مصطفى هشام
في كتابه «الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وفي بلاد الإسلام» يحاول المنظر السياسي الفرنسي برتران بادي تقديم دراسة عن نشأة وتطور الحيز السياسي الغربي اعتمادًا على مبدأ التقابلات والمقارنة (علم الاجتماع التاريخي)، فهو أولًا يقارن المسار الغربي بآخر معاصر له مختلف عنه هوياتيًا ومكانيًا (الحيز السياسي في العالم الإسلامي)، وثانيًا يقارن داخليًا بين النموذج المسيحي الغربي والنموذج المسيحي الشرقي، وكذلك بين النماذج الأوروبية الحداثية الوليدة، سواء الفرنسية أو الإنجليزية أو الروسية.
من خلال هذا المنهج، يحاول بادي الإجابة على عدد من الأسئلة السياسية المهمة حول سبب نشأة الدولة الحديثة من الأساس، والشروط التي قامت عليها هذه الدولة في الغرب ولم تتوافر في الشرق، وهل هناك حداثة سياسية ليست غربية، وغيره من الأسئلة المهمة.
مسارات التحديث بين الثقافتين
يبدأ بادي دراسته من القرون الوسطى على اعتبار أنها كانت فترة ديناميكية أنتجت الشروط الأولى للحداثة. فالمسيحية من البداية كانت لها علاقتها الخاصة بالإمبراطورية الرومانية، ونتيجة لتلك العلاقة المهددة نشأ نمطان للعمل ينازع كل منهما الآخر تارة، ويتوازنان تارة أخرى. تنتظم الكنيسة ضمن حيزها الديني وينتظم الأباطرة ضمن حيزهم السياسي، ويتنازعان المزايا طبقًا للقوة أو للضعف.
هذا التقابل كان ضروريًا ليحدد كل منهما ذاته من خلال الآخر. فمن خلال وظيفة وحدود الدنيوي تحدد الكنيسة حدودها وبالعكس. وعلى الرغم من أن الحيز السياسي كان يعتبر في فترات أدنى من الحيز الديني بل خاضعًا له، فإن القائمين على الحيز الديني كانوا يعترفون بفائدة وجود ذلك الآخر.
في القرن الـ13، أدّت قراءة توما الإكويني لنظرية أرسطو السياسية إلى التفريق بين الإنسان الاجتماعي (المواطن) في المدينة والمسيحي المتنمي للكنيسة، فالحيز السياسي يناظر تمامًا مخططًا إلهيًا، فهو لا يدار اعتباطًا بل يخضع لقوانين الطبيعة التي يستطيع الإنسان إدراكها بفضل العقل. يقول القديس توما:
ومن شأن هذا التفريق بين القانون السماوي المنزل لخدمة أغراض البشر الروحية وبين القانون الدنيوي المتوافق مع العقل والقانون الطبيعي المحدد لخدمة صالح الجماعة، يرى فيللي أن في ثنائية القديس توماس تكمن بذور فكرة العلمانية ذاتها.
وبزيادة استقلال الحيز السياسي، يظهر على السطح ثنائيات أخرى مثل ثنائية الحيز الخاص والحيز العام، فالحيز الخاص هو حيز الفرد، حيث سلطة الكنيسة الروحية وتربيتها الأخلاقية للإنسان، والحيز العام هو حيز الحكم الجمعي للقانون، وبينهما تقع المنازعة لينتقل الجدل مرة أخرى ولتظهر ثنائية الفرد والجماعة.
ظهر هذا الجدل نتيجة نزاعات الدومنيكان والفرنسيسكان، فقد جادل دانز سكوت وويليام الأوكامي (علماء لاهوت فرانسيسكان) بأن الفرد هو وحده الذي يمكن معرفته وهو موضوع تنظيم الدولة، بالمخالفة لفكرة توما الأكويني لصالح الجماعة العضوية. وفي الحقيقة، فرفض فكرة أن المجتمع جسم طبيعي يخضع لقانون عقلاني (منظور توماس) لصالح فكرة الفرد العاقل الحر الخاضع للوحي (منظور الفرنسيسكان) كان غرضه لاهوتيًا بالكامل، حيث تُرفض فكرة النظام الطبيعي لصالح القدرة الإلهية المطلقة، حيث إن كل وجود ليس إلا حدثًا فرديًا طارئًا يمكن تأمله وتبريره فقط على ضوء الوحي المسيحي وحده.
