القوى الإنتاجية الجديدة: محددات الاستراتيجية الصينية للتحديث الصناعي والتكنولوجي

  • يُشير مفهوم “القوى الإنتاجية النوعية الجديدة”، في الأدبيات الرسمية الصينية، إلى استراتيجية الصين التكنولوجية المرتكزة على قطاع التصنيع، وخاصة التصنيع المتقدم الذي يدعم النمو العالي الجودة، وبما يُمكِّن من تحويل البلاد إلى “قوة عظمى في مجال العلوم والتكنولوجيا” بحلول عام 2035.
  • حدد الرئيس الصيني ثلاثة مكونات لاستراتيجية القوى الإنتاجية النوعية الجديدة، وهي: التكنولوجيا والابتكار، والتنمية الصناعية المستقبلية، والسلاسل الصناعية. أما العوامل الثلاثة الممكنة لتطوير هذه المكونات، فهي: المواهب البشرية، والاستدامة البيئية، والإصلاحات في المنظومتين الاقتصادية والابتكارية. 
  • يكمُن أهم تحدي يواجه الاستراتيجية الصناعية والتكنولوجية الصينية في أنها لا تزال في مراحلها المبدئية وتحتاج إلى الكثير من الجهد والتنسيق، وإعادة هندسة البيئة البحثية والتصنيعية والتجارية في مجال التكنولوجيا. كما أن التخطيط لها يعتمد على نموذج حكومي مصمم للتطبيق من أعلى إلى أسفل.
  • على رغم التصعيد المتوقع في حدة التنافس التكنولوجي، فإن الشركات الأجنبية الكبرى باتت ترى في مفهوم “القوى الإنتاجية النوعية الجديدة” الصيني فرصة استراتيجية، بالنظر إلى تقاطعه والاستراتيجيات التكنولوجية والصناعية في دول غربية أخرى.
  • يوفر مفهوم “القوى الإنتاجية النوعية الجديدة”، والسياسات المنبثقة عنه، فرصاً مستقبلية للشركات والمُصنّعين الخليجيين، اعتماداً على التقاطع في محددات الاستراتيجيات الصناعية والتكنولوجية الخليجية مع الرؤية الصينية، وفي الروابط الاقتصادية العميقة بالفعل بين الجانبين.

 

تركز الوثائق والخطابات الرسمية الصينية على مفهوم “القوى الإنتاجية النوعية الجديدة” الذي يشير إلى استراتيجية الصين التكنولوجية مع التركيز على قطاع التصنيع، وخاصة التصنيع المتقدم ضمن التحول من دعم أعلى معدلات نمو اقتصادي إلى التركيز على النمو العالي الجودة. ومنذ اعتماد المصطلح على نطاق واسع في سبتمبر 2023 وحتى مارس 2024، استخدم الرئيس الصيني شي جينبينغ هذا المصطلح عشرين مرة، كما تكرر ظهوره في الخطط الاقتصادية المهمة للحكومة والحزب الشيوعي.

 

تحلل هذه الورقة العناصر الأساسية المكونة للمفهوم الجديد، وخلفياته، والاستراتيجية الصناعية والتكنولوجية المبنية عليه والتحديات التي قد تقابل الحكومة الصينية في مسار تطبيقه.

 

عودة السباق التكنولوجي

يعود التركيز الصيني على تطوير التكنولوجيا والعلوم بوصفه أولوية وطنية (خصوصاً التكنولوجيا العسكرية) إلى حركة “التقوية الذاتية” التي تعود للقرن التاسع عشر والناتجة عن هزيمة الصين في حربي الأفيون (1839 – 1860). وبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية في 1949، عاد التركيز مجدداً على التطوير التكنولوجي من طريق الاستفادة من مساعدة الاتحاد السوفيتي للحكم الشيوعي الصيني الجديد على تطوير القاعدة الصناعية الصينية. في منتصف السبعينيات، أطلقت الحكومة خطة “التحديثات الأربعة” الصناعية التي شملت تخصيص الموارد والتخطيط للنهوض بقطاعات الزراعة والصناعة والعلوم والتكنولوجيا والدفاع.

