التوجُّه العسكري الإسرائيلي المتنامي لنزع سلاح «حزب الله» اللبناني: هل اقتربت لحظة الانفجار؟

  • وصلت جهود الدولة اللبنانية لنزع سلاح حزب الله إلى طريق مسدود، مع مواصلة الحزب التشبّث بسلاحه بل إعادة ترميم قدراته العسكرية، وتردد الجيش اللبناني في التقدم نحو مرحلة تفكيك قدرات حزب الله العسكرية شمال الليطاني خشية تفجير نزاع داخلي واسع، وتصاعد الضغوط الإقليمية والدولية على بيروت لحصر السلاح بيد الدولة.
  • تزايدت التحذيرات الإقليمية والدولية إلى بيروت من احتمال شن إسرائيل عملية عسكرية واسعة تهدف إلى تفكيك البنية العسكرية لحزب الله، وقطع شرايين الإمداد السورية، وفرض منطقة عازلة في جنوب لبنان خالية من عناصره. ومن المتوقع أن تقترن العملية العسكرية بعمليات تهجير واسعة للمدنيين في الجنوب والبقاع وربما الضاحية الجنوبية، بما يُعيد تشكيل البيئة الشيعية ويفرض ضغطاً اجتماعياً على قيادة الحزب.
  • في حال اندلاع حرب إسرائيلية شاملة ضد لبنان، ستسعى دمشق إلى استثمار الظرف لإعادة فرض دورها الحدودي، ومنع مرور الإمدادات إلى حزب الله، والجلوس لاحقاً على طاولة الترتيبات الأمنية. أما إيران فيُتوقع أن تعتمد استراتيجية “الدعم الموزّع” عبر الضغط السياسي غير المباشر، وتسهيل حدّ معيّن من الإمداد عبر سورية، وتشجيع الحوثيين على التصعيد، مع ضبط الفصائل العراقية لمنع توسع المواجهة بما يضرّ مصالحها.

 

وصلت جهودُ الدولة اللبنانية لنزع سلاح حزب الله إلى طريق مسدود، وسط محاولات خجولة في المجال الدبلوماسي لشراء الوقت وتأجيل الحرب. وفي المقابل، يرفض حزب الله التخلي عن ترسانته من دون انسحاب إسرائيلي كامل والتوصل إلى استراتيجية دفاعية وطنية، ما يحصر مسار نزع السلاح أكثر فأكثر في خندق الحرب.

 

تستعرض الورقة مأزق الدولة في نزع سلاح حزب الله، وتصاعد التحذيرات والضغوط الخارجية على الدولة اللبنانية، وتناقش سيناريو العملية الإسرائيلية الشاملة التي تتضمن اجتياحاً برياً وتداعياته، إلى جانب الدور السوري المحتمل وحسابات إيران ومصير السلاح.

 

مأزق الدولة اللبنانية في نزع سلاح حزب الله

نفّذ الجيش اللبناني عمليات لضبط ومصادرة أسلحة حزب الله في الجنوب بعد “حرب الإسناد” عام 2024، ويُخطط لإعلان جنوب لبنان خالياً من سلاح الحزب بحلول نهاية 2025، إلا أنه يتجنّب الذهاب بعيداً وإعلان مرحلة نزع السلاح شمال الليطاني وتفكيك منظومة حزب الله العسكرية والأمني خشية حدوث مواجهة مباشرة مع الحزب قد تفجر نزاعاً داخلياً. هذا الجمود أضرّ بمصداقية الدولة، فيما ينتظر المجتمع الدولي أن تعترف الحكومة اللبنانية بانعدام قدرتها على نزع سلاح الحزب، كشرط لتحمّل المسؤولية الدولية في إنهاء هذا الملف.

 

في غضون ذلك، تستمر إسرائيل بانتهاكاتها لاتفاق وقف إطلاق النار المبرم في 27 نوفمبر 2024، واعتداءاتها عبر الحدود بحجة منع إعادة تسليح الحزب. وقد اتهم المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي نداف شوشاني حزب الله بالسعي إلى إعادة بناء قدراته القتالية في جنوب لبنان بما يهدد أمن إسرائيل ويعرّض اتفاق وقف إطلاق النار للخطر. وعلى رغم تأكيد حزب الله التزامه بالهدنة وعدم إطلاقه النار منذ سريانها، ترى إسرائيل أن الحزب يُماطل، ما يوفر لها الذريعة من أجل خرق اتفاق وقف إطلاق النار بشكل يومي. وهكذا، تجد الدولة اللبنانية نفسها متهمة إسرائيلياً بأنها مجرد واجهة لتأجيل استحقاق نزع السلاح، بينما الحزب يستغل هشاشة الدولة لإعادة بناء قدراته العسكرية والتسلّح سراً.

