وإطلاق حماس سراح المحتجزين الإسرائيليين الأحياء، وانسحاب إسرائيل إلى الخط الأصفر وفق خطة ترمب، واستئناف دخول المساعدات الإنسانية للقطاع، تكون المرحلة الأولى من اتفاق إنهاء الحرب على القطاع قد نجحت.
- على رغم التهديدات الإسرائيلية فيما يخص مسألة عدم إعادة كل جثامين المحتجزين الإسرائيليين الأموات، لا يُتوقَّع أن تهدد هذه المسألة الاتفاق إذ يمكن تسويتها لاحقاً بمساعدة أطراف دولية وإقليمية، ولكن حكومة نتنياهو قد تستغلها للضغط على حماس والوسطاء لتأكيد جديّة إسرائيل بتحقيق أهدافها من الاتفاق.
- إثر تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاق وقف الحرب على غزة، المرتكز إلى خطة ترمب للسلام، تبرز تحديات المرحلة الثانية التي تتركز في ثلاثة عناصر أساسية، هي: الانسحاب الإسرائيلي، ونزع سلاح حماس وبقية الفصائل، وتشكيل حكم إداري للقطاع.
- في الأفق القريب، يبدو سيناريو تشكيل إدارة تكنوقراط دون نزع سلاح حماس، ولكن مع تعهد حماس بعدم استعمال سلاحها، الأكثر احتمالية، وهو يربط التقدم في تثبيت وقف إطلاق النار وحل الإشكال السياسي حول اليوم التالي، وترك أو تأجيل الإشكال العسكري (نزع السلاح) إلى مرحلة أخرى.
بدأ تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاق وقف الحرب على غزة، المرتكز إلى خطة ترمب للسلام في غزة، في 13 أكتوبر 2025، التي تشمل تبادل الأسرى بين الجانبين، وفتح ممرات إنسانية لإدخال الغذاء والدواء والوقود إلى القطاع، وانسحاب القوات الإسرائيلية إلى الخط الأصفر بموجب خطة ترمب، الذي يُبقي السيطرة الإسرائيلية على 53% من القطاع. ويُحيط بالانتقال إلى المراحل التالية الكثير من الغموض والتشكك، لصعوبتها وتعقُّدها، ولأنها سوف تُفضي إلى بلورة اليوم التالي في قطاع غزة ومستقبله في السنوات المقبلة.
تناقش هذه الورقة المراحل التالية من اتفاق وقف الحرب على غزة والتحديات التي تواجهه، والرؤية الإسرائيلية لتطبيق الاتفاق ومقاربته ضمن الأهداف التي وضعتها إسرائيل للحرب.
المرحلة الأولى من اتفاق وقف الحرب على غزة
في التاسع من أكتوبر 2025 تم التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب على غزة، مُستندٌ إلى خطة ترمب للسلام المؤلفة من 20 بنداً والمعلنة في 29 سبتمبر، بعد محادثات في شرم الشيخ شاركت فيها وفود مصرية وقطرية وتركية وأمريكية، إلى جانب وفدي إسرائيل وحركة حماس. وإثر مصادقة الحكومة الإسرائيلية على المرحلة الأولى من الاتفاق في العاشر من أكتوبر، دخلت هذه المرحلة حيز التنفيذ في 13 أكتوبر، والتي شملت بدء سريان وقف إطلاق النار وانسحاب إسرائيل إلى الخط الأصفر وفق خطة ترمب، وإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين الأحياء (20 إسرائيلياً) مقابل نحو 1968 أسيراً فلسطينياً، في حين سلمت “حماس” (حتى إعداد هذه الورقة) 15 جثماناً من القتلى الإسرائيليين الـثمانية والعشرين، وفي المقابل سلمت إسرائيل 135 جثماناً فلسطينياً.
حقّق الطرفان أهدافاً مهمة من الاتفاق، إذ حصلت حركة حماس على تعهُّد بوقف الحرب في قطاع غزة، في حين حقّقت إسرائيل واحداً من أهداف الحرب وهو إطلاق سراح جميع المحتجزين الإسرائيليين، والإبقاء على سيطرتها على نصف قطاع غزة بما في ذلك السيطرة على محور فيلادلفي/صلاح الدين. وتعُدُّ إسرائيل أن بقاء سيطرتها على نصف قطاع غزة بمنزلة ورقة ضغط مهمة من أجل التأكد من تحقيق باقي أهداف الحرب دون قتال، في خلال تنفيذ المراحل التالية من الاتفاق.
