القِمَّة الأولى بين الاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى: آفاق شراكة استراتيجية ناشئة

  • مثَّلت القمة الأولى بين الاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى، التي عُقِدَت في مدينة سمرقند الأوزبكية، في 4 أبريل 2025، نقطة بداية لنوع جديد من العلاقات في سياقٍ جيوسياسي شديد التوتر أمنياً وتجارياً، يبدو فيه الأوروبيون في حاجةٍ لشركاء جدد، سواءً لجهة فتح أسواق جديدة أو تأمين مصادر الطاقة ومساراتها، وتطويق التهديد الأمني الروسي.
  • تقوم الشراكة الجديدة بين الاتحاد الأوروبي وجمهوريات آسيا الوسطى الخمس، على أربعة مجالات أساسية، هي: التوافق السياسي، لاسيما فيما يتعلق بالنزاع في أوكرانيا؛ والتنسيق الأمني؛ وتوسيع الشراكة التجارية؛ والشراكة الاستراتيجية بشأن المواد الخام الحيوية.
  • بالقدر الذي تبدو فيه الشراكة الجديدة بين أوروبا وآسيا الوسطى واعدةً، إلا أنها في الواقع تواجه تحديات كبيرة تتعلق باحتدام التنافس الدولي على المنطقة، وكذلك بالإمكانيات الذاتية للطرفين والفجوة المؤسسية والقانونية بينهما، وبمدى قدرتهما على الإيفاء بالتزاماتهما وتنفيذ الاتفاقات ذات الصلة.  

 

في 4 أبريل 2025، اختتمت في مدينة سمرقند في أوزبكستان أول قِمَّة بين الاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى، والتي جمعت بين رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين، إلى جانب أنطونيو كوستا رئيس المجلس الأوروبي، ورؤساء جمهوريات آسيا الوسطى الخمس. ومع أن العلاقة بين الاتحاد الأوروبي ودول آسيا الوسطى قد تطورت بشكل غير مسبوقٍ منذ عام 2022 مع الحرب في أوكرانيا، إلا أن هذه القمة وإعلان 4 أبريل يمثلان نقطة بداية لنوع جديد من العلاقات في سياقٍ جيوسياسي شديد التوتر أمنياً وتجارياً، يبدو فيه الأوروبيون في حاجةٍ لشركاء جدد، سواءً لجهة فتح أسواق جديدة أو تأمين مصادر ومسارات الطاقة، وكذلك لتطويق التهديد الأمني الروسي المتصاعد والمستمر.

 

سياقات القمة ودوافعها

تأتي القمة بين الاتحاد الأوروبي ودول آسيا الوسطى تتويجاً لمسار بدأ في عام 2019، عندما وضع الاتحاد الأوروبي استراتيجيته الجديدة لآسيا الوسطى، والتي دفعت بها الحرب الروسية الأوكرانية لتكون ضمن الأولويات الجيوسياسية الأوروبية. فقد سعى الأوروبيون منذ الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تعزيز علاقاتهم مع هذه الدول الخمس المجاورة لروسيا، مع عقد اجتماعين على مستوى القادة في كازاخستان في أكتوبر 2022 وقيرغيزستان في يونيو 2023 نتج عنهما توقيع خريطة طريق مشتركة في لوكسمبورغ في أكتوبر 2023، بين الطرفين، ترتكز على تعزيز التعاون بشأن التحديات الأمنية المشتركة، والاتصال، والاقتصاد والتجارة، والبيئة، والمياه والمناخ، والتعليم، والعلوم والابتكار. والاتحاد الأوروبي اليوم يُمثَّل الشريك التجاري الثاني للمنطقة، والمستثمر الأول بنسبة تفوق 40% من إجمالي الاستثمارات، خاصة ضمن مبادرة “البوابة العالمية“.

