عزالدين عناية
حوار مع المفكر عز الدين عناية، أجرته: نزهة صادق
أنت ممن كرسوا جزءاً مهماً من حياتهم العلمية لدراسة الظاهرة الدينية من خلال ترجمة بعض الأعمال، وتأليف مصنفات تصب كلها في تيار نقد الفكر الديني علمياً وموضوعياً.
* هل في نظركم ملأت الدراسات الدينية النقدية اليوم، بعد أن عرفت انتشاراً كبيراً، الفراغ الذي تعرفه الساحة الثقافية، خاصة وأن العلوم الشرعية مازالت تأخذ حصة الأسد؟
– يتميز تاريخ الدراسات الدينية النقدية في البلاد العربية خلال العقود الخمسة الأخيرة، إذا ما سلمنا بأن مؤلف “نقد الفكر الديني” لصادق جلال العظم هو إعلان مولدها، بطابع الانخراط ضمن خط إيديولوجي وأحيانا خط سلطوي. لعل هذا المنحى الذي ميز تلك الدراسات ما جعلها واهنة المنشأ وضئيلة الأثر، وربما مرتهَنة بشكل أدق. لأنه وفق تقديري، الفكر الديني النقدي الفاعل هو الفكر الذي يخرج من عباءة المناورات السياسية إلى حقل المعالجة الفكرية والعلمية، ولعل هذا ما نحتاجه بالأساس، وهو ما لا نزال مقصرين فيه. حيث لم نفرق بعد بين النقد الإيديولوجي والنقد الابستمولوجي وهذه محنة أخرى من محن الحقل الديني في البلدان العربية.
وضمن ذلك النقص، لا ننكر أن ثمة قطيعة جلية ومؤثرة بين الوسط الأكاديمي في كليات الشريعة وبين نظيره في كليات العلوم الإنسانية والاجتماعية، تقريبا في سائر البلدان العربية. وهو ما يحول دون إرساء حوار فاعل ومثمر بين الطرفين في التعاطي مع الظاهرة الدينية عامة وتطوير أساليب النظر فيها. فثمة أفق نظري يتحرك فيه كل طرف بمنأى عن الآخر، بينهما برزخ لا يبغيان، أحدهما يزعم الحداثة والآخر يدعي الأصالة. ناهيك عن أن العلوم الشرعية داخل الزيتونة والقرويين والنجف والأزهر، المراكز التاريخية لتشكل العقل الإسلامي العربي، لا تزال رهينة الرؤى الكلاسيكية ولا تزال محكومة بالسقف الرؤيوي التقليدي. يغيب عنها النظر الحديث أو الاستعانة بالأدوات الخارجية المتأتية من فضاء العلوم الإنسانية والاجتماعية، ويغيب عنها الاستلهام الفاعل لتجارب الفكر اللاهوتي الغربي الذي قطع شوطا هاما في جانبيه الكاثوليكي والبروتستانتي، من حيث التعاطي مع قضايا الاجتماع البشري، والتخفيف من غلواء الاشتغال بقضايا السماء والالتفات نحو الأرض. إذ ثمة استنزاف لطاقات معرفية جبارة في كليات الشريعة في عالمنا العربي في عملية تدوير باطلة، ذات طابع فقهي وشرعي، دون تطور يذكر. ولذلك تعجز العلوم الدينية بوجهها التقليدي عن تلبية حاجات الاجتماع العربي الدينية، حتى بات الفقيه والداعية عالة على التحول الحضاري وليس مسهما فيه، رغم حضوره الواسع في وسائل الميديا.
* هل ما يعيشه العالم العربي الإسلامي اليوم من انغلاق لاهوتي يعود إلى غياب المؤسسة الدينية الفاعلة؟
– تتجه السوق الدينية إلى الانفتاح وإلى التحرر من الاحتكار والمونوبول أيا كان نوعه، وبالتالي أتصور أن تأبيد دور المؤسسة الدينية ليس له معنى، والتعويل عليها هو حلم لا طائل من ورائه. ربما يروادنا ذلك الحنين للمؤسسة الدينية، بفعل الخوف والأهوال السياسية والدينية التي تعصف بالبلاد العربية، لأن جزءا هاما ومحوريا من أرض الإسلام يغرق في أوضاع شبيهة بأوضاع ما قبل الدولة، وربما دخل بعضها عصر اللادولة بكافة عنفه وعفنه، وباتت شعوب لا تدري سبيل الخروج، فيُخيَّل للمرء أن لا عاصم اليوم سوى العودة للمؤسسات السالفة، وهو وهْمٌ لا طائل من ورائه.