 

ينتظر المجتمع الدولي أن تعترف الحكومة اللبنانية بانعدام قدرتها على نزع سلاح حزب الله، كشرط لتحمّل المسؤولية الدولية في إنهاء هذا الملف (أ.ف.ب)

 

وفي تحرك لبناني رسمي خجول، عيّنت رئاسة الجمهورية اللبنانية السفير السابق بواشنطن، سيمون كرم، رئيساً مدنياً للوفد اللبناني في لجنة “الميكانيزم” (المعنية بمتابعة تطبيق اتفاق وقف الأعمال العدائية بين لبنان وإسرائيل)، للدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل التي عيّنت بدورها المدير الأول للسياسة الخارجية في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي أوري ريسنيك، في خطوة تعكس انتقال المسار التفاوضي إلى طابع سياسي غير أمني. وانعقدت الجولة الأولى من المفاوضات برعاية أمريكية في مقر قوات “اليونيفيل” في منطقة الناقورة جنوب لبنان في 3 ديسمبر 2025، وسط ضغوط أمريكية وعربية متزايدة دفعت بالرئيس جوزاف عون إلى الموافقة على الانخراط فيها، درءاً للتهديدات الإسرائيلية المتصاعدة.

 

تؤشر خطوة الرئيس اللبناني إلى حرصه على ألا يخرج الملف اللبناني كاملاً من لبنان، ويتحول التفاوض بشأنه إلى مسار إقليمي دولي. غير أن انطلاق مسار التفاوض اللبناني-الإسرائيلي تحت مظلة “الميكانيزم” لا يعكس حتى الآن تحوّلاً استراتيجياً، بل يُنظر إليه على نطاق واسع بوصفه خطوة تكتيكية تهدف إلى كسب الوقت، لاسيما من قبل حزب الله، استعداداً لمواجهة محتملة. فمن حيث الشكل، ليست هي المرة الأولى التي يضم فيها الوفد اللبناني المفاوض لإسرائيل شخصيات مدنية، إذ سبق أن حصل ذلك في خلال المفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية بين البلدين. ومن حيث المضمون، لا يزال جدول أعمال المفاوضات منحصراً في ملف الأسرى اللبنانيين لدى إسرائيل واستمرار الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان واحتلال إسرائيل للتلال الخمس جنوب لبنان، إلى جانب مسألة تفكيك سلاح حزب الله التي تُعد الملف الأبرز في هذا السياق.

 

ويصعب الحديث عن بدء مفاوضات سلام فعلية بين لبنان وإسرائيل، لاسيما أن القرار المرتبط بسلاح حزب الله ليس في بيروت بل في طهران. وعليه، تبدو الخطوة، إلى جانب استمرار الجيش اللبناني في خطته الرامية إلى تفكيك ترسانة حزب الله جنوب نهر الليطاني، بمنزلة رسالة ترغب الدولة اللبنانية في إيصالها إلى المجتمع الدولي مفادها أنها مُستعدّة للانخراط في المسار الأمريكي للسلام وإنهاء حالة الصراع، وإن كانت لا تملك مفاتيح نزع سلاح حزب الله.