 

وسبق قمة سمرقند حراك دبلوماسي أوروبي في اتجاه دول وسط آسيا الوسطى. في مارس الماضي أجرى مفوض الاتحاد الأوروبي للشراكات الدولية، جوزيف سيكيلا، جولة في خمس دول في آسيا الوسطى شهدت توقيع العديد من الاتفاقيات التي تهدف إلى تعزيز استراتيجية “البوابة العالمية”. وتركز هذه المبادرة، التي تهدف إلى تعبئة 300 مليار يورو على مستوى العالم، على أربعة قطاعات رئيسة في آسيا الوسطى: النقل، والمواد الخام الحيوية، والاتصال الرقمي، والطاقة المستدامة. وفي الشهر نفسه زار الرئيس الأوزبكي شوكت ميرضيائيف باريس، وخُتُمَت الزيارة بإعلان مشتركٍ مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول “تعميق التعاون السياسي، وتعزيز التعاون في قضايا الدفاع والأمن، وتعزيز التعاون الاقتصادي وتنمية التجارة”. وقبل ذلك كان الرئيس  الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف قد قام بزيارة مماثلة إلى باريس في نوفمبر الماضي، لتطوير الاتفاقيات الاقتصادية.

 

وعُقِدَت القمة بين الاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى في سياق جيوسياسي متوتر بالنسبة للاتحاد الأوروبي بسبب تدهور العلاقات المستقرة لعقودٍ عبر الأطلسي، في أعقاب عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى السلطة، من طريق فرض رسوم جمركية على الصادرات الأوروبية والتوجه نحو الانسحاب الدفاعي من القارة الأوروبية وغموض مشروعه حول السلام في أوكرانيا ومستقبل العلاقات الأمنية بين روسيا وأوروبا، فضلاً عن التلويح بسياسات غير تقليدية بشأن ضمّ جزيرة غرينلاند إلى الولايات المتحدة، وكذلك فرض طريقة تفاوض مُجحفة في البيع المشروط للأسلحة وموارد الطاقة الأمريكية لفائدة الدول الأوروبية. في المقابل، ولَّد الوضع الجيوسياسي المتغير الذي نشأ بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022، بالإضافة إلى التهديدات الأمنية الناجمة عن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان في عام 2021، تحديات جديدة في المنطقة، والتي أصبحت في الوقت نفسه فرصاً لدول آسيا الوسطى للظهور بوصفها جهات إقليمية فاعلة.

 

عُقِدَت قمة سمرقند بين الاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى في سياق جيوسياسي متوتر بالنسبة للاتحاد (وكالات)

 

وفي ضوء هذه السياقات يمكن رصد ثلاثة دوافع أساسية لهذا التوجه الأوروبي نحو آسيا الوسطى:

 

1. الدافع الاقتصادي. تفرض سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة على أوروبا الخروج من تحالفاتها التجارية والاقتصادية التقليدية نحو آفاق عالمية أوسع، لتأمين أسواق جديدة لصادراتها التي تُعاني في السوق الأمريكية، حيث تُمثِّل آسيا الوسطى سوقاً واعدة تضم حوالي 80 مليون نسمة. وكذلك لتوفير مصادر الطاقة، ولاسيما الغاز الطبيعي، حيث تضم بلدان المنطقة الخمس (كازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وتركمانستان، وأوزبكستان) كميات وفيرة من النفط والغاز والمعادن، وهي مصدر آمِن للطاقة يحظى باهتمام الاتحاد الأوروبي.  وفي هذا السياق، رفعت كازاخستان كمية صادراتها من النفط إلى الاتحاد بنسبة 51% بين عامي 2021 و 2023. كما تضم أراضي المنطقة حوالي 39% من المنغنيز العالمي، و30% من الكروم، و20% من الرصاص، بالإضافة إلى احتياطيات من الزنك والليثيوم والنيكل والمعادن النادرة.

