مقدمة
يوما بعد يوم تتضح الأهداف الإسرائيلية من عملية التطبيع مع الإمارات والبحرين تحديدا، متجاوزة المكاسب الاقتصادية على أهميتها، وصولا للأطماع العسكرية والأمنية، مع صدور تصريحات إسرائيلية تتحدث عن إقامة قواعد عسكرية في الخليج وباب المندب والبحر الأحمر، أو على الأقل الاستفادة من القواعد الإماراتية المنتشرة في هذه المناطق، مما يحقق للإسرائيليين جملة أهداف بعيدة المدى، سواء في متابعة النفوذ الإيراني، أو عدم إبقاء البحر الأحمر بحيرة عربية إسلامية، أو ملاحقة المقاومة الفلسطينية بتوريد السلاح.
من الدوافع الأساسية التي تقف خلف هذه الفرضيات ما كشفت عنه شخصيات سياسية إسرائيلية بارزة تحدثت بأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يخفي بعض تفاصيل الصفقة الموقعة مع الإمارات والبحرين، لأنه بعد أسابيع من التوقيع، لا أحد يعرف تفاصيل ما التزمت إسرائيل به في الاتفاقية، أو حصلت عليه، باستثناء شخص واحد، وهو نتنياهو.
تزداد الاتفاقية مع الإمارات والبحرين غموضا وضبابية لدى الإسرائيليين حين نعلم أنه لم يتم مناقشتها في أي منتدى للكنيست والحكومة، مما يفسح المجال للشعور بأن الشفافية غير موجودة، كما أن لجنة الشؤون الخارجية والأمن لم يناقش هذه الاتفاقية، ما يعني أن نتنياهو وقع الاتفاقية دون إشراك الكنيست أو لجنة الشؤون الخارجية أو حتى مجلس الوزراء الأمني.
مواجهة إيران
تتركز أولى المصالح الأمنية والعسكرية الإسرائيلية مما بات يسمى “اتفاق أبراهام”، في كونه خدم مصلحة إسرائيل الأمنية، خاصة أمام الجبهة الإيرانية القطرية التركية، صحيح أنه ليست لدى إسرائيل حرب مع الإمارات والبحرين، مما يدفع للقول أننا لسنا أمام اتفاقية سلام بعد الحرب، ومع ذلك فهي تمنح إسرائيل مزايا استراتيجية كبيرة، بالنظر إلى محور إسرائيل ومصر والإمارات والسعودية وغيرها من ناحية؛ ومحور إيران وتركيا وقطر والعراق وغيرها من ناحية أخرى.
يتقاطع الاتفاق مع الإمارات والبحرين مع جهود إسرائيل المستميتة لتوسيع قدراتها استراتيجيًا وجغرافيًا للتصدي لإيران، وفتح سوق اقتصادي وتكنولوجي مهم، مما يعني أن مصالح إسرائيل تتصاعد بطريقة تدريجية، لأن اتفاقاتها التطبيعية أزالت العديد من القيود، صحيح أننا أمام دولتين صغيرتين، لكن لديهما قوة إلكترونية واقتصاد قوي، وتفهمان الشرق الأوسط بشكل مختلف، الإمارات والبحرين دولتان معاديتان جدًا لإيران وتركيا والإخوان المسلمين، وهو ذات الموقف الإسرائيلي، وأي مصلحة إسرائيلية بعد هذا التوافق؟!
استمرارا للحديث عن المصالح الأمنية والعسكرية الإسرائيلية مع الإمارات، تصعد إلى السطح جملة العلاقات السرية الخاصة بينهما، التي دخلت مجال الاستخبارات وصفقات الأسلحة، فقد باعت تل أبيب أبو ظبي معدات استخبارية وطائرات مقاتلة من طراز إف16، ويبدو واضحا أن الدافع لتعاونهما هو العداء المشترك لإيران والإخوان المسلمين.
تكديس السلاح
سعت الإمارات خلال السنوات العشرين الماضية لحيازة أكبر كميات من الأسلحة بمئات مليارات الدولارات من الولايات المتحدة، وكان لافتا أن شركة “البيت” للصناعات العسكرية الإسرائيلية تبيع معداتها القتالية لدولة عربية لا تقيم مع إسرائيل علاقات دبلوماسية، وعلى هذه الخلفية نشأت علاقاتها مع إسرائيل.
