بين الحصر والتفكيك: آفاق نزع سلاح حزب الله اللبناني

  • في أعقاب الحرب الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل، تصاعدت الآمال بإمكانية نزع سلاح الحزب بعد أن دمَّرت الحرب الجزء الأكبر من قدراته العسكرية. وستحتل هذه القضية رأس سلم الأولويات في لبنان، وستترك تداعيات عميقة على أمن هذا البلد وسيادته. 
  • يُمثِّل سلاح حزب الله محوراً رئيساً ضمن محاور الحوار المُرتقَب بين رئاسة الجمهورية اللبنانية والحزب. ويعكس حصول مثل هذا الحوار  وجود نوايا حسنة لدى الطرفين للوصول إلى تسوية تحفظ ماء الوجه لجميع الأطراف، وتسمح بإعادة تموضع حزب الله ضمن النظام السياسي اللبناني دون سلاح.
  • يمكن أن تتطور الأمور المرتبطة بسلاح حزب الله وفقاً لسيناريوهين: أولهما، التفكيك التدريجي لهذا السلاح مقابل مكاسب سياسية ضمن تسوية داخلية؛ والثاني، مُماطَلة الحزب في تسليم سلاحه، وانتظار مآلات المفاوضات الإيرانية-الأمريكية، مُقابل تكثيف إسرائيل ضرباتها كبديل عن نزع السلاح بطريق مُنظَّمة مِن قِبَل الجيش اللبناني.

 

دَخلَت مسألة «نزع سلاح حزب الله» مرحلة جديدة وحاسمة في لبنان، في أعقاب الحرب الطاحنة التي خاضها الحزب مع إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر 2024، والتي أسفرت عن اتفاق هدنة، يستند في مقدمته على قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الذي ينص على نزع سلاح جميع الميليشيات الموجودة على الأراضي اللبنانية، مع تأكيد رئيس الجمهورية اللبنانية على ضرورة “حصر السلاح بيد الدولة وحدها”. رافق هذا التأكيد مسار سياسي وأمني يعكس الإصرار على تحقيق سيادة الدولة وإعادة تشكيل المعادلات الأمنية الداخلية وفقاً لمفاهيم الدولة الوطنية. كما ازدادت الضغوطات والانخراط الأمريكي، الذي يدفع نحو نزع سلاح الحزب بشكل كامل، وليس فقط في جنوب نهر الليطاني.

 

يَتمسَّك حزب الله بموقفه الرافض لفكرة “نزع السلاح” كاملاً، مُستنِداً إلى اعتبارات أمنية واستراتيجية تخصه، ويُفسِّر اتفاق الهدنة بأنه محصور جغرافياً بمنطقة جنوب الليطاني، بينما يتمسَّك المناهضون للحزب في لبنان بأن الاتفاق يستند إلى القرار 1701 الذي يؤكد ضرورة سحب السلاح من كامل الأراضي اللبنانية. ما تكشفه المعطيات الأمنية والعسكرية التي أتاحها الجيش اللبناني أن عملية نزع السلاح تتقدم في جنوب نهر الليطاني، على الرغم من التحديات السياسية والميدانية التي تواجهها. أما في شمال النهر، فما زال الحزب متمسكاً بسلاحه على مستوى الخطاب وعلى أرض الواقع، ما يجعل السلاح الموجود في تلك المنطقة موضع الخلاف الأساسي بين الحزب وبقية الأطراف اللبنانية والدولية، طارحاً عدداً من الاقتراحات للتفاوض عند بدء الحوار الجدي حول مستقبل السلاح بالكامل.

 

تهدف هذه الورقة إلى تحليل العوامل الداخلية والخارجية التي تؤثر في دفع مسألة نزع سلاح حزب الله من كامل الأراضي اللبنانية (جنوب نهر الليطاني وشماله) إلى الواجهة، عبر تقييم المواقف السياسية المختلفة للأطراف اللبنانية المعنية، واستشراف السيناريوهات المحتملة لهذه المسألة.