 

2. الدافع الأمني. في مواجهة التهديد الروسي، يسعى الأوروبيون إلى تعزيز التعاون مع دول وسط آسيا، التي أصبحت تمثل منطقة أساسية بالنسبة لموسكو المحاصرة من الجهة الغربية. لذلك يحاول الأوروبيون كسب مواقع استراتيجية لتطويق روسيا. في المقابل، تستغل دول آسيا الوسطى هذه الفرص لصالحها من أجل تحقيق التوازن في علاقاتها الخارجية وتأمين مصالحها بشكل أفضل. ويفتح الاهتمام المتزايد من جانب المجتمع الدولي بالمنطقة آفاقاً جديدة أمام هذه البلدان، في اتجاه إضعاف تدريجي لاعتمادها على روسيا. فضلاً عن المصلحة المشتركة في إدارة المخاطر الأمنية المتعلقة بالوضع في أفغانستان، يشكل استقرار آسيا الوسطى مصدر قلق كبير بالنسبة للاتحاد الأوروبي، خاصة بسبب التحديات المتعلقة بالأمن وإدارة الحدود ومكافحة الإرهاب والاتجار بالمخدرات.

 

3. الدافع الجيوسياسي. تحتل آسيا الوسطى موقعاً جيوستراتيجياً بين أوروبا وروسيا والصين، مما يجعلها لاعباً رئيساً في الديناميكيات الإقليمية. ويتعلق هذا الدافع بعقيدة الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، التي فرضت نفسها على أجندة القارة الأوروبية منذ جائحة كوفيد-19 وأصبحت أكثر إلحاحاً في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا. وعلى رغم أن الاستقلال الاستراتيجي قد ارتبط تاريخياً بقضايا الدفاع، فقد اتسع نطاق المفهوم مع سعي أوروبا إلى تقليل اعتمادها في مجالات أخرى مثل التجارة، والصحة، والطاقة، على شريك واحد وتنويع الشراكات في ظل ما تتعرض له العديد من القطاعات لمخاطر جيوستراتيجية وعلى رأسها الطاقة والمعادن والتجارة. في الوقت نفسه تريد دول آسيا الوسطى الخروج من قدرها الجغرافي بين الصين وروسيا، وتنويع تحالفاتها.

 

مضامين الشراكة الأوروبية مع آسيا الوسطى

أظهر نص الإعلان المشترك الصادر عن قمة سمرقند بين قيادة الاتحاد الأوروبي وقادة كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان، أن الشراكة الجديدة بين أوروبا و آسيا الوسطى تقوم على أربعة مجالات أساسية:

 

1. التوافق السياسي. تنصُّ الشراكة بوضوح على توافق سياسي بين الطرفين بشأن الموقف من الوضع في أوكرانيا، بالإشارة إلى أن أطراف القمة التزموا بـ”احترام القانون الدولي بشكل كامل، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة والمبادئ الأساسية لاحترام استقلال وسيادة وسلامة أراضي جميع الدول، داخل حدودها المعترف بها دولياً. وأكدوا أهمية تحقيق السلام الشامل والعادل والدائم في أوكرانيا في أقرب وقت ممكن وفقاً لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وعلى ضرورة التزام جميع الدول بالامتناع في علاقاتها الدولية عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها”. وفي إشارة لرفض إمكانية تقسيم أوكرانيا أو انتزاع أجزاء من أراضيها ضمن اتفاق سلام مستقبلي يُشير الإعلان المشترك إلى التزام أطرافه بـ”احترام سيادة جميع الدول ووحدة أراضيها في إطار جميع المحافل الدولية والإقليمية، والامتناع عن اتخاذ أي خطوات تتعارض مع تلك المبادئ”.

