- رحَّبت الدول الأوروبية بخطة الرئيس ترمب لإنهاء الحرب في قطاع غزة، وإن كان الترحيب مشوباً بالحذر، لأن الخطة تعالج المطالب العاجلة والقضايا ذات الأولوية، لكن القضايا التي تتعلق بمرحلة ما بعد الحرب والحل النهائي للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي تتسم بالغموض.
- ترى الدول الأوروبية في الخطة فرصة لتأكيد نفوذها الجيوسياسي ووضع نفسها في موقع الضامن المحايد لموازنة بقية القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، وبخاصة أنها تملك أدوات دبلوماسية ومالية وفنية يمكن أن تحقق هذه المشاركة.
- من المحتمل أن تشمل المساهمة الأوروبية في إنجاح الخطة: المشاركة في الهيئة الانتقالية الدولية، ومساهمة أمنية غير قتالية عبر المشاركة في تشكيل وتمويل قوة الاستقرار الدولية التي ستنتشر في القطاع، إلى جانب تدريب ودعم قوات الشرطة الفلسطينية، والمساهمة الاقتصادية من طريق حشد المانحين ودعم برامج إعادة الإعمار.
- يتعين السعي إلى بناء محور عربي-أوروبي للضغط على إسرائيل والولايات المتحدة، بواسطة الأدوات والأوراق التي يمتلكها الطرفان العربي والأوروبي، لتحويل خطة ترمب إلى تسوية شاملة للصراع.
في 29 سبتمبر 2025، كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عن خطة من عشرين نقطة لوقف الحرب في غزة. واتسمت ردود الفعل الأوروبية، على مستوى مؤسسات الاتحاد الأوروبي ومعظم العواصم الأوروبية، بطابع إيجابي وحذرٍ في الوقت نفسه. وقد أدى جزء أساسي من دول القارة، في خلال الشهور الماضية، دوراً بارزاً في مسارٍ موازٍ يحشد للاعتراف بالدولة الفلسطينية، ظهرت بعض ملامحه في بنود خطة الرئيس الأمريكي. فضلاً عن أن الاتحاد الأوروبي يُعد أكبر مانح للمساعدات الخارجية للفلسطينيين، وهو مؤشر يجعل أوروباً لاعباً رئيساً في مسار خطة الرئيس ترمب، ولاسيما فيما يتعلق باليوم التالي للحرب في غزة.
تسعى هذه الورقة إلى رصد المواقف الأوروبية حول خطة الرئيس ترمب بشأن وقف الحرب في غزة وترتيبات اليوم التالي، وتحليل بنود الخطة من المنظور الأوروبي، ورسم الإمكانيات المستقبلية المحتملة لأي دورٍ أوروبي في تنفيذ الخطة أو ممارسة أدوارٍ في أي هيكل سياسي أو أمني ما بعد الحرب.
المواقف الرسمية الأوروبية من خطة ترمب
شأنها شأن المواقف العربية والإسلامية والدولية، جاءت مواقف أوروبا إيجابية حول خطة الرئيس الأمريكي. فقد رحبت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بما عَدَّتهُ التزاماً من الرئيس ترمب بإنهاء الحرب في غزة. وقالت: “نشجع جميع الأطراف على استغلال هذه الفرصة. والاتحاد الأوروبي مستعد للمساهمة. كما ينبغي أن تتوقف الأعمال العدائية بتقديم الإغاثة الإنسانية الفورية لسكان غزة، والإفراج الفوري عن جميع الرهائن. ويبقى حل الدولتين السبيل الوحيد لتحقيق سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط، يعيش فيه الشعبان الإسرائيلي والفلسطيني جنباً إلى جنب، في سلام وأمن، بعيداً عن العنف والإرهاب”.