وعليه، فقد انتصرت فكرة مدينة البشر التي تقوم على عقد اجتماعي بين أفرادها لأجل تحقيق مصالحهم استنادًا إلى فكرة الإرادة الفردية الإلهية للفرنسيسكان، فهي دولة عقد اجتماعي تقوم من خلال ممثلين للأفراد، وهي منشئة للقانون وليست ناشئة عنه ضامنة للحرية عند المصب (الحاكم) وسالبة للحرية عند المنبع (المحكومين)، لتنشأ الدولة ليس على أساس فردي أو أساس جماعي، لكن عن طريق تشكل جماعات مختلفة تنازع بعضها: جماعات قروية ومدينية، إبراشيات وطوائف عمال ثم اتحادات ذات طبيعة اجتماعية اقتصادية.
ومن خلال هذا النفوذ المتوازن، نشأت الدولة بالأساس، ومنه تأسس منهج الدولة بثنائيته الفردية والجماعية، حيث يحتكم إلى الليبرالية وفكرة المواطنية، لكنه جماعي في مفهوم الشرعية والسيادة ووسائله للترابط بالمجتمع. وبقدوم عصر الإصلاح الديني على يد المصلح البروتستانتي مارتن لوثر والمصلح الفرنسي كالفن، تمت إعادة تحديد الحيز الديني مجددًا، ولكن من داخله هذه المرة بعد أن فشل الحيز السياسي في صناعة هذا التحديد.
ففي البروتستانتية، لا تكون الكنيسة هي الوسيط بين الله والإنسان، وإنما الملك، فهو الذي يقوم على تحقيق مدينة الله على الأرض تبعًا لإرادة إلهية خاصة. وبانتقال هذه الفكرة إلى الثقافة الإنجليزية تَكوّن لاهوت سياسي أنجلو سكسوني يعاضده التوجه البرجماتي والفردي في الثقافة القانونية الإنجليزية، أصبح الملك هو نائب الله على الأرض محققًا عدالته وقانونه، وهو ما سيعرِّض استقلال الكنيسة الكاثوليكية نفسها للخطر.
لكن هذا التوافق بين البروتستانتية والثقافة الإنجليزية لم يكن من الممكن أن يستمر، حيث اختفت أي سلطة دينية، وحيث يصبح للحاكم السيطرة المطلقة، وعليه قامت ثورة البيوريتان ووجدت صدى لها داخل البرلمان الإنجليزي، وقامت بمنازعة الملك سلطاته المطلقة وإيداع السلطة في يد البرلمان، حيث يتم مناقشة القوانين وتمثيل أفراد المجتمع المدني.
وبعيدًا إلى الشرق، حيث العالم الشرقي المسيحي، نجد أن المؤسسة الدينية قد نَمت من خلال السلطة بالأساس وتحولت إلى مجرد طريقة لإضفاء صفة القداسة على القياصرة المتعاقبين، حيث «كان يُنظر إلى إمبراطورية باعتبارها قوامًا روحيًا لا يختلف كثيرًا عن الكنيسة». فكانت المسيحية في روسيا حاملة ليس فقط لحقائق دينية، وإنما للأفكار السياسية البيزنطية، وهو ما أعطى الحاكم سلطات تمكنه من تحطيم علاقات اقتصادية وتعاقدات اجتماعية سواء أرستقراطية أو مجتمع نبلاء أو ملاك أو غيره، فقط ليمنح نفسه إمكانية المواءمة مع نظام قبلي يُمارس عليه سلطة أبوية.
لكن عودةً إلى الإصلاح البروتستانتي، يمكننا أن نجد فكرة في غاية الأهمية وهي أن نقد الكنيسة وحيزها يعرّض الحيز السياسي نفسه للخطر، وعليه فكان الحيز السياسي بعيدًا عن النقد عند لوثر لأنه ضروري ووجوده أفضل من الفوضى، وعليه نشأ القانون الوضعي الذي أرجع شرعية القانون إلى إرادة الحاكم فحسب، لا إلى العقل أو القيم العليا، وهي الرؤية التي استلهمتها جزئيًا البونابرتية. أسست البونابرتية نهضة الإدارة الحكومية وموظفيها في فرنسا على أساس استتباب النظام في المجتمع، لا لتأسيس دولة العدالة أو دولة قانون الله.