في زمن يكشف فيه الواقع أن المؤسسة الدينية في البلاد العربية قد فقدت السيطرة على المجال الاجتماعي الديني بفعل التقادم، نظرا لتحنّطها وفقدانها الحس بالحراك المجتمعي. ولكن ذلك المستجد، أي فتور دور المؤسسة الدينية، هو أمر طبيعي في ظل خروج الدين من الاحتكار الرؤيوي والتأويلي، وفي ظل شيوع وسائل الاتصال الحديثة. وفي الراهن الحالي يبقى نفوذ المؤسسة الدينية التقليدية في البلاد العربية متأتيا بقوة سند السلطة الجارحة لا بموجب الإقناع والبرهان والريادة. وأما الانغلاق اللاهوتي في البلاد العربية فهو ناتج عن الاستهلاك الديني غير الرشيد وغير الحكيم، أقصد غياب المنظور العقلاني في الدين وهيمنة النهج الاتباعي والديماغوجي، وليس نتاج غياب تلك المؤسسة. وهل تاريخ المؤسسة الدينية في البلاد العربية هو تاريخ منفتح طولا وعرضا حتى نزعم أنها سبيل النجاة؟ ربما حالة ابن خلدون، الزيتوني الشريد، تغني في هذا السياق.
* في كتاب “نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم”، أعدْتَ قراءة المسيحية في تجلياتها المعاصرة وما تمثله من تحد للفكر العربي المعاصر، هل تبنّي التجربة المسيحية يتناسب وخصوصية الثقافة العربية الإسلامية؟ وهل تعتبر قراءتكم دعوة صريحة لتحرير اللاهوت الإسلامي من التمثلات التي تقف أمام تطور المجتمع؟
– في مؤلفي الذي سبق ذكره، دعوت إلى أمرين اثنين: إعادة النظر في المسيحية العربية وفي المسيحية الغربية، فبين المسيحيتين فروق شتى، ولن يتأتى ذلك الوعي سوى ببناء علم مسيحيات عربي يستند إلى مرجعية ثقافية محلية. فالمسيحية الغربية بقدر ما تشكل تحديا للإسلام التقليدي اليوم تشكل تحديا للمسيحية العربية التائهة. وضعف المسيحية العربية هو مرتبط بضعف الإسلام، والعكس أيضا. فنحن أبناء بنية اجتماعية واحدة وعقلية واحدة وإن اختلفت عقائدنا وطقوسنا.
فالمسيحية العربية هي غريبة في ديارها ضعيفة بين أهلها. وأقصد هنا لا يزال التعاطي معها في الاجتماع العربي بمثابة الأمر الدخيل وغير الأصيل. مع أن محنة المسيحية العربية في الزمن الراهن هي جزء من تردي الثقافة وتردي رؤانا في الدين. فأي موضع للمسيحية في الدراسات في كلية الشريعة، فهي لا تزال ضمن أبواب “الملل والنحل” و”أهل الذمة” و”أهل الكتاب” و”الضالين” و”الجزية”، هي تاريخ ماض وليست حاضرا حيا، وكأن التحولات الفكرية الحديثة لم تحدث؟
ولكن إجابة على سؤالك في تبني المسار الرؤيوي للمسيحية في التعاطي مع الاجتماع في المجال العربي، فلا أقول بذلك لأن كل دين، أو كل جوهر ثقافة، كما يسميه بول تلّيش، هو من وحي التجربة التاريخية ولا يحصل بالتقليد أو التبني. الإسلام هو تجربة فريدة، وهو ليس دين مؤسسة، ولا دين حزب، ولا دين طائفة أو مذهب، ولا دين شيخ أو إمام، كما يراد له، بل هو دين الناس، ومن هذا الباب فالجميع على قدم المساواة في الائتمان عليه والوصاية عليه.
* على المستوى الغربي، برز تيار لاهوت التحرير كطريق ثالث بين دين الكنيسة المنحاز للإقطاع والاستغلال، وبين الأيديولوجيات العلمانية الحديثة، أما على المستوى العربي لازال يتدحرج بين التحريم والتجريم في ظل هيمنة النسق اللاهوتي، انطلاقاً من تجاربكم، هل ثمة فارق بين لاهوت التحرير ولاهوت التحريم؟
– لاهوت التحرير هو زفرة المستضعَفين في أمريكا اللاتينية، وهو لاهوت سياقي اهتزّ وربا ضمن أوضاع جنوب تلك القارة المنكوبة، التي كانت مسرحا للنهب والطغيان على حد سواء، إذ تولد من أوضاع شعوب مصلوبة، جراء آلة جشع الليبرالية المتوحشة التي باتت تقبض على مصير العالم، وهي تدعي أنها دين الخلاص، معابدها البنوك، وإكليروسها المستثمرون، وعقيدتها الخصخصة. وبالتالي مسار لاهوت التحرير، متداخل ومتنوع، لم ينطلق من قمة الكنيسة ليسير نحو قاعدة المؤمنين، ولا من القاعدة الشعبية ليصعد باتجاه القمة، ولكن من الهامش باتجاه المركز، على حد توصيف المفكر البرازيلي الفرنسي ميكائيل لوفي. وليس صدفة أن ينبع من أوساط اجتماعية تفشّى فيها التباين الاجتماعي بشكل حاد وعمّ فيها تدمير الهوية بشكل ليس له مثيل. فلئن كانت هناك خطيئة -كما يقول لاهوت التحرير- فهي الخطيئة البنيوية المسلطة على الناس من قِبل النظام الرأسمالي، ولا سيما في شكله الرائج في الليبرالية الجديدة بوصفها دين خلاص.
لذلك فعلَ خيرا لاهوت التحرير في اعتباره التصدي للجشع الرأسمالي هو مقاومة للوثنية الجديدة، وثنية رأس المال العائدة مع “مامون” الجديد، الذي حذر منه المسيح عليه السلام في قوله: “لا تقدروا أن تخدموا الله ومامون (أي المال)” في إنجيلي متى ولوقا. فليست المسألة المطروحة في أمريكا اللاتينية هي مسألة إلحاد بل مسألة الوثنية الجديدة، التي تزعم إنقاذ العالم عبر الآلهة المزيفة لنظام الاستغلال.
وفي الخطاب الديني العربي اليوم يحضر بقوة خطاب التحريم ويغيب بقوة خطاب التحرير، فليس هناك رهان على ما يحرر الناس بل على ما يشدّهم، وما يستنزف عقولهم وقدراتهم الذهنية. فلا يمكن أن ينشأ خطاب تحرير ومناخه غائب وأدواته مصادرة، فما الذي يستهلكه طالب العلوم الدينية لدينا؟ هل هناك دراسة لمرفولوجيا العلوم الدينية ذاتها هذا الأمر غائب. هل هناك استعانة بالقدرات “العلمانية”؟ هذا غائب، إذن نحن لم ندرك الطريق التي أدركتها الكنيسة في الغرب حتى باتت قوية ونافذة.
* نحن اليوم في حاجة إلى ثقافة نقدية بناءة، حتى نتمكن من المساهمة الفعالة في المسار التنموي الإنساني، هل الانفتاح على تيار لاهوت التحرير سيمكننا من مواكبة الركب؟ وهل ما بدأه حسن حنفي كافياً لتأسيس أرضية عربية إسلامية منفتحة على الاختلاف؟
– لاهوت التحرير هو مدرسة وليس كنيسة، ولذلك الانفتاح على هذه المدرسة نافع وملهم ومجد، لأن الخط الديني اللاحزبي في البلاد العربية يبدو كالعاشق بدون معشوقة، يفتقر إلى الأدوات والوسائل لفهم أوضاعه ولفهم العالم وهو ما يعوزه بالأساس.
لاهوت التحرير في البلاد العربية هو لاهوت التحرر من اللامعقول الذي صادر الدين من قلوب الناس ومن أذهانهم، هذه المعركة الكبرى، ولخوض هذه المعركة لا بد أن نعمل على المستوى الفكري ليل نهار حتى نحوّر الباراديغمات التي تتحكم بعقول الناس، فتمنعهم من رؤية سبيل الرشاد.
سيبقى حسن حنفي علما بارزا في فكرنا الديني العقلاني، لكن النهج الذي خطه الرجل لا يزال محدود الأثر، فهناك غوغائية دينية وهناك بنى أسطورية جاثمة على العقل الديني يتطلب زحزحتها عمل أجيال ومؤسسات وليس أفرادا. فقد سمعنا كثيرا من الإسلاميين يقولون بالتصالح مع الديمقراطية، وقد تطلب ذلك عقودا، ولكن لم نسمع واحدا قال بالتصالح مع العقلانية، ولعل ذلك يتطلب دهرا.