أما رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا، فقال: “أرحب بخطة الرئيس ترمب لإنهاء الحرب في غزة، وأشعر بالتفاؤل إزاء رد رئيس الوزراء نتنياهو الإيجابي. وعلى جميع الأطراف اغتنام هذه الفرصة لإعطاء السلام فرصة حقيقية. ويظل حل الدولتين هو السبيل الوحيد القابل للتطبيق لتحقيق سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط”. فيما رحب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالخطة، وقال: “أتوقع من إسرائيل الالتزام بحزم. وليس أمام حماس خيار سوى إطلاق سراح جميع الرهائن فوراً واتباع هذه الخطة”، مُشيراً إلى أنه “يجب أن تمهّد هذه العناصر الطريق لمناقشات معمقة مع جميع الشركاء المعنيين لبناء سلام دائم في المنطقة، على أساس حل الدولتين والمبادئ التي أقرتها 142 دولة عضو في الأمم المتحدة، بمبادرة من فرنسا والمملكة العربية السعودية”، مُضيفاً أن “فرنسا مستعدة للمساهمة. وستظل يقظة بشأن التزامات كل طرف”. وقال المستشار الألماني فريدريش ميرتس، الذي يعد من أكبر داعمي إسرائيل داخل الاتحاد الأوروبي، إن الخطة هي “أفضل فرصة” لإنهاء الحرب.
وفي بيان لها، رحبت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، بمقترح الرئيس الأمريكي، ووصفته بأنه “مشروع طموح من أجل تحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار والتنمية في قطاع غزة”. وحثّت ميلوني حماس على عدم قبول “أي دور في مستقبل غزة” وإلقاء السلاح. أما رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، الذي ظهر بوصفه واحداً من أكثر الأصوات انتقاداً لحكومة بنيامين نتنياهو داخل الاتحاد الأوروبي، فقال إن الوقت قد حان “لإنهاء كل هذا المعاناة”. وكذلك رحَّب رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، بالمبادرة الأمريكية، قائلاً:”ندعم بقوة جهود الرئيس ترمب لإنهاء القتال، وإطلاق سراح الرهائن، وضمان تقديم مساعدات إنسانية عاجلة لسكان غزة. وهذه أولويتنا القصوى، ويجب أن تُنفذ فوراً”.
رسمياً يبدو من الواضح أن خطة الرئيس الأمريكي قد حققت الحد الأدنى من المطالب الأوروبية بوقف إطلاق النار وتأمين إطلاق سراح الرهائن، والسماح بدخول المساعدات إلى سكان غزة، على رغم غموض بقية البنود المتعلقة بالمرحلة التالية للحرب وترتيبات الوضع النهائي. فقد تحولت الحرب إلى عبء سياسي وأمني وإنساني ثقيل على الدول الأوروبية بسبب المنحى الإبادي الذي اتخذته وحجم الخسائر الإنسانية غير المسبوقة، وما سبّبته من إحراج أخلاقي وقانوني لأوروبا. وبالتالي تبدو خطة الرئيس الأمريكي من منظور الواقعية السياسية وضعف النفوذ الأوروبي على طرفي الحرب، فرصةً لوقفها، وفرصة لتخليص الحكومات الأوروبية من الضغوط الداخلية التي تمارسها الأحزاب والمجتمع المدني والنقابات العمالية من طريق المظاهرات والتحركات الشعبية، فضلاً عن الهواجس الأمنية المتعلقة بانعكاسات الصراع في أوروبا، والهواجس المتعلقة بتوسع الحرب في المنطقة وما يجره من تدفقات الهجرة إلى أوروبا.
كما يوفّر الترحيب بالخطة فرصةً للقوى الأوروبية للمحافظة على قدرٍ من التوافق البراغماتي مع الولايات المتحدة، وهي وسيلة للإشارة إلى قوة الشراكة مع واشنطن، وبخاصة في وقت تراجع فيه التحالف عبر الأطلسي بقوةٍ في عهد الرئيس ترمب. وهكذا فإن نبرة الترحيب الحذرة سمحت للحكومات بإرضاء الرئيس الأمريكي دون التخلي عن عقيدة الاتحاد الأوروبي بشأن حل الدولتين. كما يؤشر الترحيب أيضاً على رغبة أوروبا في كسب نفوذ خلال المرحلة التالية للحرب، وعلى خوفٍ من التهميش الجيوسياسي، فقد ظل المسار الدبلوماسي للحرب خاضعاً لهيمنة الولايات المتحدة وإسرائيل والقوى الإقليمية العربية، فيما تُركت الحكومات الأوروبية على الهامش. وبترحيبها الحَذِر بمبادرة ترمب تُراهِن أوروبا على تحصيل موقعٍ نافذ في المرحلة التالية، مما يمكن أن يضعها في موقف الشريك الأمني والمالي والإنساني الفاعل بمجرد بدء التنفيذ. أما على المستوى الشعبي فتوجد أصوات سياسية ترى في خطة الرئيس الأمريكي نهجاً فوقياً لفرض مسارات على الجانب الفلسطيني، فقد انتقدت الأحزاب اليسارية والمجموعات البرلمانية وبعض المنظمات غير الحكومية الخطة، مُحذرةً من أنها قد تؤدي إلى ترسيخ الظلم على المدى الطويل إذا لم تكن مصحوبة بضمانات بشأن السيادة والحقوق الفلسطينية.