السياق العربي الإسلامي
في السياق العربي الإسلامي المقارن، يتابع برتران بادي قراءته للسياق المنتج للحديث. وهو يعترف بأنه سياق ليس فقط مختلفًا، وإنما على النقيض من الأسس التي تميز التاريخ الغربي. ففي السياق العربي، لا يوجد وضوح لأي نظام سياسي، وإنما شكل من التجزئة يحكمه التوازن بين القبائل ثم محاولات استيراد نماذج حكومية بيزنطية وفارسية والانتفاع بالفكر السياسي الإغريقي. ففي الأصل، لا يوجد في العالم الإسلامي انقسام بين الحيز الديني والسياسي، وهو ما يجعله متعارضًا مع النموذج الآخر.
يجادل بادي بأن الفكر السياسي الذي ساد في العالم الإسلامي كان متأثرًا بأفلاطون بالخلاف مع الفكر الغربي. فجمهورية أفلاطون المثالية هي مدينة القانون التي يتم من خلالها تدعيم الطابع السياسي المطلق للشريعة (التطابق مع المثال الأعلى/الناموس). فالفارابي (المعلم الثاني) يرى أن المدينة لا تستطيع بلوغ العدالة إلا إذا كانت ملتزمة بالمثل الأعلى، أي بالشريعة المنزّلة بالوحي على رسول الله، وهي الفكرة التي توجّه من خلالها الفلاسفة المسلمون إلى التوفيق بين العقل والنقل بالخلاف مع علماء اللاهوت المسيحيين.
وفي الحيز الكلامي، يدور الجدال كله حول تأكيد نفس الفكرة: أن العقل لا يستطيع الحلول محل الحقيقة الموحى بها، وأنه لا يمكنه أن يكون إلا منهجًا يسمح بالوصول إلى الحقيقة، وهو ما يظهر حين تبنى المعتزلة مقولة خلق القرآن وإمكانية إيجاد سياقات أخرى للنص القرآني، وهي الفكرة التي عارضها المذهب الحنبلي بشدة لصالح طهارة التراث الديني الذي يكفي ذاته بذاته، وعارضها الأشاعرة بدرجة أقل، ليصبح التجلي السياسي لتلك الخلفية اللاهوتية والفلسفية هو أن فكرة العدالة مرتبطة بالأساس بالإرادة الإلهية، وإذا ما تم خلق قانون جديد فهو يعود ببساطة إلى قدرة الإنسان على تجويد معرفته بالعلوم الدينية وتغيّر تفسير الوحي بتغيّر الظروف.
وهكذا، ظهرت خلال القرون الثلاثة الأولى للحكم الإسلامي ثلاثة أنماط من السلوك السياسي: الأول هو مساندة سلطة الحاكم على أساس حجة الضرورة أمام حركات المنازعة على اعتبار أن الحاكم هو خليفة رسول الله، وهو ضروري لكي يكون نظام المدينة السياسي منبثقًا عن الدين الصحيح (الماوردي والغزالي). والثاني هو التجديد باللجوء للعقل عند قليل من المفكرين. وثالثًا هو تجاوز هذه التوترات والمنازعات عن طريق إحياء التقليد الموروث (ابن تيمية).
وبالانتقال إلى بوادر القرن الـ19، حيث بدايات الإصلاح والتحديث في العالم العربي، بدأت آثار الاتصال بالغرب، أو ما يسميه بادي «التحديث بصحبة الغرب»، تظهر. فمن خلال السفر إلى الغرب واعتماد السفراء المصحوبين بسكرتارية من الشبان، بالإضافة إلى محاولات إدخال الوسائل التقنية والأداتية الغربية في البلاد العربية لدفعها نحو التقدم بدلًا من الركود السياسي الذي أصابها، نشأت في العالم الإسلامي حركتان قد استجابتا لهذا التحديث:
الحركة الأولى: هي المدرسة الإصلاحية (رفاعة الطهطاوي في مصر، ابن أبي ضياف وخير الدين التونسي في تونس) وهو تيار ذو رغبة في التوليف/التوفيق بين عناصر غربية وبين العقيدة الإسلامية، وهو تيار يدعو إلى إنشاء مؤسسات عادلة تسمح بتقدم التعليم والاقتصاد والقوة السياسية، وفي نفس الوقت تظل خاضعة للتصورات الرقابية للشريعة الإسلامية.