أكَّد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في خلال زيارته للمنطقة، في 14 أكتوبر، وفي الكلمة التي ألقاها في الكنيست وفي قمة شرم الشيخ للسلام، “انتهاء الحرب” في غزة، كما أن “إعلان ترمب للسلام الدائم والازدهار” الذي جرى توقيعه في شرم الشيخ من قبل قادة الولايات المتحدة ومصر وقطر وتركيا رحَّب “بالالتزام التاريخي الحقيقي من جميع الأطراف باتفاقية ترمب للسلام وتنفيذها”، وأكد “دعم جهود الرئيس ترمب الصادقة لإنهاء الحرب في غزة وإحلال سلام دائم في الشرق الأوسط”، و”العمل على تطبيق هذه الاتفاقية بما يضمن السلام والأمن والاستقرار والفرص لجميع شعوب المنطقة، بما في ذلك الفلسطينيون والإسرائيليون”.
ويمكن اعتبار أن الاتفاق الحالي يُغلِق باب الحرب في القطاع ويصعّب استئنافها من طرف إسرائيل، وذلك للأسباب الآتية:
أولاً، إطلاق سراح جميع المحتجزين الإسرائيليين أفقدَ إسرائيل ما تبقى لها من شرعية الحرب في قطاع غزة، واستئنافها مجدداً سيُواجه بعزلة أشد مما كانت، وباحتجاج جماهيري ودولي أكبر مما كان في السابق.
ثانياً، ما عاد اتفاق وقف الحرب في غزة اتفاقاً ضيّقاً بين حماس وإسرائيل، بل اتفاق شبه دولي اجتمع عليه العالم، وعبَّرت قمة شرم الشيخ للسلام، التي حضرها زعماء وممثلون لأكثر من 30 دولة، عن الإطار الدولي للاتفاق والظهير الدولي له، ومن الصعوبة على إسرائيل خرق الاتفاق الحالي تحت أي ذريعة من الذرائع. ويُشكل مركز التنسيق العسكري-المدني التابع للقيادة الوسطى الأمريكية، والذي سيكون مركزه في قاعدة “حيتسروت” الجوية في النقب، إطاراً للرقابة على تطبيق الاتفاق في جانبه العسكري. فقد كُلِّفَ الأدميرال براد كوبر، قائد المنطقة الوسطى الأمريكيّة، وبمشاركة 200 جندي أمريكي، بإدارة عملية المراقبة والتنسيق من داخل القاعدة، وقد منحَ تكليف كوبر الدولَ العربية الضامنة شعوراً بالارتياح حول جديّة الضمانة الأمريكية بوقف الحرب، بحيث تكون المعادلة أن الولايات المتحدة تضمن إسرائيل في حين أن قطر ومصر وتركيا يضمنون حماس في هذا الشأن.
ثالثاً، بقاء القوات الإسرائيلية في قطاع غزة يُشكل نوعاً من “التعويض” عن فكرة استئناف الحرب لتحقيق باقي الأهداف العسكرية الإسرائيلية للحرب (وتحديداً نزع سلاح حماس والقطاع). ويُمثِّل هذا الأمر اعترافاً دولياً وحتى عربياً-إسلامياً بهذه الأهداف، حيث يرى المجتمع الدولي أنه يُمكن تحقيقها بالوسائل الدبلوماسية وليس العسكرية، وينسجم هذا التصور مع خطاب ترمب في الكنيست الذي قال فيه إن المرحلة العسكرية انتهت في تحقيق هذه الأهداف.
رابعاً، على خلاف اتفاق يناير الماضي الذي رأى فيه الرئيس ترمب اتفاق الرئيس السابق جو بايدن (وربما هذا أحد الأسباب التي جعلت ترمب يسمح لنتنياهو الانسحاب من الاتفاق بعد المرحلة الأولى)، ينظر ترمب إلى الاتفاق الحالي على أنه إنجازه الشخصي، ولن يسمح لأحد من الأطراف بخرقه أو إفشاله، لأن ذلك سيُعدّ فشلاً شخصياً له، وهو الذي احتفى بهذا الاتفاق، ويُعوّل عليه من أجل تحقيق السلام في الشرق الأوسط وتوسيع الاتفاقيات الإبراهيمية.