 

تصاعد التحذيرات والضغوط الدبلوماسية الخارجية

مع تفاقم المأزق الداخلي، ارتفعت نبرة التحذير الدولي والإقليمي حيال لبنان بشكل غير مسبوق. وقد حمل وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي إلى بيروت رسالةً صارمة مفادها أن صبر العالم بدأ ينفد؛ فقد أبلغ مسؤولين لبنانيين أن عليهم إثبات أن الدولة هي صاحبة قرار الحرب والسلم دون هيمنة حزب الله في خلال أسابيع، وإلا فإن لبنان مهدّدٌ بهجوم إسرائيلي جديد. وأكد عبدالعاطي في لقاءاته أن الخوف على لبنان كبير والوضع قد يتدهور سريعاً، مُطالباً بثلاث خطوات عاجلة: سحب كامل لسلاح حزب الله جنوب نهر الليطاني؛ والبدء بنزع سلاحه شمال الليطاني تدريجياً؛ إضافة إلى الانخراط في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل برعاية دولية. ولم يُخْفِ الوزير المصري فحوى الرسائل الإسرائيلية التي يحملها، والتي تشمل التهديد ليس بشن “هجوم جوي ضد لبنان، بل أيضاً عملية برية واستهداف مئات الأهداف”. وبهذا أوصلت القاهرة تحذيراً واضحاً بأن الحرب المقبلة ستكون أشد قسوة من حرب 2024 من حيث نطاق العمليات والسعي لعزل البيئة الحاضنة للحزب.

 

وما اقتصرت التحذيرات إلى البنان على القاهرة. فالمبعوث الأمريكي توم براك وجّه إنذاراً إلى العراق، مُحذّراً الحكومة العراقية من تدخل الفصائل الولائية المدعومة من إيران إلى جانب حزب الله في أي مواجهة مقبلة. ونقل براك رسالة صارمة مفادها أن العمليات الإسرائيلية في لبنان ستستمر حتى نزع سلاح حزب الله بالكامل، وأن أي تحرك عراقي لدعم الحزب قد يدفع إسرائيل إلى قصف الأراضي العراقية. هذا التحذير ترافق مع معلومات استخبارية إسرائيلية عن تزايد التهديدات من العراق، حيث تعمل إيران على بناء بنية تحتية عسكرية هناك لاستهداف إسرائيل عند صدور الأوامر. وبالتوازي، كثّفت واشنطن إشاراتها بأن لبنان بات “دولةً تحت المراقبة”، وأن استمرار الدعم المالي والعسكري مشروط بخطوات ملموسة لكبح نفوذ حزب الله. وأوضح مسؤولون أمريكيون أنه مع مرور عام على وقف النار، فإن على الدولة “إما أن تتحرك بحزم ضد حزب الله، أو تقبل بالعزلة المتزايدة وخطر تجدد الحرب على أراضيها”. وحتى حلفاء لبنان التقليديين بدؤوا بتغيير لهجتهم، فمصر نفسها شددت على أن أي إصلاح اقتصادي أو سياسي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة سلاح حزب الله، وفق ما نقله الوزير عبدالعاطي إلى البنانيين.

 

تمضي إسرائيل في محاولاتها لدفع البيئة الحاضنة لحزب الله إلى الابتعاد سياسياً واجتماعياً عن الحزب، كما في حادثة اغتيال رئيس أركان الحزب، هيثم الطبطبائي (أ.ف.ب)

 

الخيار العسكري.. طريق حاسم نحو هدف نزع سلاح الحزب؟

في ظل هذا التصعيد الكلامي، يبقى الخيار العسكري الإسرائيلي حاضراً بوصفه “حلاً أخيراً” إذا فشلت الضغوط الدبلوماسية. تمتلك إسرائيل تفوقاً جوياً ساحقاً، وجرى الحديث عن احتمال شن عملية جوية واسعة النطاق ضد حزب الله. لكن التجارب والمقاربات الاستراتيجية تشير إلى أن الضربات الجوية وحدها لن تقضي على حزب الله بالكامل. وبالفعل، بعد حرب 2024، خرج الحزب مُنهكاً لكنّه لم يُستَئصَل، إذ احتفظ الحزب بنفوذه ضمن طائفته وبقدرته على تجنيد المزيد من العناصر وتعويض بعض خسائره بعد وقف إطلاق النار. وتعترف إسرائيل نفسها أن الغارات وحدها لن تحسم المواجهة. فوزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس وغيره من المسؤولين كرروا أن القصف الجوي غير كافٍ لتدمير قدرات حزب الله، في إقرار ضمني بأن التفوق الجوي على رغم أهميته غير كافٍ.