الحركة الثانية: هي الحركة الإحيائية (جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا)، وأهم ما يميز هذه الحركة هو رؤيتها للإسلام ليس باعتباره دينًا فحسب، ولكن باعتباره حضارة أيضًا. فجمال الدين الأفغاني يرى في الإسلام مجموعة من المعايير والقيم والمبادئ الأخلاقية اللازمة لازدهار الأمة. وفي حين أن الغرب تقدم بعد تحرره من المسيحية، فإن الإسلام بالنسبة للمسلمين ليس إيمانًا مقدسًا فحسب، ولكنه ملتقى للتضامن الاجتماعي وللهوية والبناء والتقدم.
انتقلت أفكار الإحيائيين إلى الإسلاميين من أمثال حسن البنا وعبد القادر عودة وأبو الأعلى المودوي، وتبلور الحديث عن إعادة إحياء الأمة في مواجهة الكفر (دولة الجاهلية) عن طريق الجهاد في سبيل الله والتنظير لفكرة الحاكمية (سيد قطب)، على أن تكون هي الثورة الدائمة ضد كل سيطرة إنسانية (طاغوت) تخالف ما أنزل الله.
وقد انتهي امتداد الأفكار هذا إلى الصراع بين الإسلاميين والأنظمة القومية والعروبية (نظام البعث والناصرية) ذات الخطابات الماركسية، وهي التي تم استيرادها بالمخالفة مع الشرط الثقافي العربي والإسلامي، مما أدى إلى فشل التحديث بالأساس واختفاء أي إمكانية لوجود طرح مختلف.
نشأة الدولتين
يجادل برتران بادي بأن نشأة الدولة بالأساس قد حدث من خلال «التمركز». فتوافر السياقات الاجتماعية والثقافية التي سمحت بالتجمع حول المركز هو ما أدى إلى قيام الدولة بالأساس، على أن يكون التمركز هو السياق النابذ لكل أشكال علاقات التكافل الاجتماعي الأخرى كالإقطاع أو القبيلة والهادم لها.
وتتباين قوة الدول ومدى أسبقيتها بالنشأة تبعًا لتلك السياقات المختلفة ليصبح العامل الحاسم في نشأة الدولة هو تفكك الراوبط القديمة وإحلال روابط جديدة من خلال اتساع الشق بين المدينة والقرية ونمو القرية وتهديدها لسلطة الإقطاعي، واتساع الشق بين طبقة برجوازية صاعدة تنشأ في المدن ونظام إقطاعي واقع تحت ضغط داخلي وخارجي يجعله في حاجة لمساعدة الدولة.
وقد عزّزت علاقات الفاعلين الاجتماعيين (البرجوازيين والإقطاعيين والنبلاء والحاكم) وصراعاتهم وتلاقيهم في المصالح الحاجة إلى بناء مؤسسات الدولة، واقتضت وجود جهاز إداري متخم بشكل متزايد مع إصدار قوانين تحتاج قوة قسرية متزايدة. هكذا يمكن أن نقول بمنتهى الثقة إنه لم يكن من الممكن على الإطلاق بناء الدولة في الغرب لولا تعدد أنماط وسياقات ظهور الحيز السياسي، وهو ما لم يتوفر له مثيل في العالم الإسلامي، حيث تسيطر العلاقات القبلية-الجماعية أو الأبوية.
ونتيجة لتلك العلاقات الجديدة و«المركزة Centralization» وتفكك سلطة الأطراف لصالح المؤسسات الدولتية، كان لا بد للدولة من أن تضمن أمن رعاياها حفاظًا على الشرعية القانونية والتعاقدية التي حصلت عليها، وبما يتناسب مع القانون المدني المتوافَق عليه شعبيًا؛ إلا أن تحقيق الدولة للأمن لم يعنِ تراجع العنف بقدر ما هو مصادرة العنف لصالح الدولة وممارسته من قبل مؤسسات منظَّمة (ماكس فيبر).