خطة ترمب من منظور أوروبي: توافق واختلاف
بدايةً، لا يوجد منظور أوروبي موحد لما يجري في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023. فالمواقف الأوروبية موزعة بين فريقين. الفريق الأول، ويضم فرنسا وإسبانيا وأيرلندا وبلجيكا والنرويج والبرتغال وسلوفينيا والمملكة المتحدة وهولندا والسويد، قد انخرط ضمن ديناميكية عالمية للاعتراف بالدولة الفلسطينية، حظيت بدعم أممي في سبتمبر الماضي، ويطالب في الوقت نفسه بفرض عقوبات اقتصادية وعسكرية على حكومة بنيامين نتنياهو ولاسيما حلفاءه من الأحزاب الدينية الأشد تطرفاً. أما الفريق الثاني فيضم ألمانيا وجمهورية التشيك والمجر وإيطاليا، وهو أكثر دعماً لإسرائيل وضد مسارات الاعتراف بالدولة الفلسطينية ويُعارض فرض أي عقوبات على حكومة نتنياهو. كما يحظى الفريق الثاني بعلاقات أقوى مع الإدارة الأمريكية، إذ يرتبط زعماء مثل فيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري، ورئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، بعلاقات شخصية وأيديولوجية عميقة مع الرئيس الأمريكي. وبالتالي فإن خطة ترمب من منظور الفريق الثاني متطابقة تماماً مع رؤية المجر وإيطاليا وألمانيا، في حين أنها لا تتطابق نسبياً مع منظور الفريق الأول، الذي بات اليوم يمثل الموقف الأوروبي السائد، والذي يتمتع بدعمٍ قوى غربية أخرى وازنة، مثل أستراليا وكندا، وبدعم قوي من القوى الإقليمية العربية الرئيسة.
لذلك سنرصد نقاط توافق واختلاف الخطة من منظور الفريق الأول :
أولاً، نقاط التوافق
تُلبي الخطة الأمريكية المطالب العاجلة التي يريد الأوروبيون تحقيقها، وهي وقف إطلاق النار بشكل دائم، وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، وفتح ممرات لدخول مستدام للمساعدات الإنسانية عبر الأمم المتحدة ووكالاتها. كما تلبي مطالب مبدئية للجانب الأوروبي تتمثل أساساً بمنع التهجير القسري لسكان غزة ومنع إعادة احتلال إسرائيل للقطاع، ومنع مشاركة حركة حماس في أي إدارة محلية مستقبلية، وكذلك نزع سلاحها، إلى جانب أن الخطة تشير إلى التمهيد لـ “لمسار موثوق نحو تقرير المصير الفلسطيني وإقامة الدولة الفلسطينية”، وهو أحد المطالب الأوروبية الأساسية ضمن الدفاع عن فكرة حل الدولتين.
وانطلاقاً من هذه التوافقات، ترى الدول الأوروبية التي اعترفت بالدولة الفلسطينية مؤخراً، أن خطة ترمب هي تفاعل مع ديناميكية الاعتراف الدولية التي حركتها قوى أوروبية وعربية في خلال الأسابيع الماضية، وذلك لاستعادة أفق سياسي للقضية الفلسطينية وإعادة بناء توافق دولي بدعم من الأمم المتحدة، ذلك أن الرئيس ترمب قد تبنى العديد من المقترحات التي أقرها إعلان نيويورك بشأن ”التسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حل الدولتين”، في 29 يوليو الماضي. ومن أسس التوافق، أن الدول الأوروبية ترى في خطة ترمب، استجابة للضغط الذي مارسته مع الدول العربية ضمن استراتيجية الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو ما أشارت إليه فرنسا بوضوحٍ في بيان الترحيب بالخطة.