 

لكن التركيز على تطوير العلوم والتكنولوجيا على المستوى الوطني تراجع تدريجياً منذ تبني بيجين خطة “الإصلاح والانفتاح” الاقتصادي تحت قيادة دنغ تشياوبنغ منذ عام 1979، رغم استمرار ظهور مفهوم “التحديثات الأربعة” في الوثائق والخطط الحكومية. والسبب في ذلك هو تركيز القيادة الصينية على الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية للوصول إلى الهدف الاستراتيجي حينها وهو تحقيق أعلى معدلات نمو اقتصادي ممكنة، بدلاً من تبني برنامج وطني لتطوير قطاع محدد.

 

في عام 2005، بدأت الصين التحول مرة أخرى باتجاه تطوير العلوم والتكنولوجيا عقب إصدار “البرنامج الوطني المتوسط ​​والطويل الأمد لتطوير العلوم والتكنولوجيا” الذي يضع أهدافاً لتطوير القطاع حتى عام 2020، ويضم أيضاً مفهوم “الابتكار المحلي” الهادف لتوطين التكنولوجيا الأجنبية في السوق الصيني. أي أن التحول الصيني نحو الاعتماد على العلوم والتكنولوجيا لتطوير القاعدة الصناعية الوطنية وتعزيز الابتكار والنمو الاقتصادي سبق صعود شي جينبنغ لمنصب الرجل الأول في الصين عام 2012.

 

لكن، منذ تولي شي الحكم، قفز قطاع العلوم والتكنولوجيا الصناعية إلى مرتبة متقدمة للغاية ضمن الأولويات الاستراتيجية الوطنية، وهو ما سيتم تناوله بشيء من التفصيل في القسم التالي.

 

يرى المسؤولون الصينيون في خطط التحديث الصناعي المعتمد على الابتكار التكنولوجي سبيلاً مستقبلياً للنهوض بالاقتصاد الصيني (AFP)

 

“القوى الإنتاجية الجديدة”

ظهر مصطلح “القوى الإنتاجية النوعية الجديدة” في الوثائق والخطابات الحكومية الرسمية في خلال زيارة شي لإقليم هايلونغجيانغ، الواقع شمال شرق الصين، في سبتمبر الماضي. ألقى شي في هذا الإقليم خطاباً دعا إلى تطبيق مفهوم “القوى الإنتاجية النوعية الجديدة” لتعزيز النمو الاقتصادي ضمن فلسفة “التنمية الجديدة” التي تشير إليها الوثائق الرسمية، والتي ترسم ملامح الخطط الاقتصادية الصينية “العالية الجودة” على المدى الطويل. وظهر المفهوم أيضاً، بنحوٍ أكثر تفصيلاً، في خلال مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي لاعتماد الخطط الاقتصادية لعام 2024 في ديسمبر الماضي.

 

وتُعرِّف المصادر الرسمية “القوى الإنتاجية النوعية الجديدة” بأنها تعني “الإنتاجية المتقدمة التي تتحرر من نمط النمو الاقتصادي التقليدي ومسارات تطوير الإنتاج”، وتتميز “بالتكنولوجيا العالية والكفاءة العالية والجودة العالية”. وفي خلال اجتماع مع أعضاء المكتب السياسي في الحزب الشيوعي، في يناير الماضي، وضع شي تعريفه لـ”القوى الإنتاجية النوعية الجديدة” بأنها “القوى التي يؤدي فيها الابتكار دوراً رائداً”، والتي “تحفّزها الاختراقات الثورية في التكنولوجيا، والتخصيصات المبتكرة لعوامل الإنتاج، والتحول العميق والارتقاء بالصناعة”.

 

وفي خلال الخطاب، حدد الزعيم الصيني ثلاثة مكونات، وثلاثة عوامل ممكنة للاستراتيجية الجديدة. المكونات الثلاثة هي: التكنولوجيا والابتكار، والتنمية الصناعية المستقبلية، والسلاسل الصناعية. والعوامل الثلاثة الممكنة لتطوير هذه المكونات هي: المواهب البشرية، والاستدامة البيئية، والإصلاحات في المنظومتين الاقتصادية والابتكارية (شكل 1).