 

العوامل الخارجية والداخلية التي تدفع نحو نزع سلاح الحزب

أولاً، العوامل الخارجية

1. نتائج الحرب الأخيرة والتشدُّد الإسرائيلي. شكّلت الحرب الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل نقطة تحوّل مفصلية في مسار الحزب ودوره العسكري، إذ كشفت لأول مرة منذ عام 2006 اختلالاً كبيراً في توازن الردع. تكبّد الحزب خسائر فادحة طالت نحو 70 إلى 80% من قدراته الصاروخية، بالإضافة إلى تدمير معظم طائراته المسيّرة ومنشآته اللوجستية تحت الأرض، والبنية التحتية العسكرية للحزب، وشبكات الاتصالات، ومقتل كبار قادته العسكريين. علاوة على ذلك، تتشدد إسرائيل في مسألة نزع السلاح بالكامل وعدم الاكتفاء بمنطقة جنوب نهر الليطاني، وقد بدأت بتوسيع نطاق غاراتها الجوية لتشمل البقاع، والضاحية الجنوبية لبيروت. هذا النمط من الاستنزاف المكثف لا يُضعِف قدرات الحزب فقط، بل يدفع نحو تدميرها المنهجي، ما يجعله تحت ضغط لم يسبق له مثيل منذ تأسيسه.

 

2. قطع طرق الإمداد البرية والجوية. يُعَد تعطيل خطوط الإمداد العسكري، سواء البرية عبر سورية أو الجوية من إيران، عاملاً حاسماً في إضعاف القدرات القتالية لحزب الله، وتمهيداً فعلياً لتقليص سلاحه تدريجياً. وعلى رغم امتلاكه قدرات تصنيع محلية محدودة، فقد ظل تسليحه الاستراتيجي مرتبطاً بممر الإمداد الممتد من طهران إلى بيروت عبر بغداد ودمشق. ومع انهيار نظام الأسد وتشديد إسرائيل الحصار الجوي والبري، تقلَّصت قدرة الحزب على تعويض خسائره في الحرب الأخيرة. هذا التراجع النوعي يُعمِّق مأزق الحزب، ويرفع كلفة أي مواجهة مقبلة، ويفتح الباب أمام خيارات تفاوضية حول مستقبله العسكري والسياسي.

 

3. الضغط الأمريكي الشديد. بالتوازي مع الضغط العسكري الإسرائيلي، تُمارس الولايات المتحدة ضغطاً غير مسبوق في مسألة نزع سلاح حزب الله من على كامل الأراضي اللبنانية. والضغط الأميركي مدفوع بأمرين: عملية 7 أكتوبر والخوف الذي ولَّدته من تكرارها من جانب حزب الله، ووصول إدارة دونالد ترمب الداعمة بشدة لرؤية إسرائيل في هذا الملف. وتتمثَّل أدوات الولايات المتحدة في هذا الصدد، بالآتي:

 

أ) الضغط الدبلوماسي الذي تمارسه نائبة المبعوث الأميركي الخاص لشؤون الشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس التي لا توفر فرصة إلا وتؤكد ضرورة نزع سلاح حزب الله والميليشيات كافة من على كامل الأراضي اللبنانية؛

ب) المتابعة الأمنية لهذا الملف، من طريق عمل اللجنة الأمنية المشرفة على تنفيذ اتفاق الهدنة برئاسة الجنرال الأمريكي مايكل جي ليني الذي خلف الجنرال جاسبر جيفرز، والتي تراقب وتلاحق عمل الجيش اللبناني وتضغط باتجاه إنهاء ملف حزب الله كاملاً في أسرع وقت ممكن،

ج) تأمين الغطاء والدعم السياسي المطلق للغارات الإسرائيلية المستمرة على مواقع حزب الله في لبنان.