ولتحقيق هذا الشرط الأول المرتبط بهوية الدولة بكفاءة كان لا بد لها من الاعتماد على جهاز إداري وبيروقراطي كبير وتوفير وظائف دبلوماسية وعسكرية وإدارية، ومن ثَمّ تحقيق «الرفاه Welfare»، وهو الشرط الهوياتي الثاني المُحدّد لطبيعة عمل الدولة.
وفي الحقيقة، فالدولة لم تحتكر العنف فقط لكنها احتكرت أيضًا التشريع والضرائب. فالسمة الأساسية للانتقال من العصور الوسطى إلى الدولة الحديثة هو التخلي عن العرف بوصفه الطريقة الوحيدة لصياغة القانون، وإزالة قدسية القانون ليصبح التشريع عملًا عقليًا وضعيًا من قِبل الدولة ومن قِبل الملك ذاته عند الاقتضاء.
أما بخصوص الضرائب، فقد أوجدت الدولة الحديثة نظامًا معقدًا لإدارة النظام الضريبي يقوم على الإعفاء والتحايل، ففي الوضع الطبيعي يدفع المواطن ضريبته من أجل أن تقوم الدولة بإعادة التوزيع وتحقيق الرفاه، وفي الوقت ذاته هو قيمة رمزية لتذكير الإنسان بأنه ليس حرًا بشكل مطلق إنما هو مواطن في دولة ملتزم بتعاقده معها، لكن النظام لم يقتصر على هذا الشكل فقط، وإنما هو يسمح بالإعفاءات والتحايل على الحالة الطبيعية كلما اقتربت من مركز السلطة.
وبالانتقال إلى التحديث السياسي في العالم الإسلامي، نجد مجموعة من المفارقات بخصوص نشأة الدولة، منها أن الحاجة إلى تدعيم المركز يعني المواجهة مع قوى اجتماعية فاعلة قوية ليست راضية عن وجود مركز قوي. علاوة على ذلك، لم يجد المشروع السياسي الحديث الدعم الكافي الذي يقدّمه تنافس النخب الاقتصادية والاجتماعية كما في الغرب، وذلك لتشابك مصالح تلك النخب في العالم الإسلامي وقلة صدامهم.
بسبب تلك العلاقة بين المركز والأعيان (القوى الاجتماعية الفاعلة)، أصبح هناك غياب لمقوّم الأمان والبيروقراطية في العالم الإسلامي، ولم تحتج الطبقة الوسطى الحضارية للجوء إلى الدولة لطلب الحماية والأمان، يقول بادي:
ففي الأناضول والعراق وسوريا، وجد ممثل البيروقراطية المركزية نفسه عاجزًا عن القيام بعمل سياسي، ووجب عليه الاستعانة بالأعيان الذين استفادوا من الموقف بتعطيل تدابير السياسات العقارية من أجل زيادة ثرواتهم وسلطتهم الاجتماعية، ويفسّر هذا تأصل الأغوات والأعيان والشيوخ وقدرتهم السياسية ونجاحهم في التحالف مع علماء الدين أغلب الأحيان من أجل تعبئة السكان ضد المركز وتنظيم الثورات.
على أن فشل المركز في التغلغل داخل النظام الاجتماعي قد فرض عليه عزلة وانطواء ذاتيًا بسبب فشله في طموحاته التحديثية وضعف وسائل اتصاله داخل القطاعات الاجتماعية على الأطراف، مما جعله يلجأ إلى تلك الأطرف لتنفيذ أي استراتيجية تحقق مصالح تلك الفئات، وبذلك يُعيد إنتاج هذه الفئات المجتمعية دون أي خطوات تحديثية حقيقية أبعد عن شريحته الأوليجارشية الحاكمة والأقليات الثقافية المختلفة.
ويرى برتران بادي أن ثاني أهم سبب لفشل التحديث في العالم العربي هو أن المقاومة الاجتماعية لم تكن متواطئة كما حدث في أوروبا، حيث اتسمت مواجهة المركز في العالم العربي بمقاومة شديدة العنف؛ الأمر الذي عمّق الفجوة بين الحيز السياسي والشكل الاجتماعي، وهو ما يجعل الأنظمة السياسية الحديثة في العالم العربي تلجأ إلى وسائل أخرى لتدعيم شرعيتها، كعلاقاتها مع المجتمع الدولي العالمي، أو استحداث أدوات تكنولوجية وتقنية جديدة.