خامساً، لم يُهدد الاتفاق الحالي بقاء الحكومة الإسرائيلية حتى الآن، فاليمين المتطرف المُعارِض له صوت ضده في الحكومة لكنه لم يُسقط الحكومة، ومنح نتنياهو فرصة ليثبت أن الاتفاق قادر على تحقيق باقي أهداف الحرب لحفظ ماء الوجه لليمين الإسرائيلي. وجاء خطاب ترمب في الكنيست الذي حملت عبارات الدعم لنتنياهو عاملاً مهماً في استقرار الحكومة الحالية.
سادساً، تأييد المجتمع الإسرائيلي للاتفاق ووقف الحرب، بل إن المصادقة عليه زادت من قوة حزب الليكود الحاكم، فوفقاً لاستطلاع صحيفة “معاريف” ارتفعت قوة الليكود الانتخابية بمقعدين بعد الاتفاق.
المرحلة الثانية وتحدياتها
انتهت المرحلة الأولى من الاتفاق بتنفيذ الطرفين معظم بنودها، باستثناء المسألة المتعلقة بإعادة كل جثامين المحتجزين الإسرائيليين الأموات، والتي على رغم التهديدات الإسرائيلية لا يُتوقَّع أن تهدد الاتفاق، ولكن إسرائيل قد تستغلها للضغط على حماس، من طريق تأخير فتح معبر رفح وتقييد دخول المساعدات الإنسانية، لتأكيد جديّة إسرائيل بتحقيق أهدافها من الاتفاق. وفي هذا الصدد، أعلنت حماس أنها استنفدت قدرتها على إيجاد باقي الجثامين في قطاع غزة، وأنها تحتاج إلى مساعدة فنية ولوجستية لتحديد أماكن باقي الجثامين. وبالرغم ما يظهر أنه أزمة في هذه المسألة، فمن الواضح أنه يمكن تسويتها لاحقاً بمساعدة أطراف دولية وإقليمية.
ومع انتهاء المرحلة الأولى من الاتفاق تكون إسرائيل قد حقّقت هدفاً واحداً من الشروط الخمسة لإنهاء الحرب التي أقرّها المجلس الوزاري المصغر- وهو إطلاق سراح جميع المحتجزين الأحياء والأموات- لكنها لم تحقق -وليس هناك تأكيد أنها ستحقق- الأهداف أو الشروط الأربعة الأخرى، وهي: نزع سلاح حماس، ونزع سلاح قطاع غزة، وفرض سيطرة أمنية إسرائيلية كاملة على القطاع، وإقامة حكم محلي من دون حماس والسلطة الفلسطينية. وهذه المسائل ستكون متعلقة بتنفيذ المرحلة الثانية منه.
تشير خطة ترمب إلى نزع سلاح حركة حماس بوصفه جزءاً من تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، وجدّد ترمب في خطابه في الكنيست تأكيده أن نزع سلاح حماس هو واحد من أهداف الاتفاق. وتَعتبر إسرائيل هذه المسألة جوهرية لضمان أمنها ومنع حدوث “السابع من أكتوبر” مرة أخرى، كما أنها تحفظ بقاء الحكومة الإسرائيلية، فقد اشترطت قوائم اليمين المتطرف بقاءها في الحكومة بتنفيذ هذا الهدف، وربطت الحكومة انسحابها من القطاع بنزع سلاح حماس. وفي المقابل أعلنت حماس مراراً، بعد موافقتها على خطة ترمب، بأنها لن تتخلى عن سلاحها.
تحاول الإدارة الأمريكية وإسرائيل تقليص الفترة بين تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق وتشكيل الحكم أو الإدارة المهنية الجديدة للقطاع، فالتخوف هو أنه كلما طالت هذه المدة ستُعزز حركة “حماس” سيطرتها على نصف القطاع، أمنياً وسلطوياً، وفعلاً بدأت الحركة حملة أمنية ضد ما تُسميهم “عملاء الاحتلال ومثيري الفوضى والفلتان” في غزة.