كما أن شركة NSO الموجودة في مدينة هرتسيليا باعت أبو ظبي منظومة باغسوس للتنصت على الهواتف المحمولة، بهدف اختراق هواتف معارضيها السياسيين، والحصول على معلومات، دون خشية من اتهامها بانتهاك حقوق الإنسان، مع العلم أن هذه الشركة معروفة بعلاقاتها مع العديد من الأنظمة القمعية في العالم، ومنها ميانمار، مما يجعلها تقرن اسم إسرائيل بكل شيء سيء وشرير، رغم أنها تحظى بغطاء من وزارة الحرب التي تسهل لها معاملاتها الأمنية.
شركة أخرى باعت أبو ظبي وسائل استخبارية هي Verint التي تنتج معدات للتنصت والتجسس، ويمكن القول إن علاقات أبو ظبي معها نشأت قبل عقد ونصف من الزمن برعاية المؤسسة الأمنية الإسرائيلية التي فرضت حاجزا من السرية والغموض حولها، لكن من كشف الاتصالات هو ماتي كوخافي رجل الأعمال الإسرائيلي عبر محاضرة في سنغافورة.
كوخافي تفاخر بأنه حاز على عقود تجارية من أبو ظبي لتزويدها بمعدات أمنية ووسائل حماية لمواقع النفط والغاز، وعمل معه عدد من كبار رجالات الأمن الإسرائيلي بينهم الجنرال عاموس مالكا الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات العسكرية “أمان” وقائد سلاح الجو الأسبق الجنرال إيتان بن إلياهو، كما أن العشرات من كبار الضباط الإسرائيليين سافروا إلى أبو ظبي من خلال قبرص، حيث يزاولون أعمالهم في أحد أحياء الفيلات الراقية، وعملوا هناك لمدد تتراوح بين أسبوع وأسبوعين.
أما رجل الأعمال الإسرائيلي آفي ليئومي مؤسس شركة الطائرات المسيرة إيروناتيكس التي تعمل في قبرص، ورجل الموساد البارز ديفيد ميدان ممثل نتنياهو في صفقة تبادل الأسرى مع حماس في 2011، فهما يعملان اليوم مندوبين للصناعات الجوية الإسرائيلية في أبو ظبي.
وقد طفى على السطح فور توقيع الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي جدل إسرائيلي أمريكي عقب طلب أبو ظبي شراء طائرات إف35 أمريكية، مما أثار تحفظات إسرائيلية خشية المس بالمحافظة على تفوقها النوعي، رغم أن الاتفاق حسن قدرات إسرائيل على التعامل مع الملف النووي الإيراني، والتهديدات الأخرى التي تواجهها من المحور الراديكالي، وحتى لو تم بيع طائرات إف35 للإمارات، مع أسلحة متطورة، فإن خطرها، في حال انقلبت على إسرائيل لأي سبب كان، سيكون محدودا، لأن نسبة كبيرة من القادة الفعليين والمقاتلين ومشغلي أنظمة الأسلحة في قوات الإمارات من الأجانب، من الأمريكيين والأوروبيين والكولومبيين بأعداد كبيرة.
ليبيا وسيناء
مصلحة أخرى في التعاون الإماراتي الإسرائيلي يتعلق بنشاط سلاح الجو الإماراتي في سيناء لمساعدة السيسي في حربه ضد الجماعات المسلحة، وتقوم إسرائيل أيضا بمساعدته بتقديم المعلومات الأمنية ومهاجمة الطائرات المقاتلة، كما يساعد طيران الإمارات نظيره المصري في الحرب الليبية لمساعدة الجنرال حفتر الذي التقى ممثلوه مع نظرائه الإسرائيليين في وقت سابق.
مع مرور الوقت نشأ تحالف وثيق ربط الإمارات مع مصر السيسي، الذي يعتبر الإخوان المسلمين عدوا مريرا، ومع السعودية بمستوى أقل، ومع إسرائيل التي تجد نفسها في مواجهة مع حماس، الفرع الفلسطيني للإخوان المسلمين.