 

شكل 1: ممكنات استراتيجية “القوى الإنتاجية النوعية الجديدة”، ومكوناتها، وأهدافها

العناصر التفاصيل
الممكنات الرئيسة المواهب (المعرفة، والمهارات، والتعليم)
الاستدامة البيئية
الإصلاحات في الأنظمة الاقتصادية والابتكارية
القوى الإنتاجية الجديدة سلاسل الصناعة، تعزيز مرونة السياسات السيادية وسلاسل التوريد
التنمية الصناعية المستقبلية
تحويل الصناعات التقليدية
تعزيز الصناعات الناشئة
بناء صناعات مستقبلية موجهة
التكنولوجيا والابتكار؛ الابتكار التكنولوجي الجذري والأصلي
الأهداف تعزيز “التنمية العالية الجودة”
نقل اقتصاد الصين من مرحلة النمو السريع إلى مرحلة التنمية العالية الجودة
تحقيق الجودة العالية في كل جوانب التنمية الاقتصادية والاجتماعية

المصدر: تلخيص من مركز كامبريدج لسياسة الابتكار الصناعي

 

والمُستهدَف الاستراتيجي الأهم، بالنسبة للرئيس الصيني، من وراء تبنّي المفهوم الجديد هو تحقيق زيادة كبيرة في القدرة الإنتاجية للدولة، والتي تعاني من انخفاض حاد مقارنة بالقوى الصناعية الأخرى.

 

وفي خلال الجلسة العامة الثالثة للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي، المنعقدة في منتصف يوليو الماضي، والتي تركز عادة على اعتماد الرؤية الاقتصادية للبلاد خلال الأعوام المقبلة، فَسَّر قادة الحزب خطط التحديث الصناعي المعتمد على الابتكار التكنولوجي بوصفه سبيلاً مستقبلياً للنهوض بالاقتصاد الصيني. وقال البيان الختامي للجلسة “إن التنمية العالية الجودة هي مهمتنا الأساسية في بناء الصين بصفتها دولة اشتراكية حديثة في النواحي كافة”. ويقصد بالجودة العالية التحوُّل من التركيز على مبدأ الزيادة المضطردة في معدلات النمو الاقتصادي إلى تحقيق نمو حقيقي وعالي الجودة ومنتج على حساب سرعة النمو. وقال البيان “سنعمل على تحسين المؤسسات والآليات اللازمة لتشجيع قوى إنتاجية نوعية جديدة بما يتماشى مع الظروف المحلية، وتعزيز التكامل الكامل بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد الرقمي، وتطوير قطاع الخدمات، وتحديث البنية التحتية، وتعزيز مرونة وأمن السلاسل الصناعية وسلاسل التوريد”.

 

وتوسَّع الرئيس شي في شرح رؤيته لمستقبل العلوم والتكنولوجيا في الصين، والأهداف الاقتصادية والوطنية المرجوة من هذه الاستراتيجية، في خلال “المؤتمر الوطني للعلوم والتكنولوجيا”، في يونيو الماضي. وقال شي إن العالم يشهد “جولة جديدة من ثورة العلوم والتكنولوجيا والتغيير الصناعي” تركز على “التقنيات العابرة للقطاعات/المتداخلة” (الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الكمية والتكنولوجيا الحيوية وغيرها). بالإضافة إلى ذلك، يبدو تنافس القوى العظمى مع الولايات المتحدة في صلب خطط التحديث الصناعية والتكنولوجية الصينية، إذ يشير شي إلى أن “التكنولوجيا العالية أصبحت الخط الأمامي وساحة المعركة الرئيسة للتنافس الدولي”، وأن “بعض التكنولوجيات الأساسية الرئيسة مُسيطر عليها من قبل آخرين”، لذلك على الصين تعزيز قدراتها الابتكارية “لاحتلال مكانة متقدمة في التنافس في مجال العلوم والتكنولوجيا والتنمية المستقبلية”. والهدف الاستراتيجي من هذه الرؤية هو تحويل الصين إلى “قوة عظمى في مجال العلوم والتكنولوجيا” بحلول عام 2035.

