شيء من الانتهازية السينمائية، والكثير من الذكاء والحيوية ومحاولة الفهم… هذه بعض من الصفات التي تسهل ملاحظتها في فيلم “المتدرب” The Apprentice من إنتاج كندي، دانماركي، أيرلندي وأميركي مشترك، ومن سيناريو للصحافي غابرييل شيرمان وإخراج علي عباسي. يقدم “المتدرّب” سيرة ما للرئيس الأميركي السابق والمرشح الحالي للرئاسة دونالد ترمب. ويصعب القول إن الفيلم هو السيرة الذاتية الوحيدة أو حتى الحقيقية، لشخصية مؤثرة على الصعيدين الأميركي والدولي، فالرجل لا يزال بيننا متحرِكا ويملك صوته، وقد يُنتخب مجددا رئيسا للولايات المتحدة.
مع ذلك، تبقى هذه الاحتمالية السينمائية عن حياة دونالد ترمب، جذابة فنيا، بالأخص مع حضور الممثل سيباستيان ستان، في دور ترمب، وهو الموهوب في التقمص، إلى حد لا تبدو استعارته قناع ترمب تقليدا للرجل الشهير، بل مجرد انزلاق محسوب وعابر إلى جسده الضخم. لقد شاهدنا من قبل أفلاما روائية عن سياسيين موتى أو رجال أعمال لم يعد لهم مكان في المشهد، لكن هذه من المرات النادرة التي نتفرج فيها على فيلم عن رئيس ورجل أعمال لا يزال حيا، قد يتغيّر مصيره وقناعاته في أي لحظة.
من ناحية أخرى، هذه الجرأة الفنية، في تناول شخص ترمب من دون الرجوع إليه ومن دون أن يكون هذا التناول بصورة إيجابية، جعل أصحاب العمل يجابَهون مرات عدة بتضييقات إنتاجية، ولاحقا تملص شركات التوزيع، وملاحقات قضائية من جانب فريق ترمب.
غير أنهم واصلوا عملهم غير آبهين لكل هذه العراقيل، وصدر الإعلان الأول عن الفيلم، حسب موقع ويكيبيديا، في العاشر من سبتمبر/ أيلول الماضي، متزامنا مع المناظرة الرئاسية بين دونالد ترمب وكامالا هاريس.
هذه من المرات النادرة التي نتفرج فيها على فيلم عن رئيس ورجل أعمال لا يزال حيا، قد يتغيّر مصيره وقناعاته في أي لحظة
لماذا ترمب؟
يمكن القول إن “المتدرب” كفيلم هو القوس المفتوح بين العبارة التي يُخبر بها دونالد إحدى رفيقاته في مطعم نيويوركي باذخ، وهو لا يزال شابا غرا: “أظن أن المرء يولد مليارديرا، أظن أنهم يحملون ذلك في جيناتهم”، وهو ينظر حوله الى الأثرياء مرتادي المطعم الليلي، ولا يلفت انتباه أي منهم. وبين العبارة التي يوجهها ترمب رجل الأعمال المتعجرف الممتلئ بنفسه، الى الصحافي في المشهد الأخير تقريبا من الفيلم: “لقد ولدت بغريزة القاتل”. بين التردد الأول، وعدم التصديق، ثم الشعور المفرِط بالقوة والثقة إلى حد الغرور، تجري أحداث هذا الفيلم.
فيلم “المتدرب”.
كلمة السرّ في هذا التحوّل، هي لقاء ترمب في شبابه المحامي المكيافيلي روي كون، يؤديه جيرمي سترونع، في إحدى الليالي، في المطعم نفسه، أو الملهى الليلي، والافتتان الذي يختبره روي على الفور إزاء دونالد، وتصميمه على تحويل حياة معبوده إلى مسار يشتهيه دونالد الشاب في هذه اللحظة، لكنه لا يظن في نفسه القدرة على تحقيقه. وسريعا نفهم أن والد دونالد، لا يؤمن بقدرات ابنه، كما يفعل روي، وربما لا يؤمن بقدرات أحد من أبنائه، وأن للأب نفسه مواقف تحتقر السود مثلا، والأعمال التي لا تدر أموالا طائلة. وهذا يعني أن الطريقة الوحيدة للحصول على اعتراف الأب، أمام دونالد الشاب، كانت المزيد من التفوق في المال والأعمال، والمزيد من اللامبالاة إزاء المحتاجين أو الضعفاء من أي نوع، ولو كان شقيق دونالد نفسه، فِريد، الخروف الأسود، والتجلي الصريح لعُقد الأب وإساءاته الى أولاده، مع أننا في الفيلم لا نرى منها الكثير.