 

2. التنسيق الأمني. اتفق الجانبان على تعزيز التعاون في معالجة التحديات الأمنية المشتركة، بما في ذلك استكشاف إمكانيات جديدة للمشاركة بين الاتحاد الأوروبي ودول آسيا الوسطى، على أساس الطلبات والمصالح والاحتياجات المتبادلة، بما في ذلك من طريق مرفق السلام الأوروبي، والذي يشمل المعدات العسكرية والدفاعية والبنية التحتية العسكرية والدعم الفني العسكري، إما في شكل مساعدات أو حتى إقامة قواعد. وكذلك على تمويل الاستجابة الإقليمية للنازحين الأفغان، باعتبار ذلك جزءاً من التزام الاتحاد الأوروبي بدعم الشركاء في آسيا الوسطى في معالجة التحديات الأمنية الناشئة عن الوضع في أفغانستان. إلى جانب استمرار العمل في إطار برنامج بومكا لتعزيز قدرات حرس الحدود وأمن الحدود في بلدان آسيا الوسطى. وفي هذا السياق، أقرَّ المشاركون أيضاً بمسار دوشنبه بشأن التعاون في مكافحة الإرهاب وأمن الحدود. فضلاً عن الاتفاق على تعزيز المشاركة في معالجة المعلومات المضللة والتلاعب بالمعلومات (الصادرة عن روسيا والصين أساساً).

 

3. الشراكة التجارية. اتفق الجانبان على استكمال توقيع اتفاقيات الشراكة بين الاتحاد والدول الخمس، بعد توقيع اتفاقية الشراكة والتعاون المعززة بين الاتحاد وجمهورية قيرغيزستان في 25 يونيو 2024، إذ من المتوقع أن يتم توقيع اتفاقيات الشراكة الاقتصادية والتجارية بين الاتحاد وأوزبكستان في عام 2025، وبين الاتحاد وطاجيكستان في عام 2026. واتفقا على مواصلة العمل نحو انضمام أوزبكستان وتركمانستان إلى منظمة التجارة العالمية. فضلاً عن إنشاء مكتب تمثيلي إقليمي للبنك الأوروبي للاستثمار في آسيا الوسطى، من طريق توقيع اتفاقية البلد المضيف بين أوزبكستان والبنك الأوروبي للاستثمار، مما يعزز حضور البنك في المنطقة، والدفاع نحو إنشاء مكاتب قُطْرية للبنك الأوروبي في أستانا وعواصم أخرى في آسيا الوسطى. وعلى مستوى المسارات التجارية اتفقا على تعزيز التعاون في مجال النقل المستدام باعتباره محركاً للنمو الاقتصادي والتكامل الإقليمي، والذي بدأ في يناير 2024 من طريق تعبئة 10 مليارات يورو من الدعم والاستثمارات لآسيا الوسطى في منتدى المستثمرين العالميين لتطوير ممرات النقل الإقليمية الفعالة والخدمات اللوجستية والشبكات وسلاسل القيمة والآليات الفعالة لدعم الوصول المتبادل إلى الأسواق. وتم الاتفاق على دعم منصة التنسيق لممر النقل عبر بحر قزوين – الذي يبدأ من جنوب شرق آسيا والصين، ويمر عبر كازاخستان وبحر قزوين وأذربيجان وجورجيا إلى الدول الأوروبية – ومشاريع البنية التحتية الحيوية على طول الممر الأوسط، وضمان الوصول المتبادل إلى الأسواق والتعاون طويل الأمد.

 

