الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في العلوم النفسية والتربوية

مقدمة : –

في ظل التحوّلات المتسارعة التي يشهدها العالم المعاصر، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرّد إنجاز تقني، بل غدا إطارًا معرفيًا يعيد تشكيل الفضاءات الإدراكية والنفسية والتربوية، فارضًا نفسه كفاعل مركزي في عمليات اتخاذ القرار، وبناء المعرفة، وإعادة توجيه العلاقة التربوية برمّتها. لم تعد ممارسات التعليم والتكوين بمنأى عن تأثيره، بل باتت في صلب مجالات اشتغاله، من خلال تصميم بيئات تعلّم متكيّفة، وتطوير أدوات تقييم ذكية، وتفعيل أنظمة دعم نفسي افتراضية، ما يستوجب مقاربة نقدية لتحديد رهانات هذا التغيير وحدود.  في هذا السياق، يشير باحثون في معجم “العلوم المعرفية: علوم الأعصاب، علم النفس، الذكاء الاصطناعي، اللسانيات، الفلسفة” : إلى أنّ الذكاء الاصطناعي، باعتباره جزءًا من العلوم المعرفية، “يتيح إمكانات غير مسبوقة لفهم آليات التفكير والتعلّم، لا سيما حين يُوظَّف بالتكامل مع علوم الأعصاب وعلم النفس المعرفي”[1] (Houdé et al, 2004). فالآلة، حين تُبرمج لمحاكاة نماذج الاستدلال البشري أو تحليل الخطاب العاطفي، لا تكتفي بمعالجة المعطيات، بل تنخرط في إنتاج معرفة تشاركية تتقاطع مع الأبعاد النفسية للمتعلم. غير أنّ هذا التوسّع في الأدوار يولّد إشكاليات عميقة. فمن جهة، يطرح التعلّم المدعوم بالذكاء الاصطناعي تساؤلات جوهرية حول التحوّل في وظيفة المربّي، وتغيّر طبيعة العلاقة البيداغوجية، مما يستدعي مراجعة أنماط التفاعل في الفضاء المدرسي والتكويني. ومن جهة أخرى، فإنّ حضور وسائط ذكية تُحاكي التعاطف أو تُقدِّم الدعم النفسي، يُحيل إلى تساؤلات دقيقة حول مصداقية العلاقة الإنسانية، وحول أثر هذه المحاكاة على النمو العاطفي والسلوكي، خاصة في المراحل العمرية الحرجة. و”تزداد هذه التساؤلات عمقًا وأهمية في ضوء القراءات المعمّقة في علم النفس المعرفي”[2] التي يقدّمها كلّ من (Collins & Smith, 1988).

فالتعلم لا يُختزل في نقل المعلومة أو تحليل الأداء، بل يتجذّر في السياقات الاجتماعية والانفعالية للمتعلم، وهي أبعاد يصعب تمثيلها تقنيًا دون تقييدها أو تبسيطها. لذا، فإنّ الذكاء الاصطناعي، رغم قدراته الفائقة في تحليل البيانات والتنبّؤ بالأنماط، يظل في حاجة إلى توجيه بيداغوجي وإنساني يضمن ألا تتحوّل البيئات التعليمية إلى فضاءات معيارية جامدة أو متحيّزة. تأسيسًا على ذلك، فإنّ التفكير في إدماج الذكاء الاصطناعي في العلوم النفسية والتربوية لا يمكن أن ينفصل عن مراجعة فلسفية لقيم الإنصاف، والرعاية، والحرية في التعلّم. كما يستوجب تطوير أطر أخلاقية واضحة تنظّم استخدام الخوارزميات في تقييم الأفراد، وتحدّ من مخاطر التحيّز أو التنبّؤ الجائر، بما يضمن تكاملًا خلاقًا بين التقنية والذات الإنسانية. وعليه، فإنّ الرهان المعرفي اليوم لا يكمن في معارضة الذكاء الاصطناعي أو تبنّيه بلا شروط، بل في بلورة مقاربة نقدية ومتكاملة تعيد التفكير في الوظائف النفسية والتربوية في ضوء تحولات الذكاء الاصطناعي، مستندة إلى مرجعيات معرفية راسخة ومتقاطعة.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M