إلى هذا يصير المحامي روي الأب الروحي البديل لدونالد، الهدية من السماء التي سقطت فوق رأس الشاب الرومنسي، وكان لا يزال قادرا على الحب وإهداء الورود الى عارضة الأزياء التشيكية، التي ستصير لاحقا زوجته الأولى إيفانا زيلنكوفا. هو الذي سيعلمه قواعده المكيافيلية، وهو الذي سيذلل له العراقيل القانونية أمام أحلامه في بناء برج ترمب، بعد أن يطرد ساكني العقار الذين لا يدفعون أجر سكناهم، بل إنه حتى سيقنع دونالد بأن توقع زوجته المستقبلية إيفان عقدا للزواج يجبرها على التخلي عن بعض من حقوقها إن تم لاحقا الطلاق. ويستخدم روي كل الأساليب الدنيئة الممكنة لتركيع خصومه، فهو يملك مكتبا كالبئر السوداء، يحوي أسرار الشخصيات العامة، ويكفي أن يسحب ملفا باسم محدد، حتى يخضع المسؤول لطلبات روي التي تصب في صالح التوسع المشتهى لترمب في سوق العقارات. هكذا، مثّل روي كون، الصورة النموذج، لدونالد الشاب، ممررا كل ما يفعل، بخطاب الدفاع عن أميركا ضد أعداء خياليين، والحديث السائل عن الديمقراطية، الذي يسمح “بالهجوم المستمر، وعدم الاعتراف بأي شيء، والادعاء المتواصل بالانتصار، ولو حتى في لحظات الهزيمة”، وهي القواعد الذهبية لروي كما لقنها لتلميذه.
يصير المحامي روي الأب الروحي البديل لدونالد، الهدية من السماء التي سقطت فوق رأس الشاب الرومنسي
وكأن روي كون، كما عرفه دونالد، كان هو دونالد ترمب المستقبلي نفسه، وكأن روي أيضا، لم يصدق أن في وسع هذا الشاب الذكي، “المتدرب”، أو التلميذ، أو الحواري، أن يصل إلى ما وصل إليه فعلا دونالد ترمب الحقيقي، وأن يتضخم إلى هذا الحد، الذي سيفقد روي معه، ذلك الافتتان القديم، ويتبدل الحب إلى غضب أو خشية، أو رغبة عاجزة في الانتقام.
مشهد من الفيلم.
في هذا المعنى فإن الثنائي (روي – دونالد) جسّد شيئا من الحلم الأميركي، في الصعود السريع والثراء المحتوم والقفز فوق الصعوبات، لكن كذلك في التحلل السريع للذات، وفقدان القدرة على التواصل الإنساني، حين تصبح كل العلاقات علاقات مصالح، بما في ذلك علاقة زواج ترمب بمحبوبته إيفانا، وسأمه اللاحق منها، وإذلالها إلى درجة اغتصابها (والحادثة أخذها صُناع الفيلم من سجلات قضية الطلاق التي رفعتها ضد ترمب)، علاوة طبعا على تفسخ علاقات ترمب بعائلته، ورغبته في التحكم في ميراث إخوته. وباختصار، فإن علاقة روي ودونالد تكبّر داء الذات الأميركية المنغلقة على نفسها، ضد العالم الذي يراه ترمب “لا يعامل أميركا بالاحترام الكافي”. والفيلم الذي يرتكز سرديا على هذه العلاقة بتحولاتها من النصف الأول إلى الثاني، يمنحنا نبذة عن عالم ترمب الداخلي، كما يعبّر عنه في خطاباته الشعبوية، وفي معاركه الانتخابية، وإهانته لخصومه، وإحساسه المتواصل بأن العالم يتآمر ضده وضد وطنه.
مشهد من الفيلم.
فاشية صاعدة
بالطبع، يعبّر الفيلم عن أفكار صنّاعه ومنتجيه التي لا تتمترس في معسكر واحد مع اليمين المحافظ الذي ينتمي إليه ترمب. ولو أن دونالد ترمب نفسه مَنْ قرر إنتاج هذا الفيلم لتغيّر طبعا التحليل النهائي للشخصية، ولانقلبت السردية، صانعة بلا شك من ترمب الرجل المعجزة، الخيميائي الذي يحوّل التراب إلى ذهب، والذي يملك مفاتيح جنة أميركا، وسيمررها للأميركيين حين ينتخبونه. وهي الأفكار التي يعبر عنها ترمب في حياته، مدعيا الانتصار في أشد لحظاته مأسوية.
في الأسلوب السينمائي لـ”المتدرب” حيوية تضاهي حيوية مسيرة دونالد ترمب الحقيقي وطموحاته، ورغباته التي تتحدى الزمن والواقع
استند الفيلم إلى الحكايات التي جمعها السيناريست غابرييل شيرمان عن دونالد ترمب من العاملين في مكتبه طوال سنوات، وكذلك إلى ما أورده الصحافي هاري هارت في كتابه عن ترمب Lost Tycoon: The Many Lives of Donald J. Trump، لا سيما في مسألة إدمانه بعض العقاقير المسببة للنشوة، بعد مروره باكتئاب حاد إثر موت شقيقه، إضافة طبعا إلى سجلات طلاق زوجته الأولى منه. هذه بعض من المصادر التي نعرفها، للفيلم الذي يصوره مُخرِجه علي عباسي بأسلوب التحقيقات الاستقصائية، محاولا إعطاء بعض الانطباع بالواقعية، عبر مونتاج إيقاعه سريع، وكاميرا محمولة وغير ثابتة. في الأسلوب السينمائي لـ”المتدرب” حيوية تضاهي حيوية مسيرة دونالد ترمب الحقيقي وطموحاته، ورغباته التي تتحدى الزمن والواقع. وهو، وإن كان فيلما عن أفكار ترمب المتطرفة، أو حتى نرجسيته، هو أيضا عن شخصه المسكين، والطفل الذي لم يتجاوز قط جراح طفولته.