بعد تهديدات ترامب لأوروبا.. هل يمكن أن تحدث حرب تجارية في قطاع الطاقة بين واشنطن وأوروبا؟

في تصعيد جديد يعيد أجواء الحرب التجارية إلى الواجهة، هدد الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، دول الاتحاد الأوروبي بفرض رسوم جمركية دائمة إذا لم تلتزم بشراء كميات كبيرة من النفط الخام والغاز الأمريكي. يأتي هذا التهديد ليعكس استمرار التوترات التجارية العميقة بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي، والتي بلغت ذروتها خلال فترة ولاية ترامب الأولى، حيث كان قد اتبع سياسة تجارية حمائية استهدفت تعزيز الإنتاج الأمريكي من خلال فرض رسوم جمركية على العديد من السلع المستوردة، مثل الصلب والألومنيوم من أوروبا. هذه السياسات قد أثارت ردود فعل قوية من الجانب الأوروبي، الذي بدوره فرض رسومًا على المنتجات الأمريكية، مما أسهم في تصعيد التوترات بين الطرفين.

يشير تصريح ترامب الأخير إلى أن استراتيجية الضغط الاقتصادي قد تتصاعد مرة أخرى، حيث يسعى الرئيس الأمريكي إلى زيادة صادرات بلاده من النفط الخام والغاز الطبيعي إلى أوروبا، وهي خطوة تهدف إلى تقليل العجز التجاري مع دول الاتحاد الأوروبي وتعزيز مكانة واشنطن كمصدر رئيس للطاقة في الأسواق العالمية. هذه السياسة قد تعيد إلى الذاكرة العديد من الجولات التجارية السابقة التي شهدت احتكاكًا شديدًا بين الطرفين، ما يهدد بإشعال حرب تجارية جديدة تكون محورًا لتداعيات واسعة في قطاع الطاقة، والذي يُعد واحدًا من أعمق أوجه التنافس بين أمريكا وأوروبا.

هدد الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب الاتحاد الأوروبي بفرض رسوم جمركية ضخمة إذا لم يقلص العجز التجاري مع الولايات المتحدة من خلال زيادة وارداته من النفط الخام والغاز الطبيعي الأمريكي.

بشكل عام، يُسهم الغاز الطبيعي في إنتاج نحو حوالي 20% من إجمالي الكهرباء المولدة داخل الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى استخدامه في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، كذلك في التدفئة المنزلية، ولا يُشكل الإنتاج المحلي لدول الاتحاد الأوروبي سوى حوالي 9% من إجمالي استهلاك الغاز في 2022، وتُعد روسيا أكبر مورد للغاز الطبيعي إلى أوروبا بنحو حوالي 40% من احتياجات الاتحاد من الغاز الطبيعي (ذلك قبل بداية الحرب الروسية الأوكرانية والوصول إلى حوالي 9% في الوقت الحالي)، ويوضح الشكل التالي معادلة الطاقة الأوروبية ومصادر الطاقة المختلفة.

يُشكل الغاز الطبيعي أكبر مشكلة بالنسبة للقارة الأوروبية، وذلك لأن استيراد الغاز يُعد أصعب بكثير من استيراد النفط الخام والفحم، حيث يتم تبريده وتحويله إلى سائل وشحنه على ناقلة ثم إعادة تحويله إلى غاز في منشآت خاصة به.

أمام ما تقدم، هناك انخفاض بنسبة حوالي 20% في مستويات استهلاك الغاز في دول الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى ذلك وصلت مبيعات الغاز للقارة الأوروبية إلى حوالي 170 مليار يورو خلال الفترة ما بين 2022-2023، واحتلت الولايات المتحدة الأمريكية قائمة الدول المصدرة بحوالي 27.15 مليار دولار.

تُعد الولايات المتحدة الأمريكية إحدى أكبر موردي الطاقة للاتحاد الأوروبي، في النصف الأول من عام 2024، كانت الولايات المتحدة قد زودت الاتحاد الأوروبي بحوالي 48% من وارداته من الغاز الطبيعي المسال، بينما كانت حصة روسيا لا تتجاوز 16%، ومن النفط الخام حوالي 7%. يُظهر هذا التحول في مصادر الغاز الطبيعي أن أي صفقة تتعلق بالوقود الأحفوري قد تتأثر أكثر بالاعتبارات السياسية منها بالاحتياجات الطاقية، كما شهد الاتحاد الأوروبي زيادة ملحوظة في مشترياته من النفط والغاز الأمريكي بعد فرضه عقوبات على روسيا عقب غزوها لأوكرانيا في 2022، وذلك كجزء من محاولاته للحد من الاعتماد على الطاقة الروسية.