 

هذا الضغط الأمريكي المتواصل بدأ يُنتِج مفاعيل واضحة على صعيد المواقف اللبنانية الرسمية، إذ اضطر الرئيس اللبناني العماد جوزاف عون، في خلال لقائه الأخير بأورتاغوس، إلى الإقرار صراحة بأن “سلاح حزب الله لا يمكن أن يبقى إلى الأبد”، لكنَّه في الوقت ذاته شدَّد على أن “أي محاولة لنزعه بالقوة أو بطريقة تُهدد السلم الأهلي قد تقود إلى حرب أهلية”، وهو ما يُظهِر إدراكاً رسمياً دقيقاً لحجم الإشكالية، من جهة، ورغبة في تدوير الزوايا أمام المطالب الدولية، من جهة أخرى.

 

تتسم مواقف رئاسة الجمهورية والحكومة اللبنانية في ملف “نزع سلاح حزب الله” بقدر كبير من الوضوح والحزم (فرانس برس)

 

ثانياً، العوامل الداخلية

1. مجيئ عهد جديد في لبنان داعم لحصر السلاح بيد الدولة. منذ انسحاب الجيش السوري من لبنان في عام 2005، كان لحزب الله الكلمة الفصل فيما يتعلق بمسألة سلاحه والصراع مع إسرائيل لكن ذلك تغيَّر بعد هزيمته في حرب 2024. لقد أعلن الرئيس جوزاف عون بشكل صريح في خطاب القسم عن توجه العهد الجديد نحو “حصر السلاح بيد الدولة وحدها”، إلى جانب إسقاط ثلاثية “الجيش والشعب والمقاومة” من البيان الوزاري لحكومة نواف سلام والتأكيد على “احتكار الدولة لحمل السلاح، وبسط قوتها حصراً”.

 

2. إعادة الإعمار وضغط البيئة الحاضنة. يُشكِّل تأخُّر الحكومة اللبنانية في إطلاق عملية إعادة الإعمار في المناطق التي دمّرتها الحرب الأخيرة، خصوصاً ذات الغالبية الشيعية المرتبطة بحزب الله، عاملاً متزايد الضغط على البيئة الحاضنة للحزب. فقد بدأت منصات إعلامية محسوبة على هذه البيئة تهدد بتعطيل الحياة السياسية في البلاد ما لم يتم تحريك ملف إعادة الإعمار، وذلك بعد لمسها وجود مساومة ضمنية بين نزع سلاح حزب الله وإطلاق عجلة إعادة الإعمار. في هذا السياق، أشار الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، في تصريحاته الأخيرة، إلى معادلة مقابلة لما يُطرَح من قبل بعض القوى الداخلية والخارجية، قائلاً: “إذا كان هناك من يطرح لا إعمار قبل تسليم السلاح، فنحن نطرح لا تسليم للسلاح قبل إعادة الإعمار”. هذا التصريح، إلى جانب اللغة التصعيدية المستخدمة من قبل المنصات الإعلامية المقربة من الحزب، ووضع معادلات من هذا القبيل بدلاً من أن يكون مقابل تسليم السلاح مكاسب دستورية وسياسية استراتيجية داخل الدولة اللبنانية، يعكس حجم الضغط الذي يولده هذا الملف، باعتبار ذلك انعكاساً طبيعياً للتوتر الشعبي والمعاناة داخل القرى التي دُمّرت كلياً ولم تشهد أي خطوات عملية لإعادة إعمارها.

 

3. نشاط الجيش اللبناني ونزع السلاح جنوب نهر الليطاني. في واحدة من أبرز جلسات مجلس الوزراء اللبناني الأخيرة، قدّم قائد الجيش اللبناني، العماد رودولف هيكل، تقريراً مفصلاً حول ما أنجزته المؤسسة العسكرية في إطار تنفيذ اتفاق الهدنة، لاسيما فيما يتعلق بالانتشار في جنوب نهر الليطاني والدخول إلى منشآت تابعة لحزب الله. وأكد العماد هيكل أن وحدات الجيش أصبحت منتشرة على جميع المعابر والممرات التي تربط شمال الليطاني بجنوبه، في خطوة تعكس تعزيزاً للسيطرة الرسمية على هذه المنطقة التي طالما عُدَّت خاضعة لنفوذ الحزب.