 

يرى مراقبون ومحللون كثيرون في تل أبيب وواشنطن، أن الاجتياح البري الواسع هو السبيل الوحيد لحسم مسألة حزب الله بشكل نهائي. فالعمليات البرية تسمح للجیش الإسرائيلي بالتمركز ميدانياً في معاقل الحزب، وتدمير مخازن الأسلحة المخفية والأنفاق ومراكز القيادة التي لا تطالها الغارات، إضافة إلى أَسْر أو تصفية كوادر ميدانية أساسية. وكشفت التسريبات الدبلوماسية أن إسرائيل أبلغت وسطاء دوليين بأنها اتخذت قراراً مبدئياً بإطلاق عملية برية في الحرب المقبلة، وليس مجرد الاكتفاء بالقصف. علاوة على ذلك، عاد سيناريو الاجتياح البري للبنان إلى التداول، بحيث يمتد الاجتياح من الحدود عبر البقاع الجنوبي الشرقي للوصول إلى شمال نهر الليطاني، بهدف اقتلاع البنية العسكرية للحزب من جذورها. مثل هذا التوغل الواسع، إن حدث، قد يحقق لإسرائيل مكاسب استراتيجية كبرى، منها إنهاء سيطرة الحزب على الجنوب، وقطع خطوط إمداده مع سورية تماماً، وربما فرْض منطقة عازلة حتى شمال الليطاني تخلو من أي وجود مسلح للحزب.

 

بيد أن ثمن الاجتياح البري سيكون باهظاً جداً على لبنان وعلى الحزب نفسه، كما أن إسرائيل تدرك أن أي قوات تدخل برياً ستواجه مقاومة عنيفة من مقاتلي حزب الله المتحصنين في المدن والقرى والجبال، والذين قد ينقضّون على القوات الغازية من مكامن وأنفاق ومخابئ في الأحراش والجبال، ما من شأنه إطالة أمد المعارك ومضاعفة الخسائر في صفوف الجيش الإسرائيلي. ولهذا يُلمَس في الخطاب الإسرائيلي تهيئة للرأي العام اللبناني بأن أي اجتياح سيترافق مع إخلاء مناطق واسعة من المدنيين، بقصد تحويلها إلى مناطق خالية من السكان. وبالفعل، تحدّث وزير الخارجية المصري عن سيناريو شبيه بما حدث في غزة؛ أي أنّ كل منطقة تتوغل فيها القوات الإسرائيلية ستفرغ من أهلها خشية اندلاع حرب شوارع، ما يعني حصول موجات نزوح هائلة من الجنوب والبقاع، وربما ضاحية بيروت الجنوبية، مع ما يرافق ذلك من مآسٍ إنسانية وضغط اجتماعي على بيئة حزب الله. والهدف الإسرائيلي المعلن هنا هو تطويق البيئة الشيعية وضرب حاضنة الحزب، على أمل أن يؤدي الدمار الناجم عن الحرب وتهجير الأهالي إلى انقلاب الرأي العام الشيعي ضدّ قيادة الحزب. ويبدو أن المواجهة المقبلة تهدف إلى دفع البيئة الحاضنة إلى الابتعاد سياسياً واجتماعياً عن الحزب، كما في حادثة اغتيال رئيس أركان الحزب، هيثم الطبطبائي، التي حصلت ضمن مربع سكاني مكتظ في الضاحية الجنوبية لبيروت، والتي أثارت تململاً لدى بعض الأهالي المتضررين من تهجير جديد في فصل الشتاء.

 