 

ومن ثمّ، فإن الاستراتيجية الصينية تعتمد على حشد القدرات الوطنية لدعم “القوى الإنتاجية النوعية الجديدة”، لتعزيز “الصناعات المستقبلية” على المدى البعيد من منظور التنمية الاقتصادية والتكنولوجية الشاملة التي يؤمن المسؤولون الصينيون أنها السبيل الوحيد لتعزيز التنمية المستدامة ودعم قدرات الصين في سياق تنافس القوى العظمى.

 

ويحمل هذا التوجه الشامل عدة خصائص مهمة ينبغي التركيز عليها من أجل فهم التفكير الصيني الطويل المدى. فتبني مصطلح “القوى الإنتاجية النوعية الجديدة” مبني على مفهوم “قوى الإنتاج” في التفكير الماركسي، وهو ما يشير إلى مركزية الإيديولوجيا وسلطة الحزب على رسم الاستراتيجية الجديدة وتنفيذها. يشير ذلك أيضاً إلى التحول من الاعتماد على قوى السوق بوصفه منهجية برغماتية رئيسة ومحددة لسياسة “الإصلاح والانفتاح” التي قادها دنغ إلى العودة (الجزئية) إلى المحددات الإيديولوجية الأكثر انغلاقاً باعتبارها أساساً نظرياً لقيادة الحزب تنفيذ رؤية التطوير العلمي والتكنولوجي، ومن ثم الاقتصادي.

 

أحد أهم الخصائص الأخرى أن مفهوم “القوى الإنتاجية النوعية الجديدة” يختلف عن “القوى الإنتاجية التقليدية” التي تعتمد على التدرج والتغيير البطيء، ومن ثم لا يشير إلى التنمية التدريجية لقطاعات العلوم والتكنولوجيا، بل معنية بتحقيق اختراقات “ثورية” وسريعة وعالية الجودة وتحويلية لدعم تطوير “التصنيع الجديد“. ويعني هذا أن السياسات التكنولوجية والصناعية الجديدة ستركز على السباق في تحقيق اختراقات في صناعات مستقبلية لا تزال في مراحل تطورها الأولى أو لم تُطوَّر بعد.

 

وسيتطلب تحقيق هذه الأهداف منظومة شاملة ومنسقة على المستوى الوطني، وهو ما يعرف باسم “النظام الوطني الجديد”.

 

تعزيز القدرة على الابتكار عنصر أساسي في السياسات التكنولوجية والصناعية الصينية الجديدة (AFP) 

 

“النظام الوطني الجديد”

يعد “النظام الوطني الجديد” نتاجاً للتحول في نموذج التنمية الصينية منذ عام 2020. وقد شهد هذا العام اعتماد مفهوم “التداول المزدوج” (الذي يركز على الموازنة بين الاكتفاء الذاتي وانفتاح السوق على الخارج) ومفهوم “الاعتماد الذاتي في مجال التكنولوجيا” الذي اُعتُمِدَ في الخطة الخمسية الرابعة عشرة (2021-2025) للتنمية الاقتصادية. ويمكن اعتبار عامي 2020 و2021 بداية تنفيذ سياسة التحول الصناعي نحو التكنولوجيا المتقدمة. على سبيل المثال، ظهر مصطلح “النظام الوطني الجديد” بوصفه بيئة تنظيمية لعملية التحول الصناعي للمرة الأولى في خلال خطاب شي أمام “الأكاديمية الصينية للعلوم” عام 2021. وقد شهد عاما 2022 و2023 الانطلاقة الحقيقية لهذه الاستراتيجية. وبين عامي 2018 و2023، ارتفع إجمالي الاستثمار الصيني في جميع القطاعات بنسبة تقترب من 17%. لكن الاستثمار في المعدات والمواد الكهربائية ارتفع بنسبة هائلة بلغت 115%، وزاد الاستثمار في معدات الكمبيوتر والاتصالات بنسبة 79%، وزاد الاستثمار في آلات الإنتاج المتخصصة بنسبة 50%.