4. الطاقة والموارد الطبيعية. يُشكِّل هاجس تأمين إمدادات المعادن النادرة مثل الليثيوم واليورانيوم، والتي تتوفر بكثرة في آسيا الوسطى، مسألة حيوية بالنسبة للاتحاد الأوروبي في سياسات التحوُّل الصناعي والطاقي. ولعل هذا الهدف يُعدّ الأكثر أهمية في هذه الشراكة. وفي اليوم السابق للقمة، أعلنت كازاخستان أنها اكتشفت رواسب هائلة من المعادن النادرة. وفي حال تأكَّد هذا الاكتشاف، فستصبح كازاخستان صاحبة ثالث أكبر احتياطي عالمي من المعادن الأرضية النادرة، بعد الصين والبرازيل. وعلى هامش القمة وقَّع الاتحاد الأوروبي وأوزبكستان مذكرة تفاهم لإطلاق شراكة استراتيجية بشأن المواد الخام الحيوية، فيما يُمثِّل خطوة نحو تأمين إمدادات متنوعة ومستدامة من أدوات إدارة سياسات التحوُّل الخضراء والرقمية في كلٍّ من الاتحاد وأوزبكستان. وتمتلك أوزبكستان ثاني أكبر احتياطيات من خام الحديد في آسيا الوسطى، وتتميز برواسب كبيرة من معادن مختلفة مثل النحاس والموليبدينوم والذهب. وتتماشى استراتيجية التعدين في البلاد مع طموحاتها لزيادة معالجة أنظمة إدارة الموارد للصناعات المحلية والدولية، وخاصة في صناعة السيارات والإلكترونيات الاستهلاكية. كما أقرَّت الشراكة الاتفاقية التي وقعها الاتحاد الأوروبي وكازاخستان في نوفمبر 2022 لإقامة شراكات استراتيجية بشأن المواد الخام المستدامة، والبطاريات، وسلاسل قيمة الهيدروجين المتجدد. إلى جانب توقيع بنك الاستثمار الأوروبي على أربع مذكرات تفاهم مع شركاء في طاجيكستان وقيرغيزستان وأوزبكستان، حيث ستوفر هذه الاتفاقيات ما يصل إلى 365 مليون يورو للنقل المستدام وإدارة المياه والإسكان الموفر للطاقة والمرونة المناخية. وفي قطاع المياه نصَّت الشراكة على تعزيز التعاون لحماية موارد المياه واستخدامها بكفاءة، ومواصلة الشراكة لتحسين الوضع في منطقة بحر الآرال وحوض بحر الآرال بأكمله.

 

آسيا الوسطى ليست مجرد مساحة جغرافية شاسعة تقع بين القوى الكبرى، بل تتحول بسرعة إلى ساحة تلتقي فيها مصالحها وتتصادم (شترستوك)

 

تحديات الشراكة الأوروبية مع دول آسيا الوسطى

بالقدر الذي تبدو فيه الشراكة الجديدة بين أوروبا وآسيا الوسطى واعدةً، إلا أنها في الوقت نفسه تواجه تحديات كبيرة تتعلق بالتنافس الدولي على المنطقة، وكذلك بالإمكانيات الذاتية للطرفين والفجوة بينهما. ويمكن تقسيم هذه التحديات إلى قسمين:

 

1. التحديات الموضوعية؛ وهي المتعلقة أساساً بالمنافسة الجيوسياسية. إذ تصل أوروبا متأخرة للمنطقة قياساً بروسيا والصين، ذلك أن آسيا الوسطى ليست مجرد مساحة جغرافية شاسعة تقع بين القوى الكبرى، بل تتحول بسرعة إلى ساحة تلتقي فيها مصالحها وتتصادم. وعلى رغم الموقف الحيادي تجاه الحرب في أوكرانيا، فإن موسكو ما زالت تحافظ على موطئ قدم استراتيجي واقتصادي مهم في المنطقة. فمنذ بداية الحرب، عززت كلٌّ من روسيا وآسيا الوسطى تعاونهما الاقتصادي. بدءًا من التجارة، بلغ إجمالي حجم التجارة في عام 2023 وحده حوالي 44 مليار دولار، ممَّا سمح لروسيا بالاستحواذ على ثلث إجمالي حجم التجارة في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، شهد استخدام العملات المحلية في التسويات المتبادلة نمواً كبيراً، حيث يتجاوز إجمالي حجم العمليات التجارية لآسيا الوسطى مع روسيا، والتي تُسوى بالعملات الوطنية نسبة 50%. وتسعى روسيا إلى إنشاء طرق تجارية جديدة عبر آسيا الوسطى لتتجاوز العقوبات، مثل ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب. وعززت روسيا نفوذها في آسيا الوسطى من طريق اتفاقيات التعاون العسكري مع كازاخستان، واتفاقية إنشاء نظام الدفاع الجوي الإقليمي مع قيرغيزستان. كما تحضُر الصين بوصفها مُنافساً قوياً في المنطقة، إذ تعدّ الشريك التجاري الرئيس لآسيا الوسطى، حيث بلغ حجم التجارة بينهما 43.8 مليار دولار بحلول نهاية عام 2024، بزيادة قدرها 9% عن عام 2023. وقد وسَّعت الصين نفوذها واستثماراتها في صناعة الطاقة، مُتجاوزةً البنية التحتية للنقل. حيث يُعدّ خط أنابيب الغاز بين الصين وآسيا الوسطى، الذي يمتد عبر تركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان، بالغ الأهمية لاستراتيجية بيجين لأمن الطاقة. كما أنشأت العديد من القوى الدولية، بدءاً من اليابان، وصولاً إلى كوريا الجنوبية، وتركيا، والولايات المتحدة، آليات تشاورية مع دول آسيا الوسطى. وعلى رغم فوائد هذه الأطر التنسيقية، فإنَّها تُشكّل عنصر منافسة لأي اتجاه أوروبي مستقبلي.