صحيح أن العلاقات المتنامية بين إسرائيل وأبو ظبي تشكل أحد دوافع تفاخر نتنياهو بين حين وآخر في قدرته على تحقيق اختراق في العالم العربي مع الدول المعتدلة، التي تعتبر الإمارات جزءا منها، بجانب السعودية والبحرين والمغرب ومصر والأردن، لكن جوهر العلاقات الثنائية تكمن في المجال الأمني والاستخباري وصفقات الأسلحة، وتحصل داخل الغرف المغلقة.
لقد جاء الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، شاملاً على العديد من البنود ذات الأبعاد الأمنية والعسكرية، التي تنص على التعاون الثنائي في هذه المجالات، وتعهدهما “باتخاذ تدابير مهمة لمنع استخدام أراضيهما لتنفيذ هجوم معاد يستهدف الطرف الآخر، وعدم دعم كل طرف أي عمليات معادية في أراضي الطرف الآخر، والتنسيق الأمني الثنائي، وتوثيق العلاقة الأمنية العسكرية”.
وزادت هذه النصوص المصاغة بدقة من الفرضيات المتعلقة بإمكانية الاستفادة الإسرائيلية من القواعد العسكرية الإماراتية في المنطقة، سواء في الخليج العربي، أو باب المندب، أو البحر الأحمر، وصولاً لأن تنشئ إسرائيل قاعدة عسكرية في الإمارات، فضلاً عن استفادتها من المياه الاماراتية، وإمكانية أن تمضي بهذا المسار لزيادة موطئ أقدامها في سوقطرى ومضيق باب المندب وجيبوتي.
إن فرضية إقامة قواعد عسكرية إسرائيلية في الخليج، أو استفادة إسرائيل من القواعد العسكرية الإماراتية، ليست سهلة، بل خطيرة جداً، لأنه بقدر ما قد تعطي هذه الاتفاقية أملاً لدول الخليج، والإمارات تحديداً، للدفاع عن نفسها أمام تهديد أي عدوان متوهّم من إيران، فإنها في الوقت ذاته تعرضها للخطر، لأن تحقق هذه الفرضية يعني أن إسرائيل يمكنها ضرب أهداف إيرانية في مياه الخليج، أو في قلب إيران ذاتها، ما سوف يقابله من استهداف إيراني لهذه القواعد الإسرائيلية في الخليج.
القواعد الاستراتيجية
إن الحديث الإسرائيلي عن إمكانية التواجد العسكري في قواعد إماراتية، أو إنشاء قواعد إسرائيلية في منطقة الخليج، ليس وليد اللحظة، ولأن مثل هذه الترتيبات تستغرق وقتاً طويلاً، فمن المؤكد أن الأمر سبق بحثه بين اسرائيل والإمارات وما يجري الآن هو الإعلان عنه فقط.
مع العلم أن إيران لن تقف صامتة على الخطوة الإماراتية- الإسرائيلية، لأن الوضع بمنطقة الخليج مرشح للتأزم، وإيران موجودة في كل مكان عبر الحرس الثوري أو خلاياها المسلحة النائمة، وذراعها الطويلة قد تشكل عامل استنزاف لهذه القواعد الإسرائيلية في الخليج.
ويبدو أن هذه المساعي الإسرائيلية الطموحة لها ما يبررها ويدعمها، لأسباب عدة، لعل أهمها أن تضع إسرائيل لنفسها موطئ قدم في منطقة مثل الخليج العربي، المهمة استراتيجياً ونفطياً وتجارياً، فضلاً عن كون تواجدها العسكري في هذه البقعة سيقربها جغرافياً من إيران، ما يداعب طموحها بمحاولة تشديد الحصار حولها وتضييق الخناق عليها.
الشواهد على التوجه الإسرائيلي عديدة، فقد كشف وزير الخارجية السابق يسرائيل كاتس، أن إسرائيل تشارك في تحالف عسكري تقوده الولايات المتحدة لحماية أمن الملاحة البحرية في الخليج، وتساهم في الجوانب الاستخباراتية، وغيرها من المجالات التي تمتلك فيها القدرات والتفوق النسبي، لأن أمن الملاحة البحرية في الخليج مصلحة إسرائيلية صرفة ضمن استراتيجية “كبح الخطر الإيراني”، وتعزيز العلاقة مع دول الخليج، وتتمثل هذه المشاركة الإسرائيلية بتأمين حركة الملاحة في باب المندب، وانتشار سفن حربية إسرائيلية مزودة بالصواريخ.