وعلى رغم هذه الضغوط الاجتماعية المتوقعة، يبقى مدى صمود مقاتلي حزب الله عاملاً حاسماً في سيناريو الاجتياح البري. فإذا استطاع الحزب إيقاع خسائر ملموسة بالقوات المتوغلة وتأخير تقدمها لأيام أو أسابيع، فقد يمنحه ذلك دفعة معنوية كبيرة تُشجّع عناصره على مواصلة القتال؛ ففي خلال “حرب تموز” (يوليو 2006) اعتبر كبار القادة في حزب الله أن صمود مسلحي الحزب، وعدم انهياره كان بمنزلة “نصراً إلهياً”. وفي الحرب الأخيرة 2024 أيضًا، وعلى رغم الضربة الشديدة التي تلقاها الحزب في خلال عام من القتال، فإن احتفاظه ببعض القدرة على إطلاق الصواريخ حتى اللحظات الأخيرة صُوّر داخلياً بوصفه صموداً أسطورياً. لذلك تُدرك إسرائيل أن عليها شلّ قدرات الحزب سريعاً في أي اجتياح لمنعه من ادعاء الإنجاز لمجرد البقاء. ومن هنا جاء التحذير الأمريكي الواضح لإيران وأذرعها بعدم التدخل لمساندة الحزب، إذ إن بقاء حزب الله وحيدًا في أي حرب سيجعل بيئته تُدرك أنه يقاتل إسرائيل وحيداً ويساهم في إضعاف شيعة لبنان معنوياً، بينما يلوذ حلفاؤهم الشيعة في إيران والعراق بالصمت. وفي المقابل، فإن أي إمداد إيراني أو انخراط فصائل عراقية في الحرب قد يطيل أمد المواجهة ويرفع معنويات الحزب. ومن هنا يبدو أن تحييد إيران وفصائلها عن المعركة المقبلة -في حال وقعت طبعاً- هو جزء أساسي من الخطة الإسرائيلية-المريكية لضمان عزل حزب الله وإضعافه شعبياً وميدانياً.

 

يرى مراقبون ومحللون كثيرون في تل أبيب وواشنطن، أن الاجتياح البري الواسع هو السبيل الوحيد لحسم مسألة حزب الله بشكل نهائي (شترستوك)

 

دور سورية وضبط الحدود بعد الحرب

سورية ليست مَعنية بالمسار الدبلوماسي حول سلاح حزب الله. فدمشق، التي تواجه تحديات داخلية وإقليمية معقدة، لا تَعتبر نفسها في وارد مواجهة الحزب أو محاولة التأثير المباشر في مسار نزع سلاحه، بل تركز اهتمامها الأساسي على ما سيؤول إليه وضع ترسانته في منطقة البقاع تحديداً. فالسلاح المنتشر هناك، لاسيما في محيط الحدود الشرقية اللبنانية، يمسّ عمقها الأمني ويؤثر في استقرار المناطق السورية المحاذية، بخلاف سلاح الجنوب الذي ترى أنه مرتبط بحسابات إيرانية-إسرائيلية أكثر منه ملفاً سورياً مباشراً. لذلك تتعامل دمشق مع المسار السلمي بوصفه تطوراً يجب استيعابه ومراقبته، مع الحرص على ضمان ألا ينتهي إلى ترتيبات تستجيب لعوامل القلق الإسرائيلي حيال ترسانة حزب الله حتى نهر الأوَّلي من دون أن توفر الأمن للسلطات السورية في منطقة البقاع، والذي قد يستخدمه الحزب في زعزعة استقرار الساحل وحمص.

 

أما في حال اندلاع الحرب بين حزب الله وإسرائيل، فستجد سورية نفسها أمام فرصة لإعادة رسم موقعها الإقليمي. ومن المرجح أن تستثمر إدارة الرئيس السوري أحمد الشرع الحرب وتساهم بشكل أكثر فعالية في إغلاق الحدود بين لبنان وسورية. ومع ذلك، لن تتجه الإدارة السورية إلى الانخراط العسكري المباشر ومساعدة إسرائيل ميدانياً، لأن تل أبيب ترفض أي مشاركة سورية، كما أن من مصلحة الإدارة السورية أن تتورط إسرائيل في قتال طويل مع حزب الله.

 

وعلى الأرجح أن تسعى الإدارة السورية، بعد أي حرب شاملة محتملة في لبنان، إلى الجلوس على الطاولة كي تكون شريكاً في الترتيبات الأمنية الجديدة بهدف كبح نفوذ الحزب في البقاع، وحماية أمن حدودها، ومنع تسلل الأسلحة من لبنان وإليه، وربما إحكام قبضتها كلياً على الحدود اللبنانية-السورية بالتنسيق مع الجيش اللبناني برعاية أمريكية أو دولية. ولعل الطرح البريطاني القديم الجديد يصب في هذا الإطار؛ فقد عاد من جديد تداول اقتراح لندن على لبنان بناء أبراج مراقبة حديثة على طول الحدود الشرقية مع سورية، وتسليمها للجيش اللبناني من أجل ضمان تنفيذ القرار رقم 1701 ومنع أي نشاط عسكري غير شرعي عبر الحدود. وحتى الآن لم يصدر أي موقف رسمي من قبل الدولة السورية الجديدة تجاه الاقتراح البريطاني، سيما أنه قد يشكل خرقاً أمنياً لسورية نفسها على المدى الطويل.