 

وأشار قائد الجيش إلى أن القوات المسلحة اللبنانية نفَّذت أكثر من 5,000 عملية لضبط أسلحة ومعدات غير شرعية، منها 2,500 عملية قامت بها بشكل مستقل، و2,500 أخرى بالتعاون مع قوات “اليونيفيل”. كما كشف أن لجنة الإشراف على وقف إطلاق النار كانت قد زودت الجيش بـ500 موقع مشبوه للكشف عنها، وقد أتمَّ الجيش عمليات التفتيش في 90% منها، بينها 280 منشأة ذات طابع عسكري أصبحت حالياً تحت إشرافه المباشر. هذا التقرير المدعوم بالأرقام والمعطيات الميدانية يُشير إلى أمرين أساسيين: الأول، تعاون حزب الله مع الجيش اللبناني ولجنة الإشراف على تنفيذ اتفاق الهدنة بشكل كامل؛ والثاني، قدرة الجيش اللبناني على الانتشار وفرض السيطرة العسكرية والأمنية في جنوب لبنان.

 

مع ذلك، فإن تعاون حزب الله مع مهمة الجيش اللبناني في جنوب الليطاني، لا يمتد إلى منطقة شمال الليطاني. رفض الحزب طلب الجيش اللبناني التوجه إلى أحد المواقع في الضاحية الجنوبية بناءً على إشعار من لجنة المراقبة، ما دفع إسرائيل إلى استهدافه (يوم 27 أبريل). قد يُفسَّر سلوك حزب الله برغبته في الحفاظ على أسلحته وبنيته الحربية الأساسية في وسط لبنان وشرقها بعد أن فقد بناه التحتية في سورية، وتدمير خطوط جبهته في جنوب لبنان. وسبق للأمين العام السابق لحزب الله حسن نصر الله أن كشف في 28 أغسطس 2024 أن القائد العسكري السابق للحزب فؤاد شكر، وقبيل اغتياله يوم 30 يوليو 2024، أتمّ عملية نقل كل الصواريخ الاستراتيجية إلى شمال الليطاني.

 

موقف الأطراف اللبنانية تجاه نزع سلاح الحزب 

1. رئاسة الجمهورية والحكومة

بعكس ما درجت عليه العهود السابقة، تتسم مواقف رئاسة الجمهورية والحكومة اللبنانية في ملف “نزع سلاح حزب الله” بقدر كبير من الوضوح والحزم. فقد أكد رئيس الجمهورية، العماد جوزاف عون، أن “قرار حصر السلاح بيد الدولة قد اتُخذ”، بينما شدَّد رئيس الحكومة نواف سلام على أن الدولة وحدها هي المخوّلة بامتلاك السلاح واتخاذ قراري الحرب والسلم.

 

اللافت في تصريحات جوزاف عون هو تمسُّكه بمصطلح “حصر السلاح بيد الدولة” بدلاً من “نزع سلاح حزب الله”، وهو خيار لغوي مقصود، يسوّغه عون برغبته في تجنّب تحويل الملف إلى مادة للسجال الإعلامي، نظراً لحساسيته الأمنية والسياسية والطائفية، مُفضلاً إبقاء معالجته في إطار الاتصالات السياسية الداخلية. ويعتمد عون في مقاربته لهذا الملف على معادلة دقيقة. فمن جهة، يسعى إلى تحقيق توازن بين الضغوط الخارجية، خصوصاً الأمريكية، والغارات الإسرائيلية المتكررة التي تهدف إلى فرض نزع السلاح بالقوة، ومن جهة أخرى، يحاول الحفاظ على علاقته مع الفريق الشيعي وتفادي القطيعة معه، خاصة في ظل عودة السُّنة إلى الواجهة الإقليمية عبر تصاعد النفوذ السعودي واستعادة موقعهم في سورية المجاورة.