إجمالًا لما سبق، بالنظر إلى حركة شحنات الغاز المسال الأمريكية بين عامي 2016-2024، نجد أن عدد الشحنات التي استقبلتها القارة الأوروبية وصل إلى حوالي 769 شحنة من إجمالي حوالي 5039 شحنة تم شحنها إلى حوالي 44 دولة، بنسبة حوالي 15%. حيث تم استقبال تلك الشحنات من خلال فرنسا وإسبانيا، وذلك نظرًا لقوة البنية التحتية (حيث نجد أن عدد محطات الإسالة في القارة الأوروبية وصل إلى حوالي 44 محطة عاملة وحوالي 17 محطة مخطط لها، وتحتل إسبانيا المركز الأول بعدد 6 محططات وفرنسا بعدد 6 محطات)، يوضح الشكل التالي حركة شحنات الغاز المسال الأمريكية.

استكمالًا لما سبق، في السنوات الأخيرة، أصبحت الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط في العالم، حيث بلغ إنتاجها أكثر من حوالي 20 مليون برميل يوميًا من السوائل النفطية، وهو ما يعادل نحو خمس الطلب العالمي. تصدر الولايات المتحدة أكثر من مليوني برميل يوميًا إلى أوروبا، ما يشكل أكثر من نصف إجمالي صادراتها، بينما يتم توجيه الكميات المتبقية إلى الأسواق الآسيوية، ووفقًا للبيانات الحكومية الأمريكية، تُعد هولندا، إسبانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، الدنمارك، والسويد من أبرز مستوردي النفط الأمريكي.

وفي مايو 2024، شكلت شحنات الغاز والغاز الطبيعي المسال عبر الأنابيب الروسية حوالي 15% من إجمالي الإمدادات إلى الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وسويسرا وصربيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا الشمالية، وشكل الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة 14% من الإمدادات إلى المنطقة، وهو أدنى مستوى له منذ أغسطس 2022.

علاوة على ذلك، يُشكل عام 2023 العام الثالث على التوالي الذي زودت فيه الولايات المتحدة أوروبا من الغاز الطبيعي المسال أكثر من أي دولة أخرى، بنحو 27%، أو 2.4 مليار قدم مكعبة يوميا، من إجمالي واردات الغاز الطبيعي المسال الأوروبية في عام 2021، ونحو 44% ما يُشكل 6.5 مليار قدم مكعبة يوميا في عام 2022، ونحو 48% ما يعادل 7.1 مليار قدم مكعبة يوميا في عام 2023.

الاعتماد على الغاز الروسي: كان الغاز الروسي يُشكل المصدر الرئيسي للإمدادات الأوروبية على مدار عقود، حيث كان يشكل حوالي 40% من إمدادات الغاز الأوروبية. لكن منذ بدء الحرب الروسية في أوكرانيا، تراجعت إمدادات الغاز الروسي بشكل كبير نتيجة العقوبات المفروضة على روسيا من قبل الاتحاد الأوروبي، ما أثر على إمدادات الغاز في القارة. لا تزال التساؤلات المتعلقة بالغاز الروسي تلقي بظلالها على المشهد العام، لم تُعد روسيا اللاعب الرئيسي كما كانت في السابق في مجال إمدادات الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، فقد انخفضت حصة الغاز الروسي المنقول عبر خطوط الأنابيب الذي تستورده الدول الأعضاء من 40% في عام 2021 إلى نحو 9% في عام 2024.

أزمة الحرب في أوكرانيا: أدى اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا إلى تعطيل إمدادات الغاز عبر أنابيب الغاز التي تمر عبر الأراضي الأوكرانية، كما أدى إلى خفض أو توقف الشحنات من روسيا عبر البحر الأسود. ومع تصاعد التوترات، قامت العديد من الدول الأوروبية بتخزين الغاز لتلبية احتياجاتها الشتوية، الأمر الذي يعكس ضعف الأمن الطاقي في المنطقة.

ارتفاع الأسعار: مع تراجع إمدادات الغاز الطبيعي، ارتفعت الأسعار بشكل كبير، ما أثر على الاقتصادات الأوروبية، التي تعتمد بشكل كبير على الطاقة لتلبية احتياجات الصناعة والنقل. وقد دفع ذلك إلى زيادة الضغوط على الأسر الأوروبية والشركات، خاصة في دول جنوب وشرق أوروبا.

بحسب البيانات الحكومية الأمريكية، يشترى الاتحاد الأوروبي بالفعل الحصة الأكبر من صادرات النفط والغاز الأمريكية، ولكن الوضع الراهن لا يسمح بتوفير كميات إضافية إلا في حال زيادة الإنتاج الأمريكي أو توجيه الكميات المتاحة نحو الأسواق الآسيوية، التي تُعد أيضًا من أكبر مستهلكي الطاقة الأمريكية. يشير ذلك إلى التحديات التي يواجهها الاتحاد الأوروبي في زيادة وارداته من الطاقة الأمريكية، لا سيما في ظل ارتفاع الطلب العالمي على هذه الموارد.

جدير بالذكر أن معظم مصافي النفط وشركات الغاز في أوروبا هي كيانات خاصة لا تتدخل الحكومات بشكل مباشر في تحديد مصادر المشتريات، إلا في حال وجود عقوبات اقتصادية أو تعريفات جمركية، مثل تلك المفروضة على بعض الدول المنتجة للطاقة. الشركات الأوروبية عادة ما تعتمد في اختياراتها على معايير مثل السعر والكفاءة في التعامل مع الموردين المختلفين، هذا يعني أن أي ضغوط من قبل الحكومة الأمريكية أو تصريحات سياسية لا تضمن بالضرورة تغييرات فورية في سياسات الشراء. في الواقع، ليس للمفوضية الأوروبية سلطة مباشرة في تحديد مشتريات الشركات الأوروبية من الغاز الطبيعي المسال أو أي منتجات أخرى. وفي غياب فرض عقوبات أو رسوم جمركية، يصعب على الحكومات الأوروبية توجيه الشركات لشراء النفط والغاز من مصدر محدد.

 على الرغم من ذلك، فإن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بدا مستمتعًا باستعراض البيانات التي تشير إلى ارتفاع المشتريات الأوروبية من الطاقة الأمريكية، وهو ما يعكس محاولات الضغط السياسي على الاتحاد الأوروبي في سياق صراعات تجارية وسياسية. 

يستعد المسؤولون في الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء لحرب تجارية محتملة، حيث فوجئ التكتل في عام 2017 عندما فرض ترامب خلال فترة رئاسته رسومًا جمركية على واردات الصلب والألمنيوم من أوروبا، بحجة مخاوف الأمن القومي. ومنذ ذلك الحين، عمد الاتحاد الأوروبي إلى تحديث مبادئه التجارية وتعزيز أدواته، مما وفر له مجموعة من الخيارات المتنوعة لمواجهة الإجراءات الأمريكية التعسفية.

وينوي الاتحاد الأوروبي دراسة الإجراءات المحتملة عند مناقشة حزمة جديدة من العقوبات من قبل ترامب، ولكن فرض قيود صارمة يظل أمرًا معقدًا. رغم ذلك، يبقى الاتحاد مستعدًا لاحتمال الدخول في حرب تجارية مع واشنطن في المستقبل، حيث عززت الأداة الجديدة التي اعتمدها التكتل لمكافحة الإجراءات التعسفية من دفاعاته التجارية، مما يمنح المفوضية الأوروبية، الذراع التنفيذية للاتحاد، القدرة على فرض تعريفات أو اتخاذ تدابير عقابية أخرى ردًا على القيود التي تحركها دوافع سياسية.

كما تبنى الاتحاد ما يُطلق عليها اسم لائحة الدعم الأجنبي، التي تمكن المفوضية من منع الشركات الأجنبية التي تحصل على دعم حكومي مجحف من المشاركة في المناقصات العامة أو صفقات الاندماج والاستحواذ في التكتل، من بين تدابير أخرى.

يُشير الصمت الأوروبي في الرد على تهديدات ترامب حتى الآن إلى غياب إستراتيجية تجنب الحرب التجارية بين الطرفين، رغم تأثير التهديد في بعض الحكومات والشركات بالقارة الأوروبية، ولم يبد مسؤولو الاتحاد خطوات فعلية في تشكيل تحالف تجاري مشترك يضمن تقليل تهديد ترامب، ما يفتح باب المجهول أمام مستقبل تبادل السلع والخدمات مع واشنطن خاصةٍ في ظل تفاقم الأحداث الجيوسياسية العالمية.

السيناريوهات المتوقعة لتهديدات ترامب بالقارة الأوروبية في ملف الطاقة يمكن أن تتنوع وتعكس تأثيرات محتملة على العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا، وفيما يلي بعض السيناريوهات التي قد تنشأ في هذا السياق:

في هذا السيناريو، قد يقوم ترامب بتنفيذ تهديداته بفرض تعريفات جمركية على واردات الطاقة من أوروبا، مثل الغاز الطبيعي المسال والنفط الخام. وهذه الخطوة قد تؤدي إلى تصعيد الحرب التجارية، إذ قد ترد أوروبا بفرض رسوم على المنتجات الأمريكية، يمكن أن يشمل هذا النوع من الحروب التجارية زيادة حدة النزاعات التجارية وتهديد سلاسل التوريد في قطاع الطاقة. ومن ضمن التأثيرات المحتملة تزايد تكاليف الطاقة في أوروبا نتيجة للرسوم الجمركية، مما يضر باقتصادات بعض الدول الأوروبية. من ناحية أخرى، قد تواجه الشركات الأمريكية خسائر في السوق الأوروبية، كما قد تتفاقم الأزمة في أسواق الطاقة بسبب تقلبات الأسعار.

قد يؤدي التوتر التجاري إلى أن يقوم ترامب بالضغط على أوروبا لشراء المزيد من الغاز والنفط الأمريكي، وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة أصبحت أكبر منتج للطاقة في العالم، فإنها قد تطرح نفسها كحل بديل للغاز الروسي، خاصةٍ في ظل سعي أوروبا لتقليل اعتمادها على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا.

السيناريو الثالث: الانتقال إلى مصادر طاقة بديلة وابتكار حلول لتقليل الاعتماد على الطاقة الأمريكية

في هذا السيناريو، قد تحاول الدول الأوروبية تسريع تطوير مصادر طاقة بديلة (مثل الطاقة المتجددة) أو زيادة استثماراتها في تقنيات الطاقة الخضراء لتقليل اعتمادها على واردات الطاقة من الولايات المتحدة.

قد يتوصل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى تسوية معينة لتجنب التصعيد الكامل في قطاع الطاقة، يمكن أن يتضمن هذا التسوية اتفاقات محددة بشأن صادرات الطاقة، مع وضع آليات لتخفيف التوترات التجارية مثل تخفيض الرسوم الجمركية أو زيادة التعاون في تطوير تقنيات الطاقة البديلة.

مجمل القول، أن زيادة واردات أوروبا من النفط والغاز الأميركيين باتت الخيار الأمثل لتجنب تهديدات دونالد ترامب، وبهذه التهديدات، يفتح ترامب جبهة جديدة في العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، ما قد يؤدي إلى تغييرات كبيرة في سياسات التجارة والطاقة بين الجانبين. ولم يكن فرض رسوم جمركية على الدول المصدرة لأميركا تهديدًا يستعمله ترامب للمرة الأولى، إذ سبق أن تعهد مطلع شهر ديسمبر 2024 بفرضها بنسبة حوالي 25% على الواردات الكندية والمكسيكية. وقد ينعكس هذا القرار سلبًا على مستويات الأسعار وفواتير المستهلكين، بما يصل إلى حد تهديد أمن الطاقة بتطبيق الرسوم على المشتقات النفطية.

وفي الأخير، هل سيستطيع الاتحاد الأوروبي مواجهة هذه التحديات الاقتصادية والسياسية؟ أم أن سياسة الرسوم الجمركية الأمريكية ستعيد تشكيل ملامح التجارة العالمية؟

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M