 

يتشكل هذا النظام الجديد من ثلاثة مكونات أساسية: هيئة مركزية لقيادة عملية التحول على المستوى التنظيمي هي “اللجنة المركزية للعلوم والتكنولوجيا” التابعة للحزب الشيوعي والمسؤولة عن وضع الاستراتيجية العامة ومتابعة تنفيذها مع الجهات الحكومية الأقل في التراتبية مثل وزارة العلوم والتكنولوجيا؛ ومنظومة تمويل شاملة؛ وخلق بيئة تعاون وتنسيق مركبة على مستوى كل مراحل سلاسل التوريد بين القطاعين الحكومي والخاص ومراكز الأبحاث والشركات المسؤولة عن تسويق المنتجات الجديدة.

 

تقوم فكرة “النظام الوطني الجديد” على ملء الثغرات في سلاسل التوريد الصناعية والتكنولوجية المكونة من ثلاثة مراحل: المرحلة البحثية، ومرحلة تطوير التكنولوجيا تطبيقياً، ومرحلة تحويل التكنولوجيا إلى منتجات على نطاق السوق بأكمله (شكل 2).

 

شكل 2: رسم يوضح مراحل التطوير التكنولوجي المتعددة

المصدر: Barry Naughton, “Re-engineering the Innovation Chain: How a New Phase of Government Intervention is Transforming China’s Industrial Economy”, February 2024.

 

وقد بنت الصين هذه القاعدة التنظيمية مُعتمدةً على اللامركزية في الأقاليم؛ فكل حكومة محلية مسؤولة عن الإشراف على مجموعات متعددة من الكيانات البحثية والشركات التي تقع في مناطق صناعية مخصصة؛ وكل مجموعة تتبع كياناً قائداً تابعاً للدولة (شركة أو مركز بحثي حكومي). تحتوي مجموعة من هؤلاء على معمل بحثي يمثل بداية سلسلة القيمة المستهدفة، وشركة مكلفة بتسويق المنتج النهائي في نهاية السلسة، وكل مجموعة مكلفة بالتركيز على تكنولوجيا محددة من أول سلسلة التوريد إلى آخرها. تنقسم هذه المجموعات إلى نوعين: مجموعات تركز على التطوير البحثي، ومجموعات تركز على التطوير الاقتصادي للمنتجات.

 

من الناحية التمويلية، تتبنى الصين نموذج المنح المالية عبر نظام جديد يعالج أخطاء نظام إغراق السوق السابق الذي تسبب في استشراء الفساد وفشل الكثير من الشركات الناشئة نتيجة إخفاق منظومة تخصيص التمويل.

 

التحديات

يكمن أهم تحدي يواجه الاستراتيجية الصناعية والتكنولوجية الصينية في أنها لا تزال في مراحلها المبدئية وتحتاج إلى الكثير من الجهد والتنسيق وإعادة هندسة البيئة البحثية والتصنيعية والتجارية في مجال التكنولوجيا. إضافة إلى ذلك، فإن التخطيط لا يزال يعاني من درجة كبيرة من الضعف وعدم وضوح الرؤية والاعتماد على نموذج حكومي مصمم للتطبيق من أعلى إلى أسفل.

 

وعلى رغم محاولات الحكومة الصينية محاربة الفساد، خصوصاً بعد فشل الكثير من الشركات الناشئة بسبب الفساد التنفيذ، فإن منح سلطات واسعة للحكومات المحلية لفرض تصوراتها (المبنية على خطط الحكومة المركزية) على الفاعلين المحليين ومتابعة التنفيذ يفتح باباً إضافياً للفساد. قد يخلق هذا النموذج أيضاً حوافز أمام تلك الحكومات المحلية لتوجيه مسار التنفيذ نحو تحقيق مصالحها المباشرة (في وقت تعاني من أزمات مالية كبيرة نتيجة تراجع قطاع العقارات وتباطؤ الطلب المحلي)، وليس وفقاً لأهداف الحكومة المركزية.