ثانياً، نقاط الاختلاف
تدور جميع نقاط الاختلاف الأوروبي مع خطة الرئيس الأمريكي حول اليوم التالي لوقف إطلاق النار، وفق ما يأتي:
- يوجد تباين واضح بين تصورات الطرفين عن إدارة قطاع غزة. إذ تنص خطة ترمب على أن القطاع سيكون تحت إدارة انتقالية مؤقتة من قبل “لجنة فلسطينية تكنوقراطية غير سياسية، مسؤولة عن تقديم الخدمات العامة، وستتشكل هذه اللجنة من فلسطينيين مؤهلين وخبراء دوليين، تحت إشراف هيئة انتقالية دولية جديدة، وهي “مجلس السلام”، والتي سيرأسها الرئيس ترمب نفسه، مع أعضاء آخرين ورؤساء دول سيتم الإعلان عنهم، بما في ذلك رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير”. في المقابل يطالب الأوربيون بأن تكون الإدارة من “اختصاص السلطة الفلسطينية وحدها، بما في ذلك عملية نزع السلاح، والتي ينبغي أن تُستكمل ضمن آلية متفق عليها مع الشركاء الدوليين وفي إطار زمني محدد”.
- تفتقر خطة الرئيس ترمب من منظور أوروبي إلى تفاصيل أساسية للحل النهائي للصراع. فهي لا تشير بأي شكلٍ من الأشكال إلى الوضع في الضفة الغربية، في تكريس واضح لفصل مسار الضفة عن مسار القطاع، وبالتالي الابتعاد عن أمل إقامة الدولة الفلسطينية. وفي المقابل ينظر الأوروبيون إلى قطاع غزة بصفته جزءاً لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية، ويجب توحيده مع الضفة الغربية، باعتبار ذلك شرطاً لدولة ذات جغرافية متصلة وقابلة للحياة، علاوة على مسألة القدس الشرقية والوضع القانوني والتاريخي الراهن في الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في المدينة، والذي يطالب الأوروبيون بضرورة الحفاظ عليه. وحتى النقطة الختامية التي تشير إلى “مسار موثوق نحو تقرير المصير الفلسطيني” تبدو غامضة، وتمثل إعادة إنتاج لمشكلات ومعضلات اتفاق أوسلو عام 1993، والذي جعل مبدأ إقامة الدولة الفلسطينية مؤجلاً وخاضعاً للتفاوض. فضلاً عن ذلك تفتقر الخطة إلى تفاصيل جوهرية، تتعلق بمن سيسهم في تشكيل قوة الاستقرار الدولية المُقترحة، ومن سيُموّل إعادة الإعمار وطبيعة الإطار الزمني. ففي حين يبدو المنظور الأوروبي يركز على الجذور السياسية للمشكلة، تدور خطة ترمب حول حلول فنية تتعلق بالأمن والإعمار، دون معالجة جذرية للصراع، وهو ما يجعل الجانب الأوروبي حذراً في التعامل مع الخطة، التي وإن كانت تلبي مطلب وقف الحرب إلا أنها لا تلبي مطلب حل الصراع على أسس مُستدامة.
إمكانيات المشاركة الأوروبية المستقبلية
من المتوقع أن يكون لأوروبا -وأساساً ألمانيا وفرنسا وبريطانيا- دور في تنفيذ خطة الرئيس الأمريكي في مرحلة اليوم التالي للحرب، لأن الخطة تشير بوضوح إلى دور أمريكي رئيس مع “الشركاء العرب والدوليين”. وعلى رغم أنها لا تلبي طموحات أوروبا كلها، فمن غير المتوقع أن تفوّت الدول الأوروبية فرصة المساهمة فيها، وهو الأمر الذي أكدته الممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، على هامش اجتماع بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي في الكويت، من أن الاتحاد يسعى إلى الحصول على دور في السلطة الانتقالية في قطاع غزة، وأن “أوروبا يجب ألا تكون دافعة فحسب، بل يجب أن تكون أيضاً طرفاً فاعلاً”. وفي مؤشرٍ على الاهتمام الأوروبي بدورٍ في خطة الرئيس الأمريكي، ودور مستقبلي في غزة، شهدت القاهرة، بالتزامن مع المفاوضات الجارية في شرم الشيخ حول ترتيبات الخطة، حراكاً ديبلوماسياً أوروبيا لافتاً عبَّر عن نفسه في زيارة وزير الخارجية الهولندي ديفيد فان ويل، والتي تضمنت زيارة لمعبر رفح الحدودي من الجانب المصري؛ وزيارة وزير الخارجية الألماني، الألماني يوهان فادفول، ووزيرة الخارجية السلوفينية تانيا فاجون.