 

حتى الآن، يبدو أن هذه المقاربة تؤتي ثمارها. فحزب الله، على رغم التصعيد في خطابه، يتجنَّب استهداف عون مباشرة أو التشكيك في نواياه، ويُبدي انفتاحاً على الحوار المرتقب بين الطرفين، والذي يجري التحضير له بتنسيق مع رئيس مجلس النواب نبيه بري. وفي الوقت نفسه، تُحيد رئاسة الحكومة – بصفتها الممثل الأول للطائفة السُّنية – عن هذا الملف الاستراتيجي، ما يمنح رئيس الجمهورية هامش مناورة أكبر في التعاطي مع هذا التحدي.

 

مسألة نزع سلاح حزب الله ما عادت مُجرد طرح نظري، بل أصبحت مساراً واقعياً يتقدم تدريجياً على الأرض (فرانس برس)

 

2. القوى السياسية المسيحية

يُعدّ حزب “القوات اللبنانية” من أكثر الأطراف وضوحاً وحسماً في موقفه من مسألة نزع سلاح حزب الله، إذ يدعو رئيسه، سمير جعجع، إلى نزع السلاح بشكل مباشر وحتى بالقوة، رافضاً مبدأ الحوار أو التمييز بين شمال نهر الليطاني وجنوبه. ويصف جعجع الخلاف مع حزب الله بأنَّه “هوة أيديولوجية كبيرة”، مُشدداً على ضرورة العودة إلى مرجعية اتفاق وقف إطلاق النار والقرارات الدولية، لاسيما القرارين 1559 و1701.ويأتي تصعيد جعجع في خطابه السياسي، خصوصاً تجاه رئاسة الجمهورية، مدفوعاً بطموحه لتعزيز موقعه السياسي، في ظل قراءته للمعادلات الجديدة في البلاد. كما يُعزز هذا التوجه اللقاء الذي خصَّته به المسؤولة الأميركية مورغن أورتاغوس في خلال زيارتها الأخيرة إلى لبنان، دون أن تشمل الزيارة زعماء سياسيين آخرين.

 

أما باقي القوى المسيحية من حزب “الكتائب اللبنانية” إلى “التيار الوطني الحر“، و“تيار المردة”، والبطريرك الماروني، فكلها تظهر مواقف داعمة لرئيس الجمهورية وتؤكد ضرورة حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية. وتكمُن أهمية موقفي “التيار الوطني الحر” و”تيار المردة” في كونهما كانا يشكلان سابقاً الغطاء السياسي والطائفي الأساسي لسلاح حزب الله، وهو غطاء فقده الحزب اليوم.

 

3. القوى الإسلامية

أعلن حزب الله على لسان أمينه العام، نعيم قاسم، بوضوح أن الحزب “لن يسمح لأحد أن ينزع سلاح المقاومة.. فهذا السلاح هو من أعطى الحرية لشعبنا وحرر وطننا، وسنواجه كل من يعتدي على المقاومة كما واجهنا إسرائيل”. وفيما يتعلق بمسألة الحوار مع رئاسة الجمهورية حول حصرية السلاح، أعلن قاسم ثلاث قواعد أساسية لأي حوار مقبل، هي:

 

أولاً، إيقاف كل أشكال الاعتداءات الإسرائيلية؛

وثانياً، استثمار سلاح المقاومة ضمن استراتيجية دفاعية تحقق التحرير لكامل الأراضي اللبنانية؛

وثالثاً، رفض أي خطوة فيها إضعاف للبنان أو تؤدي إلى استسلامه لإسرائيل.

