البحث عن معادلة تعايش جديدة: استقالة لوكورنو وآفاق الأزمة السياسية في فرنسا

  • شكَّلت الاستقالة المفاجئة لرئيس الوزراء الفرنسي، سبستيان لوكورنو، عقب ساعات من الإعلان عن تشكيل حكومته الجديدة، هزةً كبرى في المشهد السياسي الفرنسي.
  • مع أن لوكورنو ينتمي في الأصل لليمين الجمهوري، إلا أن الأمل كان قائماً على قدرته على تشكيل تحالف واسع من القوى السياسية الفرنسية، لكن مساعيه اصطدمت بحقيقة تجزُّؤ الحياة السياسية وصعوبة الحصول على توافقات داخلها.
  • باستقالة لوكورنو، بات المشهد السياسي الفرنسي مفتوحاً أمام سيناريوهات متباينة تتأرجح بين استقالة رئيس الجمهورية وحلّ البرلمان وتشكيل حكومة تكنوقراطية جديدة أو تشكيل حكومة ائتلاف سياسي واسع. 
  • في ضوء المعطيات الراهنة، يبدو سيناريو حل البرلمان أقرب للتحقق، وفي حال فشله لا يبقى أمام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلا الاستقالة والخروج النهائي من المشهد السياسي.

 

بعد 27 يوم من تعيينه على رأس الحكومة في فرنسا، قدَّم سبستيان لوكورنو، في 6 أكتوبر الجاري، استقالته للرئيس إيمانويل ماكرون، بعد تعيينه لحكومة جديدة لم تُعمِّر سوى 14 ساعة. هذه الحادثة غير المسبوقة في المشهد السياسي الفرنسي أحدثت هزة كبرى في ثاني أهم اقتصاد أوروبي والدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن، والمسلحة نووياً.

 

خلفيات الأزمة السياسية الجديدة في فرنسا

عندما اختار الرئيس ماكرون الوجه السياسي المعتدل سبستيان لوكورنو في 9 سبتمبر 2025 وزيراً أول، كلّفه بثلاث مهام أساسية هي: تشكيل حكومة قادرة على تمرير واعتماد ميزانية وطنية، والحصول على تسوية توافقية مع أهم الفرقاء السياسيين من أجل بناء أغلبية برلمانية داعمة للعمل الحكومي، وتحقيق الاستقرار المؤسسي للبلاد بعد حقبة طويلة من الاحتقان والتذبذب.

 

ومع أن لوكورنو ينتمي في الأصل لليمين الجمهوري، إلا أن الأمل كان قائماً على قدرته على تشكيل تحالف واسع من القوى السياسية، يضم من التيار الديغولي (حزب الجمهوريين) إلى الحزب الاشتراكي، بالإضافة إلى أحزاب الوسط القريبة من الرئيس ماكرون (حزب النهضة، والحركة الديمقراطية وآفاق واتحاد الديمقراطيين المستقلين). غير أن محاولة لوكورنو اصطدمت بحقيقة تجزُّؤ الحياة السياسية وصعوبة الحصول على توافقات داخلها.

 

بخصوص حزب الجمهوريين (62 نائباً)، لوحظ أن هذا الحزب الديغولي العريق قد تراجع جذرياً، وهو اليوم يتوزع إلى ثلاث تيارات: تيار اريك سيوتي الذي كان رئيس حزب الجمهوريين وهو تيار قريب من اليسار المتطرف وله حاليا 16 نائباً في البرلمان وقد طُرد من حزب الجمهوريين، وتيار وزير الداخلية المستقيل برونو راتايو الذي تولى رئاسة حزب الجمهوريين في مايو 2025 وهو يمثل الاتجاه المحافظ والقومي داخل الحزب، وتيار الوزير السابق لوران فاكيي الذي يمثل الجناح الليبرالي البراغماتي داخل الحزب وقد فشل في المنافسة على رئاسته.

 

شكلت الاستقالة المفاجئة لرئيس الوزراء الفرنسي، سبستيان لوكورنو، هزةً كبرى في المشهد السياسي الفرنسي (أ.ف.ب)

 

ومع أن لوكورنو حرص على منح الجمهوريين مراكز أساسية في حكومته، في مقدمتها وزارة الداخلية التي احتفظ بها راتايو، إلا أن استقالته المفاجئة كان سببها الرئيس اعتراض راتايو نفسه على تعيين الوجه اليميني المستقيل من الحزب برونو لمير على رأس وزارة الدفاع (الجيوش) دون التشاور معه.

 

أما أحزاب الوسط التي كانت في السابق عمود ارتكاز نظام ماكرون فقد أظهرت امتعاضها من قراراته الأخيرة، مثل حل البرلمان السنة الماضية وتعيين رؤساء حكومة غير قادرين على تشكيل تحالفات سياسية واسعة. وعكست التصريحات الأخيرة لقادة هذه الأحزاب هذا الموقف؛ ففي حين دعا رئيس الوزراء الأسبق، إدوارد فيليب، رئيس حزب “آفاق”، إلى استقالة رئيس الجمهورية بعد تعيين وزير أول وضبط ميزانية عمومية للدولة، اعتبر غابرييل أتال، رئيس الحكومة الأسبق والأمين العام لحزب النهضة، أنه أصبح عاجزاً عن فهم قرارات ماكرون، أما رئيس الوزراء السابق فرنسوا بايرو، رئيس الحركة الديمقراطية، فقد قرر الخروج من دائرة السلطة بعد فشله في الحصول على الثقة البرلمانية.

 

ومع أن الحزب الاشتراكي (68 نائباً بمن فيهم شركاؤه) قد عبَّر عن استعداده لتشكيل حكومة جديدة، إلا أنه سلك طريقاً مختلفةً عن باقي مكونات “الجبهة الشعبية الجديدة” (فرنسا الأبية، والخضر والحزب الشيوعي….) التي حصلت في انتخابات 2024 على 193 مقعداً برلمانياً. وقد أضعف تفكك الجبهة اليسار الفرنسي، الذي فشل في اعتماد موقف مشترك من الأزمة السياسية القائمة.

 

ردود الفعل على استقالة لوكورنو

مباشرة بعد استقالته، طلب الرئيس ماكرون من لوكورنو القيام باتصالات شاملة مع القوى السياسية بمختلف مكوناتها، من أجل الوصول إلى أرضية استقرار سياسي واجتماعي تُجنِّب البلاد الفوضى والتفكك.

 

عبَّر اليمين الجمهوري عن استعداده الدخول في مفاوضات جديدة مع رئيس الوزراء المستقيل بغية الحصول على تركيبة وزارية قادرة على الاستمرار والحصول على ثقة برلمانية دنيا. أما الحزب الاشتراكي فقد طالب بتحميله مسؤولية تشكيل الحكومة المقبلة، مدَّعياً القدرة على تحقيق الانفتاح المنشود على التشكيلات الأخرى، وبصفة خاصة تيار الوسط واليسار المعتدل. غير أن الطرفين لا يبدوان قادرين على الوفاء بتعهداتهما. وتميّز موقفا اليمين المتطرف (التجمع الوطني) واليسار الراديكالي (فرنسا الأبية) في إجماعهما على مطالبة الرئيس ماكرون بالاستقالة أو التنحية بواسطة البرلمان ،مع اقتراح حل جديد للبرلمان بغية الوصول إلى أغلبية برلمانية قادرة على ضمان الاستقرار السياسي.

 

في ضوء المعلومات المتاحة، لا يبدو أن الوزير الأول المستقيل قادر في الوقت الممنوح له (48 ساعة) على النجاح في مهمته، بل يبدو أن الساحة السياسية تشهد غلياناً غير مسبوق، مفتوحة على احتمالات شتى متباينة.

 

قد يضطر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الاستقالة في حال استمرت الأزمة السياسية القائمة (أ.ف.ب)

 

آفاق الأزمة السياسية في فرنسا

يمكن استجلاء 4 سيناريوهات متباينة في استكناه المستقبل السياسي في فرنسا:

 

1) سيناريو حكومة الائتلاف الواسع برئاسة شخصية مستقلة من المجتمع المدني، وصولاً إلى اللحظة الانتخابية الرئاسية المقررة سنة 2027. هذه الرؤية تتبناها أحزاب الوسط الداعمة للرئيس ماكرون وبعض السياسيين المستقلين، لكن تحقيق هذه الصفقة الواسعة يبدو صعب المنال في الوقت الحالي، بالنظر إلى حدة الاستقطاب داخل الحقل السياسي وتباعد المواقف والمواقع ضمنه.

 

2) سيناريو الحكومة التكنوقراطية التي لا تضم أي وجوه سياسية، على أن تحصر مهمتها في ضبط الميزانية العمومية وتسيير الشؤون اليومية، والإشراف على الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. ولا يبدو أن الرئيس ماكرون متحمس لهذا السيناريو الذي سيُفقِده التأثير الكلي في دائرة القرار.

 

3) سيناريو حل البرلمان مرة ثانية، بعد مرور أكثر من سنة على الانتخابات التشريعية. ومع أن الدستور القائم يمنح رئيس الجمهورية هذه الصلاحية، إلا أن مختلف التوقعات تؤكد تراجُع الأطراف السياسية الداعمة له في أي استحقاقات انتخابية مقبلة مع تقدّم اليمين المتطرف وإن كان من غير الراجح أن يحصل على أغلبية مطلقة في البرلمان، ومن ثمّ فإن الأزمة الراهنة ستتواصل في المدى المنظور، بل ستزداد تعقيداً وخطورة.

 

4) سيناريو استقالة رئيس الجمهورية التي هي الخيار الأقصى المتاح له. ومع أن ماكرون أعلن عدة مرات أنه باق في وظيفته إلى نهاية ولايته سنة 2027، إلا أنه قد يضطر إلى الاستقالة في حال استمرار الأزمة السياسية والفشل في إخراج البلاد من محنتها الحالية.

 

وفق هذا التحليل، يبدو أن الخيار الأرجح هو حل البرلمان للمرة الثانية لكسب بعض الوقت الإضافي، والرهان على إمكانية قيام معادلة تعايش جديدة بين رئيس جمهورية من الوسط وحكومة من اليمين وأقصى اليمين. وفي حال فشل هذا السيناريو يتعزز مشهد استقالة رئيس الجمهورية وتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة في فرنسا.

 

الخلاصة

شكلت الاستقالة المفاجئة لرئيس الوزراء الفرنسي سبستيان لوكورنو، عقب ساعات من تشكيل حكومته، هزةً كبرى في المشهد السياسي الفرنسي، عاكسةً أزمة نظام سياسي حادة، بما يفتح الطريق أمام سيناريوهات متباينة تتأرجح بين استقالة رئيس الجمهورية وحلّ البرلمان وتشكيل حكومة تكنوقراطية جديدة أو تشكيل حكومة ائتلاف سياسي واسع. وفي ضوء المعطيات الراهنة، يبدو أن مشهد حل البرلمان أصبح راجحاً، وفي حال فشله لا يبقى أمام رئيس الجمهورية إلا الاستقالة والخروج النهائي من المشهد السياسي.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M