يؤدي هذا بدوره إلى تحفّز المجتمع نفسه ضد النظام استنادًا إلى مبدأ الأصالة والهوية ورفض الانسلاخ، وهو ما يدفع لإنشاء أنظمة سلطوية تستولي على الحكم بالقوة كاستيلاء مصطفى كمال أتاتورك على الحكم في تركيا أو رضا خان على الحكم في إيران. ينتج عن هذه المشكلات ثلاثة أنماط من التحديث تم اتباعها:-
أولها: التحديث المحافظ، وفيه يكون الحاكم متحليًا بشرعية تقليدية ويسعى إلى فرض نظام سياسي حديث، وبذلك يحافظ على المزج بين التحديث والمحافظة، وهو نمط تمت ملاحظته في الإمبراطورية العثمانية وفي إيران في عهد القاجاريين.
النمط الثاني: هو التحديث الثوري الذي يتم فيه التشهير بكل أشكال السلطة التقليدية على اعتبار أنها غير عادلة وغير فعالة، ويجري إحلال ممارسات جديدة، وهو ما تمت ملاحظته خلال الممارسات البعثية والناصرية والبورقيبية.
أما النمط الثالث: فهو التحديث المضاد، وهو المرتبط بنمو الأصولية الإسلامية والعودة إلى مرجعية التقليد الموروث والنضال للعودة إلى القديم، وهو ما تمت ملاحظته من خلال ما حدث في الجمهورية الإسلامية الإيرانية المعاصرة.
نموذجان للمنازعة السياسية
لم تكتفِ عمليات التحديث بإقامة نظام بيروقراطي وهياكل سياسية وحكومات فقط، لكنها أيضًا نظّمت أدوات المنازعة السياسية بين الشعوب من أجل المطالبة بالسلطة في حالة اختلال الحيز السياسي أو طغيانه. أخذ تنظيم أدوات المنازعة السياسية تلك في الغرب نمطًا تطوريًا بداية من الثورات البدائية وصولًا إلى حركات منظمة خاضعة للسيطرة والإشراف.
يقر هذا خبراء التعبئة في الغرب، فحركة التصنيع وتطور نمط الإنتاج حوّلا الحركات الشعبية من أشكالها البدائية الأولى التي يغلب عليها الشحاذون والعاطلون والبؤساء (مظاهرات الجوع) كما في الثورة الفرنسية، إلى نموذج حركة عمالية منظّمة لها موقع اجتماعي معترف به، ومَطالِب موجهة إلى مركز السلطة مباشرة. وبالإضافة إلى أثر تطور نمط الإنتاج بعد الثورة الصناعية على تنظيم الحركة الاجتماعية، يمكننا أن نرى كما يرى برتران بادي أن تطور نمط المنازعة قد حدث لتوجه كلي وعقلاني من خلال مفهوم «المواطنة»، وعلى أسس ترابطية وتعاقدية.
لم يحدث هذا في العالم الإسلامي، فالجماهير التي خرجت في طهران 1979 أو في تونس 1984 كان يغلب عليها ضعف التنظيم ورومانسية الشعارات المطروحة بلا أي أساس عملي أو تنظيمي له قوة فعلية أو مشروع واضح المعالم، وهي تحتج ضد الجوع والتحديث والأجانب في نفس الوقت، وهي حركات تعتمد على علاقات اجتماعية متذبذبة ذات روابط ضعيفة مع الفئات الفاعلة داخل المجتمع وكذلك داخل المسرح السياسي.
وعليه، لا ترتكز طريقة المنازعة في العالم الإسلامي على أساس مطالبة السلطة أو منازعتها، وإنما تهدف إلى هدم النظام السياسي كله وإنشاء غيره، وهي إما أن تُمنى بالهزيمة الساحقة أو تنجح لتخرج من بين صفوفها أنظمة شديدة السلطوية. وفي النهاية يقول برتران بادي:
رابط المصدر:
https://www.ida2at.com/two-countries-are-contradictions-modernity-between-east-west/