 

حسابات إيران ومصير سلاح الحزب

تَعُد إيرانُ حزبَ الله خطَّ دفاعها المتقدّم، فيما تمثّل الفصائل العراقية الولائية خطَّ دفاعها الأقرب. وبينما تسعى الولايات المتحدة والدول الإقليمية إلى إنهاء حقبة التدخلات الإيرانية في المنطقة، تُصر طهران على الاحتفاظ بورقة حزب الله، ولن تفرّط فيها علّها توفر لها بعض الحماية.

 

في حال اندلاع الحرب، يُرجَّح أن تعتمد إيران مقاربة تقوم على “الدعم الموزّع” بدل الانخراط المباشر في القتال. فمن جهة، ستستخدم قنوات دبلوماسية غير علنية لتمرير رسائل إلى واشنطن تُبدي فيها استعدادها لبحث تسوية أوسع مقابل وقف الضربات الإسرائيلية على حزب الله، وهو تكتيك تلجأ إليه طهران تقليدياً عند بلوغ التوتر مستويات حرجة. وفي الوقت نفسه، ستسعى إلى استثمار أي ثغرات برية داخل الأراضي السورية لضمان استمرار تدفق الإمدادات إلى الحزب ولو بالحدّ الأدنى، إدراكًا منها بأن قدرة الحزب على الصمود ترتبط باستمرار هذه الشرايين اللوجستية مهما كانت محدودة.

 

تحييد إيران وفصائلها عن المعركة المقبلة مع حزب الله هو جزء أساسي من الخطة الإسرائيلية-المريكية لضمان عزل الحزب وإضعافه (شترستوك)

 

أما الدعم الأكثر وضوحاً –وإن كان تأثيره الميداني غير مضمون– فسيأتي عبر الحوثيين في اليمن، حيث ستشجعهم طهران على تصعيد الهجمات ضد إسرائيل أو ضد مصالح مرتبطة بها لخلق ضغط جانبي يربك خصومها. وفي أقصى حدود التصعيد، قد تُصدِر إيران تعليمات إلى الفصائل العراقية باستهداف قواعد أمريكية في العراق وسورية، لكن هذا سيكون بهدف رفع كلفة الحرب والضغط لوقفها، لا لجرّ المنطقة إلى مواجهة شاملة تدرك طهران أنها لا تخدم مصالحها في هذه المرحلة. وفي المحصلة، تُدرك أوساط إيرانية أن مصير حزب الله يقترب من الحسم، إذ إنّه مُطوّق من إسرائيل والإدارة السورية والقوات الأمريكية داخل سورية، والأرجح أنها ستجلس تراقب من بعيد مقاتلي الحزب وهم يخوضون القتال، وإلى الآن لم تظهر مؤشرات على إمكانية انخراطها في الحرب.

 

استنتاجات

تبدو الدولة اللبنانية اليوم عالقةً بين مطرقة الضغط الإسرائيلي وسندان غياب البدائل الداخلية الجدية، فيما يبقى نزع سلاح حزب الله مرتبطاً بتوازنات إقليمية تتجاوز قدرة بيروت على التأثير فيها. وقد دفع الضغط الدبلوماسي، إلى جانب سعي لبنان لعدم خسارة ما تبقّى له من هامش قرار في قضايا الحرب والسلم، إلى اتخاذ خطوات محدودة لتجنّب الانفجار. غير أن هذه الخطوات تظلّ تكتيكية ومألوفة، ولا ترقى إلى مستوى التحوّل الاستراتيجي القادر على تغيير مسار الأحداث، بل تؤجّل فقط لحظة الانفجار. وفي ظل غياب اختراق كبير في المشهد اللبناني، تبقى الضغوط العسكرية الإسرائيلية المسار الأكثر ترجيحاً باتجاه إضعاف الحزب ونزع سلاحه. أمّا التسوية الفعلية فتتطلّب توافقاً عربياً–دولياً أوسع يُقدِّم بديلاً سياسياً وأمنياً حقيقياً لوظيفة سلاح الحزب داخل لبنان وخارجه.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M