* في ظل المتغيرات التي يعرفها العالم العربي، تستند معظم حركات المعارضة العربية والإسلامية على التعبئة الدينية في نشاطاتها الرامية إلى تغيير الأوضاع أو مواجهة النظم القمعية والفردية، في نظركم هل هناك حاجة ضرورية إلى إعادة بناء الخطاب الديني، أم إن جدلية الدين والسياسة لازالت تطرح نفسها بقوة في مسألة التغيير العربية الإسلامية؟
– صحيح ان الدين مولد لطاقة اجتماعية جبارة ولكن هذه الطاقة ينبغي أن تبقى موجهة للصلاح بعيدا عن تهييج الناس بالأوهام والأحلام. ربما أخطر التحديات التي واجهت التحولات الدينية في البلاد العربية، على مدى القرن الفائت، وهي تمثُّلُ ترجمتها الصائبة في حركة بعينها أو حزب بعينه. فالإسلام يستوعِب ولا يُستوعَب، ومن هذا الباب كل يعمل على شاكلته. ذلك أن انزلاقات الإسلام السياسي في البلاد العربية متأتية بالأساس من ضعف المكون الثقافي بداخله، وحين نقول المكون الثقافي نعني النقدي والتفكيكي والاختلافي. فالإسلام السياسي العربي لم ينتج حركة فكرية عاضدة ومصححة له ومقومة، ومن هذا المأتى كثرت سقطاته وانحرافاته.
ويبدو الإسلام السياسي في نسخته الإخوانية قد انتهى إلى طريق مسدود، جراء تصوراته وتمثلاته للواقع، وهو غير قابل للتصدير أو الرواج إلا في أوساط الحالمين، ومن هذا السياق تبقى أمام كل واقع اجتماعي حاجة إلى تطوير تصوره وتعامله مع الأحداث، بعيدا عن الوصاية، فالإسلام الأنثروبولوجي هو أكثر صدقا في التعبير عن خبايا الواقع.
* لعب أنصار لاهوت التحرير دورا أساسياً في هزيمة الدكتاتورية وتعبئة شعوب أمريكا اللاتينية، هل التحرر من نظم الوصاية يتطلب بالأساس، التحرر من الدين؟ وهل لاهوت التحرير ثورة دينية أم ثورة على الدين؟
– لاهوت التحرير هو خطٌ إيمانيٌّ نصيرٌ للمستضعَفين بالأساس، لذلك رفع شعار الخيار من أجل الفقراء، لا يتوانى عن توظيف أدوات التحليل الاجتماعي ذات الطابع اليساري، لذا جاء توظيف الماركسية، ليس هياما بها، بل بقصد الإحاطة بمنابت الفقر، وبسائر أنواع الصراع الطبقي سبيلا للتحرر. إنه لاهوت يتوسل بما أنتجه العقل البشري لمناصرة المحرومين في قضاياهم. من جانب آخر ما كان لاهوت التحرير ثورة على الدين بل ثورة على نسخته المرسملة، ممثلة في حاضرة الفاتيكان، ولذلك بلغ التناطح أوجه بين الطرفين في تسليط عقوبة الحرمان على جملة من رواده. كان الكردينال راتسينغر رئيس مجلس مراقبة العقيدة، قبل أن يصير حبر الكنيسة الأعظم، هو من تولى محاكمة ليوناردو بوف وحرمانه، بدعوى الانحراف عن الصراط المستقيم وذلك سنة 1985.
فهناك اختطاف لرسالة المسيح السامية من طرف كنيسة غربية مركزية باتت مهيمنة على غيرها في الأطراف وعابرة للقارات، وهذه الكنيسة ليست ذات طابع كاثوليكي أو بروتستانتي أو أنغليكاني كما هو معتاد، بل هي كنيسة تتجاوز التوصيف المذهبي والليتورجي المعتاد، وما يميزها هو التحالف الجوهري مع قيم الليبرالية الجديدة. لقد كان لاهوت التحرير ولا يزال تصحيحا لرسالة السماء بعدما دب فيها من انحراف على الأرض. لذلك قال غوستافو غوتيراز، أحد آباء لاهوت التحرير، حين سئل في أحد الحوارات معه: هل مات لاهوت التحرير وانتهى؟ فرد قائلا: لم أر مأتما!
رابط المصدر: