ما إن عاد إلى مدينته، النجف، حيث مرقد الإمام علي بن أبي طالب، والحوزة العلمية التي يناهز عمرها الألف عام، حتى استقبلته السكاكين المسمومة، والأرواح الشريرة، التي تناهشت جسده، وهو الذي كان يملك حلماً كبيراً طالما راوده وسعى بكل قوته إلى تحقيقه.
لم تكن مكانة المدينة العراقية التي لها رمزية خاصة عند المسلمين الشيعة، كافية لأن تحقن الدم الحرام؛ وعوض أن يكون السيد عبد المجيد الخوئي، آمناً مطمئناً قرب منزله، وحيث تربع والده الراحل آية الله أبو القاسم الخوئي مرجعاً أعلى لسنوات طوال، بدل ذلك، أسلم روحه إلى بارئها، من دون أن يتمكن من النجاة أو توديع الأهل!
الخوئي الذي اغتالته العام 2003 مجموعة من الرعاع المجرمين، كان من علماء الدين القلائل الذين تربطهم علاقة احترام بمجموعة من الشخصيات السياسية والرؤساء والملوك العرب والأوربيين. وهو استثمر هذه العلاقة في ردم الهوة المذهبية بين المسلمين السنة والشيعة، ومحاولة التأسيس لرؤية قائمة على الاعتدال.
جامعة المذاهب
“جامعة المذاهب الإسلامية”، فكرة راودت عبد المجيد الخوئي، وهو من أجل ذلك اشترى قطعة أرض في الجمهورية العربية السورية،كان يريد أن يؤسس عليها صرحاً أكاديمياً، مختصاً في تعليم الفقه، وتطوير أدوات دراسته، عبر رؤية حديثة، تجمع مختلف المذاهب الإسلامية: الإمامية، المالكية، الشافعية، الحنفية، الحنبلية.. وسواها من المدارس الفقهية والعقدية؛ لأن المهم هو البناء على المعرفة، لا البقاء في الدوائر الطائفية الضيقة.”جامعة المذاهب الإسلامية”، التي كان يخطط الراحل السيد عبد المجيد الخوئي للعمل عليها، ربما من المفيد في الوقت الحالي استعادتها، في مشروع مستقبلي مشترك، بين أبو ظبي والنجف، خصوصاً أن هنالك خللاً عميقاً يشوب التعليم الديني في كثير من المعاهد الإسلامية، في أكثر من بلد، وهو الأمر الذي أدى الى وجود مجموعات من “الدعاة” تعمل على نشر أفكار أصولية، تكفيرية، عنيفة، شهدنا آثاراً لها في الهجمات الإرهابية الأخيرة في نيس وفيينا وكابول، وجريمة قطع رأس المعلم الفرنسي في باريس.
التأسيس المنهجي
هنالك حاجة ماسة لإعادة صوغ الخطاب الدعوي الإسلامي، وتعزيز قيم التعدد والاختلاف، وأول خطوة نحو ذلك، هي الإيمان بحق الاختلاف العلمي داخل “البيت الإسلامي” ذاته. لأنه طالما بقيت هذه التباينات والصراعات عميقة بين أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة، واستمر بعض الدعاة أو علماء الدين في إصدار فتاوى التكفير أو الإقصاء والنبذ، فإن التوافق مع بقية البشر من خارج الدائرة الإسلامية سيكون أكثر صعوبة، لأنهم ببساطة سيكونون مصنفين كـ”كفار” أو أصحاب “دار حرب”، ما يعني نظرياً سلب حقهم في الحياة والعدالة والمواطنة.
من هنا، فإن جمع عدد من الدعاة الشباب، من مذاهب مختلفة، في أكاديمية علمية واحدة، وجعلهم يتدارسون مناهج منوعة، ويعرفون نقاط الالتقاء والاختلاف، أمر مفيد، مع أهمية أن تكون هذه الجامعة ذات بعد “مدني – إنساني” أيضا، يهتم بتعليم القانون والفلسفة والأخلاق وعلوم مثل: الاجتماع، الإناسة، علم النفس، وسواها من العلوم ذات الصلة.
الخطوة الأولى
في مقالين سابقين في موقع “النهار العربي”، استعرضت إمكان التعاون بين مرجعتين إسلاميتين، وهما آية الله السيد علي السيستاني، والعلامة الشيخ عبد الله بن بيه. وهو التعاون الذي من الممكن أن يكون في أكثر من مجال.
العلامة بن بيه يرأس “مركز الموطأ للدراسات والتعليم”، وهو مركز تأسس العام 2016، برعاية وزير الخاريجة الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد، والهدف منه أن يكون “رافداً علمياً من روافـد دولة الإمارات العربية المتحدة في الدراسات والتعليم”، إذ “يـسعى المركز إلى إثراء المعرفة الإسلامية والإنسانية وتعزيز البحث العلمي الرصين، والمـساهمة الجادة في تكوين كفاءات علمية مؤهلة لنشر قيم الإسلام السمحة”. وهي القيم التي تلتقي مع الأفكار التي تؤمن بها مرجعية السيستاني.
السيد السيستاني بدوره يشرف على عدد من “الحوزات العلمية”، ومنها: مدرسة الشيخ البلاغي، ومدرسة نجم الأئمة، ومدرسة العلوي.
هذه المراكز التي يشرف عليها المرجعان، باستطاعتها التعاون في ما بينها، سواء في إعداد مناهج علمية مشتركة، او تبادل الخبرات، كما إقامة ورش عمل يشترك فيها باحثون من البلدين.
التعاون العلمي الأولي بين “مركز الموطأ”، والمدارس الفقهية النجفية، من شأنه أن يخلق ثقافة عابرة للمذاهب، ويجعل “الدعاة الجدد” أكثر وعياً وعمقاً، وإيماناً بأن الاختلاف أمر طبيعي، وليس مدعاة للشقاق.
المتون العلمية
“الأصول العامة للفقه المقارن”، كتاب أصدره الراحل السيد محمد تقي الحكيم، في سبعينات القرن المنصرم. وكتاب “الفقه على المذاهب الخمسة”، للراحل الشيخ محمد جواد مغنية، كلاهما متنان علميان يبحثان في الفقه ضمن الدائرة الإسلامية الأوسع، المتجاوزة للتقييد الطائفي بمذهب محدد بعينه.
ورغم أن كلا العملين، مضى عليهما زمان طويل، تطور فيه العلم وأدوات البحث والنقد، واستجدت فيه مناهج حديثة، ومسائل فقهية طارئة، إلا أنه يمكن أن يكونا حافزين نحو أعمال أكثر حداثة ودقة، تقوم بها المؤسسات العلمية التابعة للشيخ بن بيه والسيد السيستاني، لأن الدراسات المقارنة، مدخل رئيس، ليس في الفقه وحسب، بل في شتى العلوم الإنسانية.
المرجعية المشتركة
أعلنت دولة الإمارات في العام 2019، عن نيتها تأسيس “بيت العائلة الإبراهيمية” الذي يجمع الديانات السماوية: الإسلامية، اليهودية، المسيحية، كرمز لـ “الأخوة الإنسانية”، والمساواة بين البشر.
المشروع الذي ستحتضنه جزيرة “السعديات” في العاصمة أبو ظبي، بإمكانه أيضاً أن يكون مساحة تنفذ فيها مشاريع علمية، تتكامل مع الأفكار المساقة في مقدمة المقال، بحيث يكون “البيت الإبراهيمي” المظلة التي تضم “مؤسسة مرجعية إسلامية” مشتركة، يشرف عليها العلامة بن بيه وآية الله السيستاني، وتتواصل مع الديانات الأخرى.
أحد الأصدقاء الذين أثق بحكمتهم، كنت في حديث معه، وقال لي: تخيل أن يأتي وفدٌ من النجف في زيارة إلى أبو ظبي، ويلتقي الشيخ عبد الله بن بيه، ويصلي بإمامته في جامع الشيخ زايد الكبير. وبعدها يذهب وفد من أبو ظبي ويزور النجف، ويصلي هنالك بإمامة السيد علي السيستاني.
وفد يضم مجموعة من علماء الدين والمثقفين والشخصيات المؤثرة من دول إسلامية عدة، يلتقي في زيارات مشتركة لابن بيه والسيستاني، لديه مشروع عملي وقوي قابل للتحقق، يؤمن بـ”سيادة القانون” و”مرجعية الدولة” و”نبذ العنف” و”المواطنة الشاملة”، وليس مجرد زيارات باردة صورية لا معنى لها، وفدٌ كهذا الذي يدفعُ صديقيَّ المخلص نحو تحققه يوماً ما، يأمل بأن لا يكون عاجلاً، سيكون له أثر كبير في الجمهور العام، رغم أنه قد يكون بالنسبة الى البعض “وفدا رمزيا”، إلا أن خطوات التعاون هكذا تبدأ، ثقة تبنى يوماً بعد آخر، بعدها يكون المصير واحداً ومشتركاً، والأعمال الجادة تكبر مع الوقت.
رابط المصدر: