الصراع في السويداء: الحاجة إلى تعديل المسار الانتقالي في سورية

  • فشل الرئيس السوري أحمد الشرع في حسم معركة السويداء لمصلحته، وخرج منها أضعف؛ مما أسهم في تراجع شرعيته وسلطته داخلياً، ومكانته إقليمياً وصورته دولياً.
  • تستغل إسرائيل دعوى حماية الدروز لجعل منطقة جنوب سورية منزوعة السلاح، ولمنع تسرُّب النفوذ التركي إلى هذه المنطقة. وأصبح موقف الشرع أمام إسرائيل أشد ضعفاً بعد حملة السويداء، وذلك في لحظة حساسة من المفاوضات السورية-الإسرائيلية حول اتفاق عدم الاعتداء. 
  • على الرغم من الحراك السياسي والدبلوماسي الجاري حول السويداء، فإنّ تسوية أوضاعها بشكل نهائي يظل أمراً صعباً ومعقداً، ولا تزال كل الأطراف ترى في وقف إطلاق النار هدنة مؤقتة قد تنهار في أي وقت، وذلك بينما تواصل إسرائيل إرسال التعزيزات إلى المقاتلين الدروز.
  • سيكون لأحداث السويداء تداعيات داخلية تتعلق بتضرر النسيج الوطني السوري، وباضطرار الشرع لأن يجري تعديلاً في سياسات المرحلة الانتقالية نحو المزيد من التشاركية للمناطق والأقليات، فضلاً عن مقاربته التفاوضية مع “قسد”. 

 

تُمثِّل أحداث السويداء، التي بدأت في 13 يوليو 2025، أخطر تحدٍ واجهته الحكومة الانتقالية السورية حتى الآن. فقد بدأ الصراع من حادثة فردية لكنه سرعان ما تصاعد إلى مواجهات طائفية دامية أخذت أبعاداً خارجية. وقد مثلت هذه الأزمة تهديداً لوحدة الكيان السوري، ومن المرجح أن تستمر آثارها وتداعياتها على النسيج الوطني السوري لسنوات طويلة.

 

تسعى هذه الورقة إلى تحليل مجريات أحداث السويداء، ثم تُسلّط الضوء على أبعادها الإقليمية والدولية، لتنتقل بعد ذلك إلى استعراض تداعياتها الأوسع.

 

سعي الشرع لبسط سلطته على المناطق السورية

منذ وصوله إلى دمشق عقب إطاحة نظام بشار الأسد، وضع الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع نصب عينيه هدف بسط سلطات الدولة على كامل التراب السوري، جنباً إلى جنب مع بناء نظام حكم جديد يتمحور حوله، وسط معارضة رئيس الهيئة الروحية للموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري، وقائد “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) مظلوم عبدي.

 

وطوال الأشهر الفائتة، سعى الشرع بشكل فاتر، للتوصل إلى اتفاقات وتفاهمات مع بقية القادة الدروز في محافظة السويداء، إلا أن الشيخ الهجري كان يُفشلها. جاءت أحداث الساحل السوري (في خلال الفترة 6-10 مارس) وما ارتكبته الفصائل التابعة لوزارة الدفاع من مجازر بحق العلويين، والاقتتال الذي حصل بين فصائل الجيش والمقاتلين الدروز في مدينة جرمانا وبلدة صحنايا بريف دمشق (في خلال الفترة 29-30 أبريل) وما وقع من اعتداءات وانتهاكات بحق الدروز، لتدفع أقسام من الرأي العام الدرزي بمحافظة السويداء إلى دعم وتأييد الشيخ الهجري الذي كان معزولاً في البداية.

 

طرأ تحسُّن على موقف الشرع الدولي، بعد لقائه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الرياض (14 مايو)، والقرار الذي اتخذه الأخير برفع العقوبات عن سورية. قرر الإسرائيليون التعاطي مع الرئيس السوري وأطلقوا مساراً تفاوضياً معه، تم تدعيمه بوساطة  قادها مبعوث الرئيس ترامب إلى سورية توماس برّاك بين دمشق وتل أبيب.  وجد الشرع في الاعتداء على محافظ السويداء مصطفى بكور (يوم 21 مايو)، فرصةً لتصليب موقفه حيال الهجري، واتخذ قراراً بنقل المسؤولية عن المحافظة إلى العميد أحمد الدالاتي الذي عُيّن رئيساً للأمن الداخلي في المحافظة يوم 25 مايو. في حين شعر قادة الدروز بضعف قدرتهم على التأثير في قرار دمشق الحاسم، على الرغم من مدّ يدهم إلى الشرع، بمن فيهم الشيخ الهجري الذي استقبل بحفاوة محافظ السويداء في خلال زيارة قصيرة إلى المحافظة يوم 24 يونيو.

 

حملة عنوانها سوء التقدير

بدأت الأزمة يوم 9 يوليو بعد خطف تاجر خضار من الدروز وهو عائد من العاصمة في منطقة تقع خارج الحدود الإدارية للمحافظة تسكنها البدو. رداً على ذلك قامت مجموعات درزية بخطف 8 أشخاص من البدو، فردت العشائر البدوية القاطنة في حي المقوس وسط مدينة السويداء بخطف سكان دروز، ما أدى إلى اندلاع اشتباكات عنيفة بين المقاتلين الدروز ومسلحي العشائر البدوية وقطع طريق دمشق السويداء بحلول يوم 13 يوليو.

 

نظرت حكومة الشرع للصراع بين البدو والدروز بوصفه فرصة للتدخل في المحافظة بحجة إنهاء الاقتتال واستعادة الاستقرار وفرض سلطة الدولة، بعد أشهر من حوار غير مُجدٍ مع القادة الدروز. واستناداً إلى ضوء أخضر أمريكي-إسرائيلي وتوافق مع القيادات الدرزية (وفقاً للرواية الرسمية)، أرسلت السلطات السورية في 14 يوليو القوات الحكومية مدعومة بدبابات ومدرعات ثقيلة إلى المحافظة، ومع تقدم هذه القوات اتخذت الرئاسة الروحية للطائفة الدرزية صباح يوم 15 يوليو “موقفاً مرحباً” بها. تنفَّست السلطات في دمشق الصعداء بعد موافقة الهجري على دخول قواتها المحافظة، حيث انتشرت في مدينة السويداء. وفي نشوة النصر، طالب قائد الأمن الداخلي في محافظة السويداء العميد أحمد الدالاتي الفصائل الدرزية بـ “تسليم السلاح”، وهو أمر ترفضه الفصائل المحلية كافة، وليس فقط المحسوبة على الهجري، وأبرزها “المجلس العسكري”. وحصلت اشتباكات بين القوات الحكومية والفصائل المحلية، وارتكبت قوات الأمن والجيش فظائع مماثلة لما ارتكبته في الساحل، ما أدى إلى تراجع الهجري عن موقفه، وزعم أن موافقته جاء استجابةً لـ “ضغوط دول خارجية” لم يُسمِّها، وأعلن رفضه دخول قوات الشرع “التكفيرية” أراضي السويداء، وناشد في بيان نتنياهو من بين زعماء آخرين بـ “إنقاذ السويداء“.

 

نظرت حكومة الشرع للصراع بين البدو والدروز بوصفه فرصة للتدخل في السويداء بحجة إنهاء الاقتتال وفرض سلطة الدولة

 

استجابت إسرائيل لمناشدة الهجري، وشنَّت يوم 16 يوليو ضربات على مواقع للجيش في درعا والسويداء وريف دمشق، وأخرى تحذيرية على مقري هيئة أركان الجيش ووزارة الدفاع ومحيط القصر الرئاسي. ولوحت إسرائيل بتدخل بري انطلاقاً من الجولان المحتل، لإجبار الشرع على سحب قواته من السويداء، ما أدى إلى إعلان وزير الدفاع مرهف أبو قصرة عن وقف إطلاق النار في المحافظة وبدء سحب الجيش لآلياته الثقيلة من السويداء، تمهيداً لتسليم أحياء المدينة إلى قوى الأمن الداخلي.

 

ومع فشل وقف إطلاق النار الذي أعلنه وزير الدفاع، تمكّنت وزارة الداخلية من التوصل إلى اتفاق جديد لوقف إطلاق النار مع الشيخ يوسف جربوع. رفض الهجري الاتفاق، ودعا إلى تحرير المحافظة من “العصابات الإرهابية.” أيدت إسرائيل موقف الهجري، واستمر سلاح الجو الإسرائيلي في استهداف مواقع الجيش السوري. وعلى خلفية تحسُّن موقف الهجري، وضع مطلبين جديدين أمام المفاوضات التي قادتها واشنطن: فتح معبر مع الأردن، وفتح الطرق بين السويداء ومناطق “قسد”.

 

على خلفية سوء التقدير الكارثي للشرع، وانسحاب القوات الحكومية، حاولت القيادة في دمشق تعديل ميزان القوى عبر ورقة العشائر. أفسحت السلطات السورية يوم 18 يوليو المجال لمسلحي العشائر التي تداعت لحماية السكان البدو من الانتهاكات التي ارتكبتها الفصائل المحلية، واجتاحت العشائر المحافظة وسيطرت على أغلب أحياء مدينة السويداء.

 

نجحت الوساطة الأمريكية في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وسورية يوم 18 يوليو، دعمته أنقرة وعمّان ودول أخرى. وفي اليوم التالي، أعلنت الرئاسة السورية عن وقف فوري وشامل لإطلاق النار في السويداء، وافق عليه الهجري، بينما توجه الرئيس الشرع بالشكر إلى العشائر على “مواقفها البطولية“.

 

ولتثبيت وقف إطلاق النار في السويداء، استضافت العاصمة الأردنية عمّان لقاءً ثلاثياً شارك فيه المبعوث الأمريكي إلى سورية توم براك، إلى جانب وزيري الخارجية الأردني الصفدي، والسوري أسعد الشيباني، وحضرها ممثلون عن الشيخ الهجري وبدو محافظة السويداء. واتُّفق على تنفيذ الاتفاق الجديد على ثلاث مراحل، تتضمن انتشار قوات الأمن في الريف الغربي والشمالي للسويداء، ثم إقامة معابر إنسانية وإخراج السكان البدو من المناطق التي يسيطر عليها الدروز، وصولاً إلى ترسيخ الهدنة عبر تفعيل مؤسسات الدولة وانتشار عناصر الأمن الداخلي، مع التشديد على قيام السلطات بمحاسبة المنتهكين. وبحلول يوم 20 يوليو توقفت الاشتباكات في محافظة السويداء وجرى إخلاؤها من مسلحي العشائر، بعد أن نجحت في إرهاق المقاتلين الدروز وإرغامهم على طلب الالتزام بوقف إطلاق النار. وبحلول يوم 26 يوليو، تم إخراج السكان البدو من السويداء إلى مراكز إيواء أعُدِّت في محافظات درعا وريف دمشق ودمشق.

 

البُعد الجيوسياسي للصراع على السويداء 

مع أن الشرارة الأولى لهذا التصعيد كانت محلية، إلا أن فهم تطورات الوضع في السويداء لا يمكن أن يكتمل دون الأخذ في الاعتبار أولويات إسرائيل الأمنية في جنوب سورية، وخلافاتها الجيوسياسية، وبخاصة مع تركيا، إضافة إلى دور الولايات المتحدة في إدارة تلك التوترات بين هذه الدول الحليفة.

 

في إطار الرؤية الإسرائيلية الجديدة للشرق الأوسط، تُعدّ السويداء جزءاً من منطقة جنوب سورية التي تطالب تل أبيب بجعلها منزوعة السلاح، وهو العامل الذي منع تمدد قبضة السلطات الجديدة إلى السويداء. كان لدى إسرائيل بالفعل علم بنيّة الشرع إرسال قواته إلى السويداء، حتى إنها لم تمانع في دخولها إلى هناك، كما أن التفاهمات التي توصل إليها الجانبان في الإمارات وأذربيجان كانت واعدة لكل الطرفين، وبخاصة أنها تزامنت مع وساطة أمريكية حددت إطار المفاوضات بالتوصل إلى اتفاق عدم اعتداء بين الجانبين وإحياء اتفاقية فض الاشتباك بين الجانبين لعام 1974 مع بعض التعديلات.

 

إلا أن سوء فهم حصل بين الجانبين وفقاً لما ذكره وزير الخارجية الأمريكي مايك روبيو. ربما وافقت إسرائيل على دخول قوات أمنية إلى مناطق جنوب سورية، لكن من ضمن مفهومها للمنطقة منزوعة السلاح، من دون أن توافق على دخول أسلحة ثقيلة إلى أي من محافظات الجنوب (السويداء، ودرعا، والقنيطرة). وربما رأت إسرائيل في دخول فرق محسوبة على أنقرة، مثل الفرقة 86 التي يقودها أحمد الهايس (الملقب بأبو حاتم شقرا وكان يقود سابقاً “أحرار الشرقية” المنضوية تحت لواء “الجيش الوطني السوري” الموالي لتركيا)، تغلغلاً للنفوذ التركي. تزامنت هذه الحسابات مع هيجان درزي داخل إسرائيل، ساهم في إجماع الطيف السياسي الإسرائيلي على عرقلة جهود الشرع.

 

أخيراً، دأبت إسرائيل على استغلال أزمة الثقة بين حكومة الشرع والأقليات العرقية والدينية لدفع أجندتها في سورية ما بعد الأسد، وفي هذا الإطار تستخدم إسرائيل التوترات في السويداء ذريعة من أجل إدامة احتلالها للمناطق الجديدة بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024. وعبر التدخل في مسألة السويداء، تسعى إسرائيل أيضاً إلى إضعاف المكون السُّني، والتحكم بالمسارات البرية بين منطقة الخليج وشرق المتوسط، وفي هذا الإطار هددت إسرائيل باستهداف المعدات الثقيلة للجيش السوري في محافظة درعا ما لم تسحبها الحكومة السورية في خلال شهر. لكن الإسرائيليين ومع إدراكهم لمحاولات الإيرانيين استغلال الفوضى في جنوب سورية من أجل دفعها إلى الاصطدام بالشرع وتركيا والسعودية، قرروا العودة إلى منصة أذربيجان المصممة للتعاون الأمني الإسرائيلي السوري-التركي ضد بقايا النفوذ الإيراني.

 

تستخدم إسرائيل التوترات في السويداء ذريعة من أجل إدامة احتلالها للمناطق الجديدة بعد سقوط نظام الأسد

 

بدورها، قادت الرياض الجهود لدعم نظام الشرع، فقد أيدت تحركات الجيش السوري بالتنسيق مع بقية دول الخليج، وتصدرت الجهود الدبلوماسية لإدانة التدخل الإسرائيلي في مجلس الأمن، وضغطت على واشنطن لضبطه. كما أفسحت المجال أمام الشرع كي يطور روابطه العسكرية مع تركيا بما يوفر درجةً من الحماية لنظامه الناشئ. تعي الرياض أن إسرائيل تسعى لقطع “الجسر الحوراني” وفصل سورية عن الخليج. وتشتبه بأن نتنياهو ينتهج سياسة حافة الهاوية في سورية، ما يُهدد الأمن القومي السعودي والخليجي.

 

أما الأتراك فقد كانوا في موقف دقيق، فهُم شجعوا عملية الشرع ضد السويداء، إلا أن التدخل العسكري الإسرائيلي أصاب الشرع بانتكاسة خطيرة أثّرت في سلطته خلال لحظة حاسمة من المفاوضات مع قائد “قسد” الجنرال مظلوم عبدي. وكانت هزيمة الشرع أمام الهجري وإسرائيل ستعني تضعضع الخطط التركية لإنهاء حالة “قسد” في شمال شرقي سورية بعد قبول حزب العمال الكردستاني في تركيا التخلي عن العمل المسلح. ورأت تركيا في التدخل الإسرائيلي دليلاً على صعوبة إرضاء تل أبيب بحصتها من النظام الإقليمي الجديد المتشكل بعد انهيار الهيمنة الإيرانية على المشرق العربي، لكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكد أنَّه لن يتخلى عن الشرع ولن يقبل تقسيم سورية، بينما وصف وزير خارجيته حقان فيدان الهجري بـ “وكيل إسرائيل“.

 

وفي المقابل، استفادت تركيا من الموقف الذي وضع الشرع نفسه فيه، حيث باتت دمشق بحاجة ماسَّة إلى أنقرة، وبالفعل تقدمت حكومة الشرع بطلب رسمي لتعزيز قدراتها العسكرية إلى تركيا. ونالت أنقرة دعماً سعودياً وأمريكياً لدورها في سورية. وبدا مبعوث الرئيس الأمريكي إلى سورية توم براك أقل تحفظاً بشأن عقد اتفاقات دفاعية بين سورية وتركيا.

 

كانت واشنطن الأكثر قلقاً من أزمة السويداء، إذ إن جميع الأطراف المتورطة فيها، وبالذات إسرائيل وتركيا، هُم من حلفائها. كما أنها كانت قد بدأت بدعم النظام الجديد ورفع العقوبات عنه، سعياً لترسيخ الاستقرار في سورية. انتقد براك يوم 21 يوليو إسرائيل قائلاً إنها تفضل رؤية “سورية مقسمة”، ونفض يديه من التدخل الإسرائيلي، مؤكداً أن تل أبيب تحركت بمفردها، وحضّ الأقليات على “البقاء موحدين داخل دولة مركزية”. وعملت واشنطن على تثبيت الهدنة، ورعت حواراً رفيع المستوى بين أسعد الشيباني ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر في باريس، وأعادت فتح ملف المرحلة الانتقالية تمهيداً لإطلاق جولة جديدة من المفاوضات بين الحكومة وقوى المعارضة في فرنسا وذلك لطمأنة الأقليات، ودعا براك الشرع إلى تقويم سياساته وتبني نهج أكثر شمولاً.