 

وتعاني الاستراتيجية الصينية، في جوهرها، من تناقض بين مركزية عوامل الأمن والتحكم والسيطرة الحكومية بوصفها أولوية، مع ضرورة حرية الابتكار. ويظهر هذا التعارض في عدة مؤشرات، أهمها تبني خطوات بعيدة عن مبادئ اللامركزية والعالمية التي تحكم سلاسل التوريد الصناعية المتقدمة منذ عقود، باتجاه نموذج قائم على قيادة الدولة للابتكار العلمي والتكنولوجي ودمجهما مع قاعدة التصنيع وسلاسل التوريد الصناعية المتطورة. ويخلق هذا التوجه تعقيدات بالنسبة لمستقبل هذه الاستراتيجية تتمثل في الاعتماد على المنتجات المحلية والتراجع (ولو نسبياً) عن قوى السوق بوصفها محركاً رئيساً بدلاً من التدخل الحكومي الزائد عن الحد. وقد برزت هذه السياسات منذ نشر مبدأ “التداول المزدوج” عام 2021، والذي يحمل في طياته حمائية قائمة على “خفض المخاطر” من طريق محاولة تحصين البيئة الصناعية والتكنولوجية الداخلية من محاولات التقويض الغربية. ومن ثمّ، يمكن القول إن الأمن القومي، بصفته محدداً مركزياً، بات يحتل مرتبة أعلى من محركات السوق التقليدية في الفكر الرسمي الصيني.

 

من المبكر الحكم على فاعلية مبدأ “القوى الإنتاجية الجديدة” والاستراتيجية الصناعية والتكنولوجية المبنية عليه في الصين (Shutterstock)

 

أحد أهم المؤشرات الأخرى على هذا التناقض، حاجة الصين إلى الدمج بين أنظمة وثقافات استثمارية وتقاليد مختلفة، سواء على مستوى الحكومات أو الشركات أو البيئات البحثية المحلية، عبر التركيز على المركزية في بيجين بوصفها المحرك خلف الاستراتيجية الصناعية الجديدة. وعلى رغم صعوبة تحقيق ذلك بشكل آني، فإن تمكن الصين من الدمج بين تنوعها اللامركزي مع مركزية السياسات الصناعية والتكنولوجية الجديدة قد يدفعها قدماً بشكل أسرع من المتوقع. لكن من المبكر الجزم بذلك.

 

ثم تأتي القيود الأمريكية على صناعات تكنولوجية استراتيجية، على رأسها الرقائق الإلكترونية، بالإضافة إلى القيود التجارية على منتجات الطاقة النظيفة. وقد أوضحت التجارب السابقة، منذ حرب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب التجارية عام 2018، أن المزيد من الضغوط الأمريكية يُشجع تشجيعاً مباشراً تسريع الصين لتبني سياسات أكثر انغلاقاً، ويعزز مركزية الأمن القومي في السياسات الاقتصادية والتكنولوجية الصينية. يتوقع على المدى القصير إصدار واشنطن المزيد من هذه القرارات الضاغطة على قطاعي التكنولوجيا والتصنيع الصينيين (قبل الانتخابات الرئاسية)، خصوصاً في مجال الرقائق الإلكترونية. ويرجح أيضاً استمرار هذه السياسة الصناعية الأمريكية (والغربية) المتشددة تجاه الصين وتطويرها على المديين المتوسط والبعيد، بغض النظر عن نتائج الانتخابات. ومن ثمّ، يمكن الجزم بعدم إمكانية رؤية تحول في التفكير الصيني في أي وقت قريب.

 

وعلى رغم التصعيد المتوقع في حدة التنافس التكنولوجي، فإن الشركات الأجنبية الكبرى باتت ترى في مفهوم “القوى الإنتاجية النوعية الجديدة” الصيني فرصة استراتيجية. يرجع ذلك إلى التقاطع بين استراتيجية “القوى الإنتاجية النوعية الجديدة” في الصين والاستراتيجيات التكنولوجية والصناعية في دول أخرى، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث السعي لتطوير الكثير من نفس التقنيات المستقبلية والناشئة التي تظهر في الاستراتيجية الصينية.