لقد بدا حجم الاهتمام الإسرائيلي بالاتفاق الإماراتي واضحاً، بعيداً عن الإنجاز السياسي والدبلوماسي، وبدأ يركز على الأبعاد الأمنية والعسكرية، فإسرائيل تعمل على هذه الأبعاد منذ سنوات طويلة، واليوم بعد الاتفاق العلني، ستصبح أيدي جهاز الموساد طليقة بصورة رسمية في دول الخليج، وبخاصة الإمارات، بما في ذلك التعاون الأمني والاستخباري، لمواجهة كل تهديد يحيط بإسرائيل، عبر التواجد العسكري الإسرائيلي في القواعد العسكرية الإماراتية، أو إقامة قواعد عسكرية إسرائيلية داخل الحدود الإماراتية.
كما أن إسرائيل تستهدف من وراء الاتفاق، الوصول للسيطرة على المضائق البحرية الأهم في المنطقة، التابعة الإمارات والسعودية، ما يعزز تمدد نفوذها العسكري والاستراتيجي، وكشفت وثيقة رسمية صادرة عن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية أن الاتفاق مع أبو ظبي يمهد لتكثيف التعاون العسكري بينهما في البحر الأحمر، لأن إسرائيل مهتمة بتوسيع التعاون الأمني في المنطقة، لتعزيز التحالف العسكري بينهما، بما فيه التحرك العسكري الإسرائيلي بكثافة، خاصة عبر دول منطقة القرن الإفريقي، وأبرزها إثيوبيا، لمنع تحول البحر الأحمر إلى بحيرة عربية أو إسلامية، وتسعى شركات الأسلحة الإسرائيلية جاهدة لزيادة صادراتها الدفاعية للإمارات.
وقد شاركت شركات التكنولوجيا الفائقة والإنترنت الإسرائيلية في فعاليات شهدتها دول الخليج على مدار العقد الماضي، لكنها الآن بعد الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي سيتم نشر أنشطتها علانية، بمن فيها الصناعات العسكرية، والشركات العاملة في مجالات الزراعة والمياه وتكنولوجيا الغذاء، مما يجعل من الاتفاق إنجازا حقيقيا بعوائد إماراتية ضخمة من ناحية، وتكلفته الإسرائيلية “صفر” من ناحية أخرى، لاسيما على صعيد الشركات السيبرانية: الدفاعية والهجومية، حيث تشرف شعبة مراقبة الصادرات الدفاعية (API) في وزارة الحرب على كل معاملة مع الإمارات وسواها من دول الخليج.
سوقطرى واليمن
بالتزامن مع توقيع الاتفاق، أعلن مايك بومبيو وزير الخارجيّة الأمريكي أنّ الإمارات وإسرائيل اتّفقتا على بناء تحالف أمني وعسكري ضدّ إيران لحِماية المصالح الأمريكيّة والشرق الأوسط، وزيادة التعاون الأمني والاستخباري لمواجهة ما سماه “الإرهاب”.
فضلا عما تقدم، فإن العين الإسرائيلية لم تغفل استهداف اليمن، فهو ملف مطروح منذ سنوات، لأنه بوابتها للسيطرة على مضيق باب المندب، وتشارك هذه الرغبة مع السعودية والإمارات وإيران، كما تستهدف إسرائيل من ذلك تضييق الخناق على المقاومة الفلسطينية لتمنع عنها السلاح الذي يصلها من إيران عبر البحر الأحمر وصولاً الى سيناء، ثم قطاع غزة، مما يؤكد أن أهم بنود الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي تلك المتعلقة بالعلاقات الأمنية والعسكرية، وعمل إسرائيل على استغلاله لزيادة نفوذها بمنطقة الخليج.
وفي ظل مساعي الإمارات للسيطرة في الخليج بدعم الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن هناك عملا إسرائيليا إماراتيا مشتركا في اليمن لإنشاء قواعد عسكرية، ومناطق نفوذ مشتركة، وبخاصة إنشاء قاعدة عسكرية في جزيرة سوقطرى، مما يجعل من إسرائيل قوة متنفذة، خاصة إذا تمكنت من مضيق باب المندب، الذي يمثل شريان حياة مهم بالنسبة لدول حوض البحر الأحمر، والتجارة الدولية من آسيا إلى الشرق الأوسط، لاسيما مع انتشار قواعد أمريكية في منطقة الخليج، والتنسيق الإسرائيلي مع الجيش الأمريكي سيجعلها قادرة على تنفيذ أي عمل عسكري، إن أرادت.