 

لكن واشنطن لم تقطع رهانها على الشرع الذي برّأته من ارتكاب “الفظائع” في السويداء، ورأت ألا “خليفة أو بديل له”، فيما يبدو وضع الأمور في سورية بين خيارين “الشرع أو الفوضى”، في رسالة واضحة إلى الإسرائيليين. كما سرَّبت الإدارة الأمريكية أنباء عن تفاجؤ ترمب بالقصف الإسرائيلي على مبنى وزارة الدفاع بدمشق، وحنقه حيال نتنياهو. وفي يوم 27 يوليو، كانت جهود واشنطن قد سمحت لمبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف أن يؤكد أن التوترات في سورية “تتجه نحو التسوية“.

 

تمكَّنت واشنطن من احتواء التوتر في السويداء وبين حلفائها المتخاصمين، لكن الخلافات الجيوسياسية ستبقى حاضرة، طالما أنها تمسّ أمن إسرائيل في سورية، لاسيما في الجنوب. لذلك، يبقى الدور الأمريكي النشط في احتواء هذه التوترات ضرورةً لا غنى عنها في المرحلة المقبلة.

 

تداعيات حملة السويداء الفاشلة

خلّفت أحداث السويداء أثراً كبيراً على المستوى المحلي داخل المحافظة، وعلى مستوى جنوب سورية، وعلى المستوى الوطني، وحتى على المستوى الإقليمي. ومن المرجح أن تتردد تبعات هذه الأحداث لفترة طويلة، وقد تشكّل مقدّمة لتصعيدات جديدة. وفيما يلي لمحة سريعة عن أبرز هذه التبعات:

 

  • التداعيات الإنسانية وعلى السلم الأهلي: أدت حملة الشرع الفاشلة على السويداء إلى تداعيات كارثية على محافظة السويداء، وعلى السلم الأهلي بين السوريين، إذ فَقَد أكثر من 1400 شخص حياتهم في خلال الصراع الذي شهدته المحافظة ونزح عشرات الآلاف وفق الأمم المتحدة، فضلاً  عن الفظاعات التي انتشرت فيديوهات لها والتي ارتكبها الجانبان. وأُجلي نحو 1500 من سكان البدو داخل السويداء، بالتزامن مع انسحاب القوات الحكومية، في خطوة بدت ضرورة أمنية لمنع المزيد من الاعتداءات من قِبل مجموعات درزية على البدو. ومع ذلك، يبقى من غير الواضح ما إذا كانت هذه الخطوة ستتحوّل إلى تهجير دائم، ما يعني حدوث تغيير ديمغرافي في المنطقة سيكون له تداعيات طويلة الأمد على العلاقات بين البدو والدروز وبين الأخيرين والحوارنة أيضاً.

 

 

أدت حملة الشرع الفاشلة على السويداء إلى تداعيات كارثية على محافظة السويداء، وعلى السلم الأهلي بين السوريين

 

  • التداعيات على السلطة الانتقالية: فقد اهتزت شرعية هذه السلطة بعد الخسائر التي تعرضت لها قوات الأمن والجيش، واضطرارها للاعتماد على العشائر والتحريض الطائفي على الدروز، وهو ما استغلته التيارات والجماعات المتطرفة من أجل دفع أجندتها التكفيرية. وبالتالي، زاد التباعُد داخل الطيف السُّني بين الشرع والمتطرفين حوله من جهة وبين السُّنة المعتدلين من جهة ثانية، وهو ما عبّرت عنه فتوى المجلس الأعلى للإفتاء المخالفة لتصرفات قوات الشرع في السويداء ولفتاوي شرعيي الفصائل المستندة إلى ابن تيمية في غالبيتها. كما ألْقت أحداث السويداء بظلالها على سلطة الشرع الداخلية، إذ ظهر بمظهر العاجز أمام إسرائيل والدروز، وانتشرت تقارير عن تعرُّضه لخداع إسرائيلي، ما انتقص من مكانته بين أنصاره وفي دوائر السلطة. وأخيراً، أثّرت مجريات الأزمة في السويداء على العلاقات بين الفصائل المنضوية تحت لواء وزارة الدفاع التي تبنَّت نهجاً طائفياً في التعامل مع الدروز، وبين الوزراء التقنيين الذين حافظوا على نهج أكثر شمولاً ووطنية. وبسبب سوء تقدير الشرع، بدأت الدول التي كانت تتجاهل سابقاً أهمية إشراك أطياف المعارضة والأقليات العرقية والدينية في مسار الانتقال السياسي في سورية – وعلى رأسها الولايات المتحدة – بالمطالبة بمنح هذه المكوّنات دوراً أكبر. والمؤشّر الأبرز على هذا التحوّل هو إدخال فرنسا على الخط لتقود هذا المسار. قد لا يُحدث ذلك تحولاً كبيراً في سياسات الشرع على المستوى الاستراتيجي، لكنَّه على الأرجح سيضطر عملياً لإجراء بعض التعديلات تضمن درجةً أعلى من التشاركية، ومن ذلك ما تورده تسريبات إعلامية عن اتجاه الشرع إلى تشكيل حكومة تكون أوسع تمثيلاً.