سيظهر في مسألة إدارة القطاع صراع سياسات بين حركة حماس التي ستدفع نحو تشكيل حكومة فلسطينية تحت رعاية الفصائل الفلسطينية دون مشاركتها، ولكنها تملك تأثير على تركيبتها، وبين هيئة الإشراف الدولي (مجلس السلام) الذي يدفع نحو تشكيل حكومة من التكنوقراط الفلسطينيين. هذا الصراع يُعقّد امكانية تشكيل إدارة للقطاع، وبخاصة إذا رفضت فصائل الفلسطينية، وعلى رأسها “حماس”، هذه الإدارة.
في هذا الصدد، لن تستطيع إسرائيل منع تأثير أو علاقة الإدارة الجديدة بالسلطة الفلسطينية، وذلك بسبب الدعم الدولي والإقليمي لهذه العلاقة من جهة، ودعم الاتفاق لهذا الدور من جهة ثانية. وفي السياق ذاته، تشير تقديرات إسرائيلية إلى أن حماس ستستغل تنازلها عن حكم القطاع من أجل إعادة ترميم قوتها العسكرية، وهذا الأمر نابع من موقف حماس الرافض لنزع السلاح، لذلك فإن الحل يكون -طبقاً لهذه التقديرات– بتأييد إسرائيلي لدخول قوات السلطة الفلسطينية للقطاع ومنحها الشرعية لذلك، فهذا الأمر سيملأ الفراغ الأمني في القطاع قبل قيام حماس بإعادة قوتها العسكرية.
في هذا الصدد، يشير تامير هايمن، رئيس معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، إلى أن الاتفاق حقّق مصالح عديدة لإسرائيل، وأهمها موافقة حماس على الفصل بين موضوع المحتجزين وإعادة إعمار قطاع غزة ومستقبله، وعودة جميع المحتجزين دفعة واحدة، وبداية مسار ترميم صورة إسرائيل دولياً. وفي المقابل، يُشير هايمن إلى أن الاتفاق يتضمن نواقص عديدة، مثل عدم وضوح مساحة حرية العمل العسكري لإسرائيل في غزة، وعدم مُساءَلة مقاتلي حماس، وتعزيز مكانة تركيا وقطر في ترتيبات اليوم التالي في غزة. ويعتقد هايمن أن المسألة الجوهرية والتخوف هو في عدم التوصل إلى اتفاق لنزع سلاح حماس، فمن دون تحقيق المرحلة الثانية من الاتفاق قد تجد إسرائيل نفسها في مواجهة غزة تحت حكم حماس من جديد.
في الخلاصة، تحمل المرحلة الثانية الكثير من التعقيدات في قضايا تحدد مستقبل قطاع غزة، والمشكلة الرئيسة هي أن هذه القضايا لا تزال تعاني من الغموض وغياب الاتفاق بشأنها بين مختلف الأطراف.
سيناريوهات مستقبل قطاع غزة بعد الاتفاق
توجد أربعة سيناريوهات محتملة لمستقبل القطاع، معتمدة على الموقف من العناصر الثلاثة الجوهرية في الاتفاق: الانسحاب الإسرائيلي، ونزع سلاح حماس والقطاع، وتشكيل حكم إداري للقطاع.
السيناريو الأول: انهيار الاتفاق وعودة الحرب
ينطلق هذا السيناريو من فشل مباحثات المرحلة الثانية وعدم التوصل إلى اتفاق على أي بند من بنودها، وتحديداً نزع السلاح وحكم القطاع. ستعتبر إسرائيل فشل المباحثات وانسداد الأفق للتوصل إلى حلول بشأن هذه البنود، ذريعةً لاستئناف الحرب في قطاع غزة لتحقيق أهداف الحرب عبر احتلال مدينة غزة. في هذا الصدد، سترى إسرائيل أن الحرب في هذه المرحلة ستكون أسهل من السابق نظراً لغياب القيد المتمثل في وجود محتجزين إسرائيل، مما يُمكّنها من استعمال أسلحة لتدمير الأنفاق لم تستعملها في السابق، واستهداف قيادات حماس التي بقيت في القطاع. علاوة على ذلك، فإن سيطرة إسرائيل الأمنية على نصف القطاع يمنح الجيش الإسرائيلي فرصةً لاستئناف الحرب من موقع متقدم. وسيضغط اليمين لتنفيذ هذا السيناريو لتحقيق أهداف الحرب، وبخاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الإسرائيلية المقرر في أكتوبر 2026، والتي يرغب في خوضها وقد حقّق أهداف الحرب.