ما يؤكد هذه الأطماع الإسرائيلية المتعلقة باتفاقها الأخير مع الإمارات، إعلان الترحيب الإسرائيلي مؤخراً بتأسيس قاعدة عسكرية إماراتية في جزيرة سوقطرى وأرخبيلها، لأنها تتحكم بشكل كامل بالخط الذي يمر من الهند إلى الغرب، وتتوغل في إفريقيا، مما شكل لإسرائيل موقعاً استراتيجياً.
وقد شهدت وسائل الإعلام ومراكز البحوث الإسرائيلية تغطية لافتة لجزيرة سوقطرى، ومدى أهميتها لإسرائيل، ولذلك باتت تستحوذ اليوم على اهتمام وانتباه المنظومة الأمنية الإسرائيلية بسبب الأحداث الأمنية والعسكرية الدائرة حولها، لأنها تهيمن على ممرات الشحن من وإلى البحر الأحمر، ولها أهمية استراتيجية هائلة تحظى بمراقبة كثيفة من أجهزة الأمن الإسرائيلية، التي تابعت ما حصل فيها قبل عدة أشهر، حين سيطر عليها عدة مئات من مقاتلي الحركة الانفصالية في جنوب اليمن، والإعلان عن إنشاء “حكم ذاتي”، حيث تقف الإمارات وراء هذه الخطوة، وهي المشرفة على تدريب القوات الانفصالية.
يبدي الإسرائيليون ارتياحا لما تقوم به الإمارات في هذه الجزيرة، من حيث إنشاء مواقع عسكرية، وصب الأموال للحصول على دعم السكان، في خطوة لا تخفي أهدافها الحقيقية المتمثلة بالتصدي لتزايد النفوذ التركي الذي يقوده الرئيس رجب طيب أردوغان، في هذه الجزيرة، مع أن الإمارات وتركيا دخلتا منذ فترة طويلة في مواجهة أمامية عنيفة في ليبيا والصومال، حيث تراقب إسرائيل ما تخوضه الإمارات والسعودية من سلسلة عمليات ميدانية لمحاصرة القاطرات التي تمول العمليات العسكرية التركية.
من المؤكد أن إسرائيل سعيدة بهذه الجهود الإماراتية لمنع الهيمنة الإيرانية على طريق الشحن البحري إلى إيلات، وهي على استعداد لتقديم المساعدة بالمعدات العسكرية لجانب واحد في الحروب التي لا نهاية لها في اليمن، مع أن المساعدة الإسرائيلية لأطراف الحرب في اليمن اليوم في القرن الحادي والعشرين، هي امتداد لما قامت به في حقبة الستينيات من القرن العشرين، حين اعتاد سلاح الجو الإسرائيلي على إسقاط الإمدادات إلى المقاتلين القبليين، ممن شكل أبناؤهم وأحفادهم العمود الفقري للحوثيين، وحلفاء إيران المقربين، لأن الهدف الرئيسي لإسرائيل يتمثل بألا تقع سوقطرى في أيدي معادية لها.
فيما يشكل مضيق باب المندب إحدى أهم نقاط العبور البحري التي تستخدمها حاملات النفط في العالم، فمن يصل لهذه المنطقة، ويسيطر عليها، يضع يده على أحد أهم الممرات المائية الدولي في العالم، وفور إعلان الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، كشفت الأخيرة عن علاقات إسرائيلية سرية مع المجلس الانتقالي باليمن، التابع للإمارات، وتمهيداً لإقامة قاعدة تجسس إسرائيلية في هذه المنطقة الحساسة.
وبالتالي فإنه مع توقيع اتفاقية السلام مع الإمارات، تفتح إسرائيل نهجا من النوع الذي لم تشهده من قبل في البحر الأحمر، لأنه منذ فترة طويلة تبحر سفن البحرية الإسرائيلية مسافات طويلة تصل ألف كيلومتر قبالة سواحلها لحماية سفن الشحن الخاصة بها، ومنع تهريب الأسلحة الإيرانية عبر البحر الأحمر.