 

  • الارتدادات على الملف الكردي: لعل التداعيات الأكبر داخلياً ستكون على إدارة المفاوضات مع “قسد” التي ازداد رفضها للتعاون مع سلطة الشرع بعد ما ظهر أنها قائمة على تحالف عضوي بين متطرفين وعشائر، وهما من أكبر أعداء “قسد” خاصةً، والأكراد عامةً. وقد سعت “قسد” للاستفادة من حراجة وضع الشرع كما فعلت إبان مجازر الساحل في مارس الماضي. في هذا السياق، عقد عبدي لقاءً مع الشيباني بوساطة برّاك في عمّان، وكان من المقرر أن يتم عقد اجتماع آخر في باريس، إلا أن دمشق تراجعت عنه، وعادت إلى الإصرار على التطبيق الكامل والفوري لاتفاق 10 مارس. ولتمتين جبهتها الداخلية، تقدمت “قسد” بعروض لعشائر دير الزور في مسعى لتحييدها عن أي صراع. وبالنسبة للإدارة الأمريكية فإنها ضغطت بقوة على “قسد” من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات من دون شروط جديدة، وأبرزت استمرار دعمها للشرع من طريق الشراكة في تنفيذ عملية ضد قيادي كبير في تنظيم “داعش” في مدينة الباب بمحافظة حلب.

 

  • على الصعيد الإقليمي: دفعت الأحداث في السويداء الرياض وواشنطن إلى سحب تحفظاتهما عن التعاون العسكري التركي-السوري، كما اضطرت الرياض وأنقرة إلى الموافقة على أن تؤدي فرنسا دوراً في إدخال الأقليات إلى هياكل الدولة السورية الجديدة، بناءً على خطة أمريكية. وبالنسبة للأتراك فقد تضطرهم أحداث السويداء إلى إعادة النظر في نهجهم المتشدد حيال “قسد”، على الأقل ريثما يتم إصلاح الكارثة التي تسببت به حملة الشرع على السويداء، سواء على قواته الأمنية ومكانته الإقليمية أو سمعته الدولية. كما أصبح موقف الشرع أمام إسرائيل أشد ضعفاً بعد حملة السويداء، وذلك في لحظة حساسة من المفاوضات السورية-الإسرائيلية حول اتفاق عدم الاعتداء.

 

الخلاصة

أسفرت حملة السويداء الفاشلة، والتصعيد الإقليمي الذي رافقها، عن تزعزع قبضة أحمد الشرع على السلطة، وعن بدء الولايات المتحدة مراجعة إدارته للمرحلة الانتقالية في البلاد، وعن تحول في الموقف الأمريكي نحو ضرورة إشراك الأقليات في هياكل الدولة بشكل أو بآخر، وسيكون لرد فعله على هذا المنحى الجديد في علاقته بواشنطن تأثير على مجمل أوضاعه الإقليمية والدولية. وقد شكّلت مسألة السويداء مدخلاً مناسباً لإسرائيل للتدخل في الشأن السوري وفرض وجهة نظرها على بنية الدولة السورية والنظام الإقليمي المتشكل عقب تراجُع النفوذ الإيراني. وسيكون صعباً على الشرع القبول بما ستُمليه واشنطن وتل أبيب من حلول لمسألة السويداء، نظراً لأن “قسد” والعلويين سينظرون إلى تلك الحلول على أنها مثال سيطلبون بمثله، ما سيُعيد فتح مسألة الساحل ويعقّد المفاوضات مع “قسد”

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M