تنطلق المشاركة الأوروبية من أربعة محددات أساسية، هي: ضمان أن تعزز المشاركة الحماية الإنسانية والاندماج السياسي الفلسطيني؛ واستخدام النفوذ الدبلوماسي والمالي والفني لجعل الخطة قابلة للتحقق؛ وتجنُّب التورط العسكري المباشر من طريق إعطاء الأولوية للمساهمات المدنية والتقنية؛ وأخيراً إعادة ربط غزة بمسار حل الدولتين عبر التعامل مع استقرار القطاع باعتباره خطوة، وليس بديلاً للتوصل إلى تسوية شاملة.
ولتحقيق مشاركة تُلبي أهدافها، تملك أوروبا عدداً من الأدوات الفاعلة؛ فهناك، أولاً، الأداة الدبلوماسية، بفضل النفوذ الذي حققته مؤخراً في مسار الاعتراف بالدولة الفلسطينية، لاسيما مع القوى العربية وتطابق المواقف مع مصر والأردن والسعودية والإمارات. وثانياً، الأداة المالية، بوصفها أحد أكبر المانحين الحاليين، ويمكن أن يكون دورها أساسياً في تمويل إعادة الإعمار وتلبية طموحات دونالد ترمب الاستثمارية في تحويل القطاع إلى “منطقة اقتصادية خاصة”. وثالثاً، الأدوات الفنية، الضرورية لتنفيذ الخطة في مسألة تدريب قوات الشرطة والفرق الفنية التي ستتعامل مع مخلفات الحرب، وكذلك المساعدة الأمنية غير القتالية.
في الوقت نفسه تملك أوروبا أوراقاً إذا استُخدمت بقوة وتماسك أكبر، قد تضغط على إسرائيل لتحقيق حدٍ أدنى من الامتثال للخطة، أهمها اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، والتي تتضمن بنوداً تشترط احترام حقوق الإنسان. وفي حال عُدَّت إسرائيل مُخالفة لهذه المبادئ، يحق للاتحاد الأوروبي تعليق العمل ببعض بنود الاتفاقية أو فرض شروط عليها. كما يمنح الاتحاد الأوروبي إسرائيل شروطاً تفضيلية، مثل التخفيضات الجمركية، قابلة للتعليق. وسيؤدي تعليق هذه الامتيازات إلى زيادة تكاليف الصادرات الإسرائيلية إلى أوروبا. وتشير التقديرات إلى أن تعليق العمل بالاتفاقية قد يكلف إسرائيل نحو 227 مليون يورو سنوياً من الرسوم الجمركية. كذلك يمكن أن تشكل العقوبات الأوروبية على وزارات إسرائيلية محددة، والمستوطنين، والمنظمات الاستيطانية، ورقةً مهمة. فضلاً عن إمكانية توسيع تقييد الصادرات العسكرية إلى إسرائيل الذي شرعت فيه بعض دول القارة. إلى جانب الورقة السياسية الأهم وهي الدور الذي يمكن أن يؤديه الأوروبيون في تعميق العزلة الدولة التي تعاني منها إسرائيل.