 

2. التحديات الذاتية. بإزاء شراكة بين مجموعة تضم 27 دولة ومجموعة تضم خمس دول، فإن تحدي التماسك في الالتزام والتنفيذ سيكون أساسياً ضمن العراقيل التي يمكن أن تعترض المسارات التنفيذية مستقبلاً. فأحد القيود الشديدة على سياسات الاتحاد الأوروبي في آسيا الوسطى هو الحاجة إلى التعامل مع أي قضية معينة مع خمس دول منفصلة. تفتقر آسيا الوسطى، من حيث كونها مجموعة إقليمية، إلى مؤسسات تنسيق، وبالتالي لا يوجد صوت واحد بشأن القضايا الرئيسة. في المقابل، تُعاني الكتلة الأوروبية من نفس المعضلة ولو بدرجة أقلّ. فضلاً عن الفجوة المؤسسية والقانونية بين الطرفين، إذ من المحتمل أن مسائل تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحوكمة والالتزامات المناخية ستُمثِّل قضايا تُثير تحفظ بعض الدول الأوروبية.

 

خلاصة

في سياق جيوسياسي متوتر بالنسبة للاتحاد الأوروبي، بسبب تدهوُر العلاقات المستقرة لعقودٍ عبر الأطلسي في أعقاب عودة الرئيس دونالد ترمب إلى السلطة، عُقِدت القمة الأولى بين الاتحاد الأوروبي ودول آسيا الوسطى، تدفعها مصالح التجارة والأمن وتعزيز النفوذ الجيوسياسي، خاصة بالنسبة للأوروبيين. وتقوم الشراكة الجديدة على أربعة مجالات أساسية، هي: التوافق السياسي، لاسيما فيما يتعلق بالنزاع في أوكرانيا، والتنسيق الأمني، وتوسيع الشراكة التجارية، وأخيراً الشراكة الاستراتيجية بشأن المواد الخام الحيوية، بوصفها خطوة نحو تأمين إمدادات متنوعة ومستدامة من أدوات إدارة سياسات التحُّول الخضراء والرقمية.

 

لكن هذه الشراكة تُواجِه تحدِّي المنافسة الجيوسياسية، حيث تصل أوروبا متأخرة للمنطقة قياساً إلى روسيا والصين، ومن ثمَّ فإن آسيا الوسطى تتحوَّل بسرعة إلى ساحة تلتقي فيها مصالح القوى العالمية الكبرى وتتصادم. وبإزاء شراكة بين مجموعة تضم 27 دولة ومجموعة تضم خمس دول فإنها تُواجِه، أيضاً، تحدي التماسك في الالتزام والتنفيذ.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M