 

وفي خطاب لاحق، أشار أيضاً إلى أهمية البدء في مسار إعادة الإعمار وتحرير الأسرى وتأمين انسحاب كامل للجيش الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية كافة. وتكمن المعضلة أمام حزب الله في غياب “المقابل” السياسي الواضح الذي يمكن أن تقدمه الدولة اللبنانية مقابل تسليم السلاح. هذا الغموض لا يزال قائماً، وينتظر أن يتبلور في خلال مراحل الحوار المرتقبة بين رئاسة الجمهورية وحزب الله، حيث سيكون التفاوض على طبيعة الضمانات والمكتسبات المتبادلة عاملاً حاسماً في مسار التسوية.

 

من جانبه، أشار رئيس الجمهورية إلى احتمالية دمج عناصر من الحزب في الجيش اللبناني، لكنَّه في الوقت نفسه أكد استحالة تكرار تجربة “الحشد الشعبي” في العراق. وبناءً عليه، يمكن القول إن سقف الرئيس عون يبدأ من أنه لا كيانات مرادفة للدولة عسكرياً تحت أي مسميات، حتى وإن كانت “استراتيجية دفاعية”؛ بينما ينطلق حزب الله من ضرورة إنهاء كل أشكال الاحتلال والبحث في استراتيجية دفاعية تضمن له دوراً عسكرياً في المستقبل.

 

وعلى رغم غياب موقف موحّد لدى القوى السُّنية في لبنان، وذلك بسبب غياب مرجعية واضحة للسنة في لبنان، كان لمفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ، عبد اللطيف دريان، موقفاً واضحاً في 15 مارس، داعماً فيه لسياسات رئيس الجمهورية والحكومة الجديدة. وفي وقت أصبحت فيه الرياض تمثل موقف السُّنة في لبنان، تحدثت تقارير إعلامية عن تشدُّد سعودي في مسألة السلاح، وضرورة حصره بالقوى الشرعية، وعدم الاستغراق بالحوار الذي قد يكون مضيعة للوقت.

 

أما الحزب التقدمي الاشتراكي، وعلى لسان رئيسه السابق وليد جنبلاط، فقد عبَّر بوضوح عن قناعته بأن الدور العسكري لحزب الله قد انتهى فعلياً بعد الحرب الأخيرة، داعياً الحزب إلى الانتقال من العمل العسكري إلى السياسي، والانخراط الكامل في مؤسسات الدولة.

 

من ناحيتها، تُظهِر حركة أمل، التي يرأسها نبيه بري، موقفاً أكثر تريُّثاً. إذ يحرص بري على التنسيق الوثيق مع رئيس الجمهورية في هذا الملف، وتُعبّر أوساط الحركة عن تمسُّكها بعدم الانزلاق إلى أي مسار يخدم إسرائيل. ومع ذلك، تُدرك قيادة أمل أن حصر السلاح بيد الدولة يصبّ في مصلحتها الاستراتيجية، إذ من شأنه أن يعيد لها الدور السياسي المركزي داخل الطائفة الشيعية، والذي تراجع أمام صعود حزب الله كقوة سياسية وعسكرية مُهيمنة.

 

يتمسَّك حزب الله بموقفه الرافض لفكرة نزع السلاح كاملاً، مستنداً إلى اعتبارات أمنية واستراتيجية تخصه (شترستوك)

 

مستقبل نزع سلاح حزب الله

بناءً على ما تقدّم، يتضح أن مسألة نزع سلاح حزب الله ما عادت مُجرّد طرح نظري، بل أصبحت مساراً واقعياً يتقدّم تدريجياً على الأرض. ومع ذلك، فإن ترجمة هذا المسار إلى واقع نهائي تبقى رهناً بعدّة احتمالات ومسارات ممكنة، تتفاوت في مدى سرعتها وشروط تحققها:

 

الاحتمال الأول: تفكيك تدريجي لسلاح حزب الله مقابل مكاسب سياسية ضمن تسوية داخلية

يُجسِّد هذا الاحتمال سيناريو الاستمرار في وتيرة تسليم السلاح الحالية، حيث يواصل حزب الله تفريغ مواقعه ومخازنه العسكرية جنوب نهر الليطاني لصالح الجيش اللبناني، نتيجة الضغط المكثّف للغارات الإسرائيلية المتواصلة بشكل شبه يومي. أما ما تبقَّى من سلاح في المناطق الواقعة شمال الليطاني، فيُتوقَّع أن يبقى خاضعاً لمسار الحوار القائم بين حزب الله ورئاسة الجمهورية اللبنانية.