وفي ضوء ذلك، يمكن أن تأخذ المشاركة الأوروبية في خطة الرئيس الأمريكي ثلاثة أشكال محتملة:
1. المشاركة السياسية: من المتوقع أن يضع الأوروبيون إطارَ عمل مع معايير مرجعية يحدد طبيعة ودرجة مشاركتهم في الخطة، ثم يشرعون في مباحثات مع الولايات المتحدة من أجل تحديد موقعهم في الهيئة الانتقالية الدولية، المشار إليها بـ “مجلس السلام”، والتي سيرأسها الرئيس ترمب. ومن المحتمل أن يكون للجانب الأوروبي دور تعديلي في مراقبة امتثال إسرائيل وبقية الأطراف بتطبيق بنود الخطة، وبخاصة أن أوروبا تملك نفوذاً اقتصادياً قوياً على إسرائيل يمكنها استخدامه أو التلويح به لفرض الامتثال. ويمكن من طريق الدور السياسي للقوى الأوروبية وحلفائها العرب، تحويل مبادرة ترمب من خطة لوقف إطلاق النار إلى عملية إعادة بناء ترتكز على فكرة الحل الدائم، لذلك من المحتمل أن يدفع الأوروبيون نحو توسيع الوعد الذي ختم به الرئيس الأمريكي خطته حول المضي في مسار لبناء دولة فلسطينية، لربط مسار قطاع غزة لاحقاً بمسار الضفة الغربية، وكذلك في اتجاه تسريع تسليم إدارة قطاع غزة من الهيئة الانتقالية الدولية إلى السلطة الوطنية الفلسطينية. وفي المقابل، من المتوقع أن تواجه السلطة الفلسطينية ضغطاً أوروبياً لإجراء إصلاحات جذرية يمكن أن تُفضي إلى تغييرات على مستوى القيادة الفلسطينية أو انتخابات عامة لاختيار قيادة جديدة.
2. المشاركة الأمنية والفنية: من المحتمل أن تشارك الدول الأوروبية في تشكيل وتمويل قوة الاستقرار الدولية التي ستنتشر في القطاع، وتدريب ودعم قوات الشرطة الفلسطينية، والمشاركة في أمن الحدود والجمارك، والمساهمة في فرق الاستقرار المدنية والهندسية والطبية وفرق إزالة الألغام والذخائر، فضلاً عن دعم قدرات الحكم المحلي، من طريق تدريب موظفي الخدمة المدنية، والإدارة البلدية، والمساعدة القضائية.
3. المشاركة الاقتصادية: من المتوقع أن يكون الدور الأوروبي أساسياً في عملية إعادة الإعمار؛ في المرحلة الأولى من طريق إمكانية عقد مؤتمر للمانحين بين الاتحاد الأوروبي والدول العربية لتنسيق المواقف، وكذلك في تمويل البنية التحتية الأساسية ذات الأولوية مثل المياه، والطاقة، والمستشفيات، من طريق الاستفادة من التمويل الخاص وأدوات ميزانية الاتحاد الأوروبي، زائد المملكة المتحدة والنرويج. وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين قد أعلنت، في خلال خطابها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 سبتمبر الماضي، عن مبادرة أوروبية لتشكيل مجموعة خاصة من المانحين لتنسيق وتمويل إعادة إعمار قطاع غزة على نطاق واسع. كما يظل الاتحاد الأوروبي أكبر داعم مالي للسلطة الفلسطينية، بتخصيص 1.6 مليار يورو للفترة 2025-2027.
نحو محور عربي-أوروبي
من منظور الموقف العربي-الأوروبي الذي تبلور في خلال الشهور الماضية حول الانطلاق من الاعتراف بالدولة الفلسطينية نحو التأسيس لحلّ دائم وشاملٍ، تبدو خطة الرئيس ترمب أقرب إلى اتفاق هدنة منها إلى تسوية دائمة. ولكن ترحيب القوى العربية والأوروبية المتزامن بالخطة، وإن لم تلبِّ الطموح المركزي، يُعبّر عن سعي مشتركٍ بين الطرفين لاستغلال الخطة كفرصة لتحويلها إلى تسوية. وجعل غزة مختبراً لحلٍ يمكن أن يتطور ويشمل بقية مكونات الدولة الفلسطينية، وهو ما أكّده البيان الختامي للاجتماع الوزاري المشترك التاسع والعشرين بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، الذي جرى في الكويت في 6 أكتوبر، من طريق “دعم التوصل إلى تسوية عادلة ودائمة للقضية الفلسطينية من خلال حل الدولتين، وتوحيد غزة والضفة الغربية تحت سلطة فلسطينية”. وفي مواجهة الانحياز الأمريكي إلى إسرائيل، يمكن للتنسيق العربي-الأوروبي لعب دور تعديلي رئيس، أولاً لتنفيذ بنود الخطة كما هي، وثانياً لتطويرها نحو تسوية شاملة، وذلك من طريق:
- كسب النفوذ داخل الهيئة الانتقالية؛ حيث سيكون لأعضاء الهيئة صلاحيات تنفيذية واسعة في إدارة القطاع، وعلى القوى العربية والأوروبية التنسيق لكسب مواقع مؤثرة داخلها، ليكون لها دور مستقبلي.