 

يمكن ملاحظة هذا التقاطع أيضاً مع الاستراتيجيات الصناعية والتكنولوجية في بعض الدول الخليجية. على سبيل المثال، تتقاطع “القطاعات الصناعية الحيوية” الـ11 في الاستراتيجية الإماراتية للصناعة والتكنولوجيا المتقدمة، المعروفة باسم “مشروع 300 مليار” مع التكنولوجيات المتقدمة والناشئة تحت مظلة مفهوم “القوى الإنتاجية النوعية الجديدة”. بجانب ذلك، حددت “سياسة العلوم والتكنولوجيا والابتكار” الإماراتية بعض الأهداف الاستراتيجية من طريق تبني مبادرات فرعية. وتقول الوثيقة الحكومية المرتبطة بهذه السياسة “تهدف سياسة الإمارات للصناعات المتقدمة إلى تشجيع الشركات على تبني وتطوير الصناعات المستقبلية والتقنيات المتقدمة، وتهدف سياسة العلوم والتكنولوجيا والابتكار إلى تغيير معادلة الاقتصاد الوطني ودفعه بعيداً عن الاعتماد على الموارد النفطية المحدودة”.

 

ويلاحظ التقاطُع أيضاً بين بعض المفاهيم والقطاعات الرئيسة في الاستراتيجية الصينية مع مثيلاتها في “الخطة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا والابتكار” السعودية، وهي جزء من “رؤية المملكة 2030“. ومن ثم، فإن هذا التقاطع يخلق فرصاً مهمة بالنسبة للمستثمرين الخليجيين للتعاون مع المؤسسات المالية والشركات الصينية في تطوير بعض هذه التقنيات في الصين أو في منطقة الخليج، خصوصاً تلك التقنيات الناشئة التي لم تندرج بعد ضمن القطاعات التنافسية مع القوى الغربية.

 

إلى جانب التقاطع في القطاعات الصناعية والأولويات، ثمة فرصة أيضاً لخلق تناغم بين الجانبين من حيث البيئة القانونية والتنظيمية، وهو ما يسمح للجانبين بتبادل الخبرات والمعرفة وبناء تعاون مستدام في بيئات البحث والتطوير، والتسويق التجاري، والتمويل.

 

الاستنتاجات

لا يزال من المبكر الحكم على فاعلية مبدأ “القوى الإنتاجية النوعية الجديدة” والاستراتيجية الصناعية والتكنولوجية المبنية عليه في الصين، مع ترجيح الإعلان عن المزيد من السياسات الحكومية قريباً. ويعمل هذا المفهوم على توحيد السياسات القائمة، المنتشرة في مختلف الوثائق الرسمية، في خطة متماسكة للتنمية الصناعية والتصنيعية في المستقبل.

 

وقد يكون من السابق لأوانه أيضاً الجزم بمدى قدرة التكنولوجيات الناشئة والمستقبلية على إحداث تغير ثوري في القطاع الصناعي يساعد الصين على التغلب على التباطؤ الاقتصادي الحالي. وقد بدأت الأعمال التحضيرية للخطة الخمسية الخامسة عشرة (2026-2030) في يناير 2024، ومن المتوقع أن تقدم هذه الخطة الجديدة إرشادات إضافية بشأن تطوير الصناعات التقليدية والناشئة والموجهة نحو المستقبل، وأن توضح كيفية مساهمتها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للصين بحلول عام 2035، لاسيما فيما يتعلق بالهدف المحوري القومي، وهو “بناء اقتصاد اشتراكي حديث”.

 

وقد يوفر المفهوم الجديد، والسياسات المنبثقة عنه، فرصاً للشركات والمُصنّعين الخليجيين في المستقبل اعتماداً على التقاطع في محددات الاستراتيجيات الصناعية والتكنولوجية الخليجية مع الرؤية الصينية وفي الروابط الاقتصادية العميقة بالفعل بين الجانبين.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M