يواجه هذا السيناريو تحديّات عديدة، أهمها معارضة ترمب لعودة الحرب التي يعدها عائقاً أمام رؤيته للسلام الإقليمي، وغياب الشرعية الدولية لها بعد الاتفاق، والذي جاء أيضاً لإخراج إسرائيل من عزلتها الدولية والإقليمية، وعودة النازحين إلى مناطق شمال ووسط غزة، وبدء حملة الإغاثة الدولية لقطاع غزة، وصعوبة تحقيق أهداف الحرب بعملية عسكرية قصيرة. وعلى المستوى الإسرائيلي هناك معارضة للحرب، إلى جانب أن إسرائيل تملك خيارات أخرى مثل شن هجمات على البنية التحتية لحماس كما تفعل في لبنان دون تعريض حياة جنودها للخطر.
السيناريو الثاني: تكريس واقع المرحلة الأولى
ينطلق هذا السيناريو من أن المباحثات حول المرحلة الثانية ستطول من جهة، إلى جانب التزام الأطراف بوقف القتال من جهة ثانية. يؤدي هذا الأمر إلى حالة من تكريس الوضع الناتج عن تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق المتمثل في سيطرة حماس على نصف القطاع، وسيطرة إسرائيل على النصف الآخر. وإطالة أمد المفاوضات دون التوصل إلى تفاهمات حول المسائل الجوهرية أو صعوبة تطبيق بعض البنود على نحو دخول قوة دولية-عربية للقطاع، سيمنح حماس فرصة لتعزيز سيطرتها الأمنية والسلطوية على القطاع، وهو ما ظهر في الأيام الأولى من الاتفاق بنشر قوات حماس الأمنية في قطاع غزة، ومحاربة مجموعات مسلحة، عشائرية بالأساس، من أجل بسط نفوذها في القطاع، واستمرار دخول المساعدات الإنسانية للقطاع تحت حكمها. وفي هذا الصدد، سترى إسرائيل أن بقاء احتلالها لنصف القطاع وإغلاقه بوجه السكان، هو الرد الأنسب على عدم التوصل إلى تفاهمات حول المرحلة الثانية، وبذلك تضمن طبقة ثانية من حصار غزة بوجودها في نصفه، وسيطرتها على محور فيلادلفي/صلاح الدين وجميع المعابر، ومنها معبر رفح.
يُواجه هذا السيناريو مجموعة من التحديّات، أهمها الضغط الداخلي على إسرائيل بعدم قبول هذا الواقع لأنه يُعيدها عملياً إلى عقيدة ما قبل السابع من أكتوبر التي انطلقت من سياسة احتواء حكم حماس، فضلاً عن ضغط اليمين الذي يعتبر هذا الواقع فشلاً إسرائيلياً في الحرب، كما أنه يُعرّض القوات الإسرائيلية للخطر بسبب وجودها في مناطق واسعة ومفتوحة في القطاع. وبالنسبة للشركاء الإقليميين، فإن هذا الواقع لن يسمح بإعادة إعمار القطاع، ولن يمنح أفقاً لتوحيد مستقبلي للضفة وقطاع غزة بوصف ذلك خطوة ضرورية لإقامة دولة فلسطينية.
السيناريو الثالث: تشكيل إدارة تكنوقراط مع نزع سلاح حماس (تنفيذ كامل للاتفاق)
يفترض هذا السيناريو انتهاء مباحثات المرحلة الثانية بتشكيل حكومة تكنوقراط ونزع سلاح حماس من طريق تفكيك البنية التحتية العسكرية للحركة، وتحديداً السلاح الهجومي، وتسليمه لجهة ثالثة، مثل مصر. ويعتمد هذا السيناريو على ضغط دولي وإقليمي وفلسطيني على حماس لنزع سلاحها من أجل تحقيق الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، وإعادة الإعمار، وقطع الطريق أمام عودة الحرب مجدّداً، أو الصدام مع القوة الدولية والعربية في القطاع، والتعويل على أن حماس ستوافق على ذلك مقابل منحها دور غير مباشر في النظام السياسي الفلسطيني مستقبلاً.