- التمويل المشروط: تستند خطة الرئيس الأمريكي إلى مساهمة مالية عربية وأوروبية كبيرة في إعادة الإعمار وتحقيق طموحات ترمب الاستثمارية، لذلك يمكن للدول العربية والأوروبية وضع شروط سياسة وتنفيذية تخدم أهدافها في تسوية عادلة وشاملة مقابل المساهمة في التمويل (غير الأساسي). ولتحقيق تنسيق أكبر، يمكن إنشاء آلية عربية أوروبية لرصد التمويل ومراقبته.
- تنسيق الأدوات القانونية؛ من طريق رفع درجة التنسيق بين أوروبا ودول المنطقة بشأن استعمال الأدوات القانونية للضغط على إسرائيل بشكل متزامن، مثل الأدوات القانونية للاتحاد الأوروبي والامتيازات التجارية، وقواعد استيراد منتجات المستوطنات، وقيود التأشيرات، والخطوات الدبلوماسية العربية مثل تعليق العلاقات في حال ضم الضفة أو تغيير الوضع التاريخي في القدس.
استنتاجات
وجدت الخطة التي طرحها الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، لإنهاء الحرب في غزة، ترحيباً واسعاً من طرف الدول الأوروبية، لكنَّه ترحيب مَشوب بالحذر. وقد بدا ذلك مدفوعاً بتحقيق الخطة للحد الأدنى من المطالب الأوروبية بوقف إطلاق النار وتأمين إطلاق سراح الرهائن، والسماح بدخول المساعدات إلى سكان غزة. فالتحديات الأمنية والسياسية والإنسانية والقانونية التي واجهتها الدول الأوروبية منذ السابع من أكتوبر 2023، جعلت القبول بالخطة الأمريكية فرصةً، بسبب النفوذ الذي يملكه ترمب على حكومة بنيامين نتنياهو لوقف الحرب، في ظل عجز الأوربيين عن ذلك. أما الحذر فكان متعلقاً بغموض بقية البنود التي تنظم وضع مرحلة ما بعد الحرب.
وباستثناء وجود أقلية أوروبية تتطابق رؤيتها مع رؤية الرئيس دونالد ترمب، يدافع التيار السائد داخل أوروبا عن رؤية مختلفة. فمع أن خطة ترمب تلبي المطالب العاجلة، التي يريد الأوروبيون تحقيقها، وخاصة تلك المتعلقة بوقف الحرب ومنع التهجير القسري ومنع إعادة احتلال إسرائيل للقطاع، إلا أنها تختلف مع الرؤية الأوروبية في شكل إدارة القطاع بعد الحرب. كما تفتقر خطة ترمب، من منظور أوروبي، إلى تفاصيل أساسية للحل النهائي للصراع، وتتجاهل الوضع في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
ومع ذلك، ليس من المتوقع أن تُعرِض أوروبا عن المشاركة في تنفيذ الخطة، فهي فرصة لتأكيد نفوذها الجيوسياسي ووضع نفسها في موقع الضامن المحايد لموازنة بقية القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، وبخاصة أنها تملك أدوات دبلوماسية ومالية وفنية يمكن أن تحقق هذه المشاركة. ومن المحتمل أن تشمل المساهمة الأوروبية المشاركة في الهيئة الانتقالية الدولية، ومساهمة أمنية غير قتالية من طريق المشاركة في تشكيل وتمويل قوة الاستقرار الدولية التي ستنتشر في القطاع، إلى جانب تدريب ودعم قوات الشرطة الفلسطينية، والمساهمة الاقتصادية من طريق حشد المانحين ودعم برامج إعادة الإعمار. وتعد الخطة فرصة لبناء محور عربي-أوروبي لتحويلها إلى تسوية شاملة للصراع، ويستفيد هذا المحور من أدوات قانونية ومالية وسياسية مؤثرة لتحقيق هذا الهدف.