 

تبدو مُرجِّحات تحقُّق هذا المسار قوية، إذ تُظهر المؤشرات الموضوعية أن الحزب لم يعد قادراً على الحفاظ على ترسانته العسكرية، على رغم التصريحات التصعيدية التي تصدر عن قياداته. فقد تراجع موقف الحزب على المستويات العسكرية والشعبية والسياسية، ما يدفعه إلى تقديم تنازلات استراتيجية مقابل الحصول على مكاسب سياسية أو اقتصادية في المقابل.

 

تكمُن الإشكالية الأساسية في هذا السيناريو في طبيعة “المقابل” الذي قد يُعرَض على الحزب لقاء تسليم سلاحه. ففي 15 أبريل، لمَّح رئيس الجمهورية جوزاف عون إلى إمكانية إدماج عناصر من حزب الله ضمن الجيش اللبناني، على غرار ما جرى مع الميليشيات اللبنانية عقب الحرب الأهلية. غير أن هذا الطرح قوبل برفض واسع من الأوساط المسيحية، التي ترى في إدماج مقاتلين عقائديين داخل المؤسسة العسكرية تهديداً لعقيدة الجيش القتالية، ومصدراً محتملاً لاختلالات في الولاء والانتماء الوطني.

 

لكن، وبغض النظر عن الاعتراضات على طرح الرئيس، المفيد هنا أن عون قال صراحة إنَّه سيكون لحزب الله “مُقابِل ما” لقاء تسليم سلاحه، وأن رئاسة الجمهورية ستبحث جدياً في مصير عناصر الحزب العسكريين.

 

أما معوقات هذا الاحتمال، أو ما يمكن أن يؤخر إتمامه، فتتمثل في الآتي:

1) تأخُّر الانسحاب الإسرائيلي، لاسيما من التلال الخمس التي لا يزال يحتلها.

2) تذبذُب الدعم الدولي للجيش اللبناني، بحيث لا يتم تعزيز قدرات الجيش بما هو مطلوب لبسط سلطته على الأراضي اللبنانية كافة، بما فيها منطقة البقاع وطول الحدود اللبنانية-السورية.

3) تأخُّر عملية ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل، وعدم إنهاء حالة الصراع بين البلدين بشكل رسمي، وهو أمرٌ من شأنه أن يُعطي ذرائع للحزب للاستمرار في حيازة السلاح.

4) فشل المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة واتجاه المنطقة إلى سيناريو الحرب الإقليمية بين إسرائيل وإيران فيتدخل حزب الله، بما تبقى لديه من ترسانة  صاروخية لدعم إيران في حربها ضد إسرائيل.

 

الاحتمال الثاني: مُماطلة حزب الله، وتكثيف الضربات الإسرائيلية، بوصفهما بديلين عن نزع السلاح المنظّم

يتمثل هذا المسار في أن يلجأ حزب الله إلى سياسة المماطلة فيما يتعلق بتسليم ما تبقى من سلاحه ومنشآته العسكرية، خصوصاً في المناطق الواقعة شمال نهر الليطاني. وبدلاً من الدخول في حوار حقيقي مع رئاسة الجمهورية يهدف إلى تسوية نهائية، قد يستخدم الحزب طاولة الحوار أداةً للمراوغة وكسب الوقت، على أمل تحسُّن الظروف الإقليمية أو تغيُّر موازين القوى داخلياً. في هذا السياق، قد يترافق ذلك مع امتناعه عن اتخاذ أي خطوات جوهرية باتجاه تفكيك بنيته العسكرية شمال الليطاني، على رغم التقدُّم في الجنوب.