يواجه هذا السيناريو تحديّاً أساسياً متمثلاً في تخوف حماس من أن تسليم سلاحها سوف يؤدي إلى إقصائها في قطاع غزة، أو تخوفها من من رفض الجناح العسكري الموافقة على تسليم السلاح مما يُحدث انشقاقاً داخلياً في الحركة، فضلاً عن أن تسليم سلاحها يُجافي كل وعودها بعد توقيع الاتفاق أنها لن تتخلى عن السلاح إلا بعد قيام الدولة الفلسطينية.
السيناريو الرابع: تشكيل إدارة تكنوقراط دون نزع سلاح حماس
ينطلق هذا السيناريو من نجاح المباحثات في التوصل إلى صيغة لحكم قطاع غزة لا تكون حماس جزءاً منه، ويكون ذلك من طريق تشكيل حكومة من التكنوقراط الفلسطينيين لا يكون لحركة حماس تمثيل فيها ولكنها توافق عليها، دون أن تُسلِّم سلاحها للقوى الأمنية التابعة لها. ويُنتج هذا السيناريو واقعَ بقاء سلاح حماس تحت الأرض فيما تعمل حكومة التكنوقراط فوق الأرض، مع تعهُّد حماس بعدم استعمال سلاحها (ما يشبه نموذج حزب الله في لبنان). يدفع نحو هذا السيناريو فكرة أنه يجب تحقيق ما يمكن تحقيقه من بنود خطة ترمب، وعدم تأجيل تنفيذ جميع بنودها دُفعة واحدة، وسيكون هذا الأمر هو الأسهل في المرحلة المقبلة بالمقارنة مع باقي الأمور، نظراً لإعلان حماس عن تأييدها لوجود حكومة فلسطينية غير سياسية للقطاع، ويمنح تحقيق ذلك إمكانية بدء عملية إعمار قطاع غزة، وتمكين القوى الأمنية والشرطة الفلسطينية من بسط الأمن على القطاع، والضغط على إسرائيل لتنفيذ الانسحاب الثاني من القطاع.
يُواجه هذا السيناريو تحديّاً أساسياً برفض إسرائيل الانسحاب من الخط الأصفر إلى ما وراء الخط الأحمر، تحت ذريعة أنه بموازاة تشكيل الحكومة لم يُنزَع سلاح حركة حماس كما تنص خطة ترمب على ذلك، بمعنى ربط الانسحاب بنزع السلاح وليس بتشكيل حكومة تكنوقراط في قطاع غزة، مما يُصعِّب على الحكومة الجديدة تنفيذ مهمتها في تنفيذ إعادة الإعمار، وبسط سيطرتها الأمنية في القطاع.
استنتاجات
يعد تحقق السيناريو الرابع الأكثر احتمالاً في المرحلة الحالية، فهو السيناريو “الأسهل” للتطبيق حالياً، وتنبع واقعيته الحالية في أهمية التقدُّم في تثبيت وقف إطلاق النار وحل الإشكال السياسي حول اليوم التالي، وترك أو تأجيل الإشكال العسكري (نزع السلاح) إلى مرحلة أخرى. صحيح أن إسرائيل تربط بين مواصلة انسحابها من القطاع ونزع سلاح حركة حماس، ولكن تشكيل حكومة بتوافق دولي ودخول قوات دولية وعربية للقطاع قد يُشكل ضغطاً على إسرائيل لسحب قواتها من أغلب قطاع غزة، وذلك بغياب التهديد الأمني عليها من قطاع غزة، ومراقبة عدم وصول مواد تُمكّن حماس من تطوير قدراتها العسكرية بسبب وجود حكومة تكنوقراط بإشراف دولي عليها وعلى إعادة الإعمار، كما أن استقرار الوضع السياسي في القطاع، وبدء الإعمار سوف يعملان على تحجيم نفوذ حماس في القطاع، ويمنعاها من تهديد أمن إسرائيل وأمن الفلسطينيين، مما يُسهِّل الضغط على إسرائيل لإكمال انسحابها.