القصّة الشّعريّة في الأدب العربي الحديث

تقديم :-

يتمثّل عملنا هذا في افتراض وجود جنس سرديّ هجين في الأدب العربيّ يجمع بين نثريّة السّرد ومقوّمات القصّ من ناحية وأساليب الشّعر وأدواته من ناحية أخرى: ألا وهو جنس القصّة الشّعريّة. ولقد انطلقنا في فرضيّتنا هذه من المقوّمات التي حدّدها له “جان إيف تادييه” ومن البراهين التي أبداها على وجوده في الأدب الغربي وذلك في كتابه le récit poétique، الذي بيّن فيه أنّ القصّة الشّعريّة هي حلقة وصل بين الرّواية والقصيدة، فهي وإن احتوت على جميع مقوّمات القصّ من أحداث وشخصيّات وأزمنة وأمكنة فإنّها تتّسم بالتّفكّك والغموض والكثافة والرّمزيّة، وتغلب عليها الوظيفة الإنشائيّة على خلاف سائر الأجناس القصصيّة التي تهدف إلى محاكاة الواقع وتهيمن عليها الوظيفة المرجعيّة.

وقد نشأت هذه الفرضيّة من انطباع تحصّل لدينا من مطالعة العديد من الأعمال السّرديّة التي دأب الخطاب النّقديّ المعاصر على إنمائها إلى الرّواية. فوجدنا بالتّمعّن في خصائصها الفنّيّة أنّها لا يمكن أن تُحسب على الجنس الرّوائيّ. ذلك أنّها شكل وسط بين القصّة والشّعر، وبدا لنا أنّ مفهوم القصّة الشّعريّة كما بلوره “جان إيف تادييه” هو الأنسب لتحديد طبيعتها الأجناسيّة. فقمنا باختبار سلامة هذه الفرضيّة والتّحقّق من وجود هذا الجنس السّرديّ الهجين في أدبنا العربيّ الحديث، ووقفنا على مدى انطباق مقوّماته على أعمال أدبيّة بعينها. فأخضعنا للدّرس إحدى عشرة قصّة.

ورأينا أنّ بحثا جامعيّا موسّعا يعتني بهذا الجنس الأدبي ويبيّن حدوده ويستكنه أبعاده ويحيط بمقوّماته في المدوّنة السّرديّة العربيّة الحديثة ضروريّ لسدّ ثغرة في المدوّنة النّقديّة العربيّة، وضروريّ إسعافنا بتصنيف العديد من الأعمال من المدوّنة القصصيّة العربيّة، التي دأب النّقد الحديث على إنمائها إلى جنس الرّواية، وضروريّ أيضا لرفع اللّبس عن مصطلح “القصّة الشّعريّة” في الخطاب الأدبي العربي الحديث، إذ درج بعض النّقّاد على استخدام هذا المصطلح مرادفا لمصطلحيْ “الشّعر القصصي” أو “القصيدة القصصيّة”.

ولقد أفردنا بابا أوّل تناولنا فيها مجموع المفاهيم التي تخصّ بحثنا، فكانت بمثابة الإطار النّظريّ لدراسة “القصّة الشّعريّة”، وكانت مدخلا تعقّبنا من خلاله مفهوم الأجناس الأدبيّة وقضاياها بدءا بنشأة النّظريّة الأجناسيّة، ومظاهر البلاغة الأجناسيّة، ومسألة النّقاء الأجناسيّ، وصولا إلى إشكاليّات التّصنيف الأجناسيّ في ظلّ التّضايف بين السّرد والشّعر، وأوجه التّداخل بينهما ضمن العمليّة الإبداعيّة. ثمّ أحطنا بمفهوم الجنس القصصيّ عموما والجنس الرّوائيّ بالخصوص فبحثنا في نشأة الرّواية ومقوّماتها واتّجاهاتها. وانتهينا في هذا القسم النّظريّ إلى الإلمام بمفهوم القصّة الشّعريّة ومقوّماتها.

وباشرنا في الباب الثّاني من هذا البحث دراسة ما أدرجناه في مدوّنتنا من أعمال وافترضنا فيها استجابة لمقوّمات جنس “القصّة الشّعريّة”، لما لمسناه فيها من جنوح بيّن إلى لغة الشّعر والكثافة والغموض والتّرميز والإشجاء والتّوقيع.

وانصبّ اهتمامنا في الباب الثّالث على جملة من القضايا تعلّقت أولاها بملابسات نشأة هذا الجنس في الأدب الغربي، في علاقة بأزمة الكتابة الرّوائيّة وبالأزمات الفكريّة والمعرفيّة والثّقافيّة التي تطلّبت استخدام آليّات فنّيّة مغايرة. ونظرنا كذلك في ملابسات نشأتها في الأدب العربي، وبيّنّا أنّ القصّة الشّعريّة العربيّة لم تكن إفرازا طبيعيّا لتطوّر الرّواية العربيّة، وإنّما كانت نتاجا لنزوع طارئ إلى التّجريب الرّوائيّ الذي اقترن بسياق تأصيليّ بحث عن وسائل لكتابة رواية بأدوات إنتاج عربيّة، واقترن بسياق حساسيّة جديدة تبحث هي الأخرى عن إمكانيّة إنتاج نصّ عربيّ حديث لا يتماهى مع النّصوص الرّوائيّة الغربيّة، واقترن أخيرا بنزوع أسلوبيّ نحو تشعير السّرد. ولقد ثبت لدينا أنّ المحتوى السّرديّ للعمل وما يحمله من أبعاد فكريّة ورؤيويّة وأنساق أسطوريّة، هو الذي يفضي به إلى شكل القصّة الشّعريّة.

ونظرنا كذلك في مسألة التّفاوت في تحقيق مفهوم القصّة الشّعريّة بصفة تامّة أو جزئيّة ومحاذير الوقوع في مشاكل التّفكّك العضويّ والتّنافر بين الشّكل والمحتوى والتّسيّب الأسلوبي الذي قد يصيب بعض الأعمال ويفضي بها إلى اللاّشكل.

وانتهينا إلى الوقوف عند قضايا التّجنيس والدّلالة في القصّة الشّعريّة فنتناول فيه مسألة الهويّة الأجناسيّة انطلاقا من إشكاليّة التّجنيس في العتبة، وطرحنا إشكاليّات مقروئيّة القصّة الشّعريّة في علاقة بالعقد القرائيّ وبالغموض وتعمية المعنى.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M