 

في المقابل، من المرجّح أن تُقابَل هذه الاستراتيجية بتصعيد إسرائيلي واسع، حيث يزيد الجيش الإسرائيلي من وتيرة الغارات الجوية المستهدفة لمواقع الحزب وبناه التحتية، سواء جنوب نهر الليطاني أو شماله، في محاولة منه لإضعاف القوة العسكرية للحزب بشكل مباشر، ودون انتظار نتائج الحوار اللبناني الداخلي. وتُشير المعطيات الميدانية إلى أن إسرائيل باتت تعتمد في المرحلة الأخيرة سياسة “الضربات الوقائية المستمرة“، التي تستهدف منصات الصواريخ ومستودعات الأسلحة.

 

تزداد احتمالية هذا السيناريو في حال لم يجد حزب الله في ما قد يُعرَض عليه من قبل رئاسة الجمهورية مقابلاً سياسياً أو وظيفياً كافياً لتسليم كامل ترسانته. كما أن أي اختراق إيجابي في المفاوضات الإيرانية-الأميركية قد يدفع الحزب إلى المراهنة على نتائج هذا المسار، وبالتالي تبنّي سياسة الانتظار بدلاً من المبادرة إلى تقديم تنازلات استراتيجية في لحظة يعتبرها غير ملائمة.

 

أما أبرز معوّقات تحقق هذا السيناريو فتتمثل في المخاطر العالية التي قد تترتب عليه، سواء لجهة حجم الخسائر البشرية والمادية التي يمكن أن يتكبَّدها الحزب جراء الغارات الإسرائيلية، أو لجهة رد الفعل الشعبي داخل بيئته الحاضنة، التي بدأت فعلاً تظهر مؤشرات تململ وضغط نتيجة الكلفة الباهظة للحرب الأخيرة وتأخر إعادة الإعمار.

 

وانطلاقاً من المعطيات السابقة، يُرجّح أن يكون السيناريو الأقرب للتحقق في المرحلة الأولى هو الاحتمال الأول، أي المسار الذي يقوم على تفكيك تدريجي لسلاح حزب الله، يبدأ من الجنوب تحت وطأة الغارات الإسرائيلية المتكررة، ويترافق مع انطلاق حوار مباشر بين رئاسة الجمهورية اللبنانية والحزب. هذا الحوار، الذي يبدو أن التحضير له يجري بجدية، يحمل مؤشرات على وجود نوايا حسنة لدى الطرفين للوصول إلى تسوية تحفظ ماء الوجه لجميع الأطراف، وتسمح بإعادة تموضع حزب الله ضمن النظام اللبناني دون سلاح.

 

أما المرحلة الثانية من هذا السيناريو، فهي مرهونة بشكل كبير بمسار المفاوضات الإيرانية-الأمريكية. فكلما تحقق تقدّم إيجابي في هذه المفاوضات، خصوصاً حول الملفات الإقليمية التي تشمل دور الميليشيات المتحالفة مع طهران في المنطقة، أصبح ملف سلاح حزب الله أكثر قابلية للحل، وازدادت فرص الوصول إلى تفاهم داخلي لبناني – بدعم دولي – بشأن مصير سلاح الحزب. أما في حال تعثَّرت هذه المفاوضات أو شهدت انتكاسة، فمن المرجح أن يلجأ حزب الله إلى المماطلة في الحوار الداخلي، ويعود لتشديد قبضته الأمنية في مناطقه، ما قد يؤدي إلى تصعيد جديد على الساحة اللبنانية.

 

في كل الحالات، تبقى الغارات الإسرائيلية العامل الثابت والحاسم في هذه المعادلة، فهي مستمرة بوتيرة شبه يومية، وتُشكِّل عنصر ضغط عسكري متواصل على الحزب، يضعه أمام معادلة صعبة: إما الاستمرار في تلقّي الضربات المكلفة دون القدرة على الردع الفعّال، أو الانخراط في تسوية داخلية وخارجية تُنهي سلاحه وتحافظ على دوره السياسي داخل الدولة اللبنانية.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M