ورغم أن اليمن بلد منكوبة، وتشهد حربا أهلية، لكنها على مر السنين انضمت للحلقة المفرغة التي تسعى إيران من خلالها لمحاصرة إسرائيل، ولذلك فقد تلقى اتفاق إسرائيل والإمارات منعطفًا خاصًا في الأيام الأخيرة، بعد تخطيطهما لإنشاء قواعد تجسس مشتركة في جزيرة سقطرى، على بعد 350 كيلومترًا من الساحل اليمني، لجمع معلومات عن حركة الملاحة البحرية في خليج عدن والقرن الأفريقي ومصر، ومتابعة تحركات إيران في المجال البحري، وأنشطة الحوثيين في اليمن، وصولا لشواطئ باكستان
تضرر السويس
على الجانب الاقتصادي، من المتوقع أن يترك الاتفاق بين الإمارات وإسرائيل آثاره السلبية على حركة المرور عبر قناة السويس المصرية، لأن أحد المخرجات الفورية للتطبيع هو اتفاقية موقعة بين شركة “موانئ دبي” العالمية، وشركة دوفر تاور الإسرائيلية لتطوير الموانئ والمناطق الحرة، وفتح خط شحن مباشر بين ميناء إيلات المطل على البحر الأحمر وجبل علي في دبي، تمهيدا لبناء خطوط تجارية بينهما مع دول أخرى، لتسهيل الأعمال التجارية في المنطقة وتحسينها، عبر إقامة مشروع مشترك لميناء حيفا.
ولأن معظم صادرات دول الخليج منتجات بترولية، فإن خط ملاحي يربط بين ميناء إيلات في البحر الأحمر وميناء عسقلان في البحر المتوسط من شأنه أن يخلق منافسة لمصر بنقل النفط من الخليج إلى أوروبا، دون الحاجة للمرور عبر قناة السويس، وهو تحدّ حقيقي، لأن 17 بالمئة من عائدات القناة تأتي من ناقلات النفط.
كما أن الخط الحديدي الذي يربط بين ميناء إيلات على البحر الأحمر وميناء أسدود على البحر المتوسط يُنظر إليه على أنه ميناء محوري داخلي، وبموجب اتفاقية التطبيع الإماراتية الإسرائيلية، سيمتد هذا الخط الحديدي شرقا لدول الخليج العربي عبر الأردن، لنقل البضائع القادمة من أوروبا والولايات المتحدة عبر إسرائيل، دون الحاجة للمرور عبر قناة السويس، وهذا سيكون التحدي الثاني للقناة.
التحدي الثالث أن إسرائيل أصبحت منافسا قويا لمصر بتصدير الغاز، وقبل تصديره لجأت إليها من أجل تسييله، ولكن مع اتفاق الإمارات، سيتم بناء مصانع تسييل في إسرائيل لتصدير الغاز لأوروبا، مما سيزيد تضارب المصالح بين ميناء جبل علي وميناء العين السخنة المصري، وكلاهما يخضع لشركة “موانئ دبي”.
كل ذلك يؤكد أن اتفاقية الشراكة بين الإمارات وإسرائيل ستؤثر سلبا على الملاحة بقناة السويس، وتداول البضائع في العين السخنة، وهذا سيناريو معقول ما لم تحاول مصر مناقشة موقفها مع شركة موانئ دبي العالمية، وأن تلعب المصالح الاقتصادية المشتركة، وبطاقات المنفعة المتبادلة في الاقتراب من الإمارات، خشية أن تفقد قناة السويس وميناء العين السخنة قدرتهما على المنافسة، مع أن الإمارات من بين أكبر خمس دول مستوردة للبضائع المصرية، لكن إسرائيل تسعى دائما لتعظيم مكاسبها على حساب الآخرين.
على الصعيد السياسي، جاءت تغطية الإعلام المصري “الرسمي” إزاء إعلان قرار التطبيع بين الإمارات وإسرائيل خافتة بشكل ملحوظ، ورأى البعض أن ردة الفعل الباردة تجاه القرار جاءت بناء على توجيهات أمنية، حيث بدا النظام المصري خائفاً من أن تسحب الإمارات البساط من تحت أقدامه باتفاقها مع إسرائيل، في وقت دأب فيه على تسويق نفسه وكيلاً لإسرائيل والغرب في المنطقة.
سرقة التاج الإسرائيلي
توقف الإسرائيليون أمام هذا كثيراً، ولاحظوا القلق المصري من أن تفوز أبوظبي بمكانة متقدمة لدى تل أبيب أكثر من التي يحتلها نظام السيسي حالياً، وعبروا عن ذلك في أكثر من مناسبة، وفيما كشف إسحاق ليفانون، السفير السابق في مصر، عن خشية القاهرة من فوز أبوظبي بمكانة متقدمة في تل أبيب أكثر منها، فقد زعم المستشرق تسفي بارئيل أن السيسي يخشى أن يسرق بن زايد التاج الإسرائيلي منه، بحيث ينتقل مركز الاهتمام الإقليمي من القاهرة لأبوظبي، وأكد معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى أن السيسي قلق من اتفاق الإمارات، خشية إبعاده كمُحاور أساسي مع إسرائيل.
هذا السلوك المصري يطرح تساؤلات هامة حول مخاوف السيسي الحقيقية من اتفاق التطبيع بين ابن زايد ونتنياهو، وما خيارات إسرائيل تجاه المفاضلة بينهما، إن وُجدت، وما المساحات التي قد تهيمن فيها أبوظبي لدى تل أبيب على حساب القاهرة، وهل تملك الإمارات شيئاً لإسرائيل يقرّب بينهما على حساب مصر، أم يدفع التنافس بينهما إلى أن تقدم مصر تنازلات أكبر لإسرائيل، وما هي؟
ليس خافيا على المصريين أن الإمارات تسعى باتفاقها مع إسرائيل للاستحواذ على تطورات المنطقة، فهي تسيطر على الساحة اليمنية، وتسعى لمقاسمة مصر النفوذ في ليبيا، مع أن إسرائيل تفضل التأثير الاقتصادي الإماراتي الذي يفرض حضورها أكثر من مصر، مما قد يعيد تموضع أبو ظبي في الساحة الفلسطينية، وقد تشرع بتنسيق إسرائيلي بضخ أموالها ومساعداتها الاقتصادية في غزة، لزيادة تأثيرها ونفوذها عبر حليفها محمد دحلان.
لكن الحقيقة الماثلة أن مصر، ورغم ترحيبها بالاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، تخشى من تراجع دورها الوظيفي، وخسارة كل الساحات لحساب الإمارات، وفيما تتخوف مصر أن تلعب إسرائيل دوراً معادياً لها في ملف سد النهضة مع إثيوبيا، فقد زاد قلقها مع تراجع نفوذها بخاصرتها الجنوبية في السودان لصالح التأثير الإماراتي المتنامي هناك، وهناك خشية أن تقدم مصر تنازلات خطيرة لإسرائيل للحفاظ على دورها الإقليمي بإعادة طرح المخططات الإسرائيلية في سيناء، وتمددها بقطاع غزة، لحل المشكلة الأمنية الإسرائيلية.
كما ظهرت مخاوف مصرية جديدة جراء الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، قد تتسبب بأزمة من نوع آخر للقاهرة، بسبب الانفتاح الكبير في علاقات تل أبيب وأبوظبي، وتحوّل الإمارات لمركز إقليمي للشركات الإسرائيلية وجهاز الموساد، مما يمثل خطراً على الأمن المصري، نظراً لوجود مليون مصري يعملون في الإمارات، لأن الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي سيحول الأخيرة لمسرح عمليات استخباراتية جديد للموساد، مما دفع لإجراء مشاورات داخل المخابرات المصرية لاستحداث إدارة معنية بالتواجد الإسرائيلي في الخليج لمتابعة أنشطتها التي قد تستهدف أو تمس بمصالح القاهرة.
خاتمة
يمكن الحديث ابتداء أن هناك جملة من المصالح الأمنية والعسكرية والاستراتيجية، بعيدة المدى، التي حصلت عليها إسرائيل من اتفاقها التطبيعي مع الإمارات والبحرين، بما يتجاوز المكاسب الاقتصادية والتجارية، على أهميتها، مما كان يتطلب، بنظر المدافعين عن إبقاء جوانب عديدة منها طي الكتمان والسرية، عدم الكشف عنها، والبوح بها، الأمر الذي قد يضر بهما معا، إسرائيل والإمارات، ودولا أخرى، على حد سواء.
رابط المصدر: