بسم الله الرحمن الرحيم
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
التأمل الأول:
عندما يقسم العزيز الرحيم جل وعلا بالقرآن الحكيم الذي أنزله على سيد المرسلين صلى الله عليه وآله فهذا يعني أن الغاية من هذا التنزيل أمر عظيم ، وعلى المؤمن – فضلاً عن غيره – أن يعي ويدرك ويفهم أهمية هذا الأمر وعظمته ، وأن يجعله نصب عينيه أينما حلّ وأينما رحل ، هذا الأمر العظيم هو إنذار الناس الغافلين عن ما أُنذِر آباؤهم إما لجهل وقصور أو حتى لتقصير ، فبقاء الناس غافلين أمر مرفوض لكل من يهدف للتأسي بسيد المرسلين صلى الله عليه وآله ، لأن هذه الغفلة تُبعدهم عن الصراط المستقيم ، وإنذارهم يعيدهم اليه ، فإن ساروا على الصراط المستقيم فسيكون مِنهم مَن يُنذر غيره فيُفيقُه من غفلته حتى يكون الجميع بمأمن من الغفلة ، أعاذنا الله وإياكم منها .
التأمل الثاني:
إن العزة والرحمة مَعنَيَان يحترمهما كل إنسان عاقل ، ويسعى لتحقيقهما كل إنسان متكامل ، وكثيرٌ هم من يرفعون شعارات تتناسب وتتلاءم مع هذين المعنيين ولا تتقاطع معهما ، فلا نرى أحداً يرفع شعار الذل والهوان ، ولم نسمع أحداً يتبنى مبدأ القسوة والعنف والاستبداد والإجحاف ، أو يقبل بأن يوصف بأنه غير رحيم ، مهما اختلفت جذوره الفكرية والعقدية .
ولكي نميز بين الدعوات الحقيقية لتحقيق العزة والرحمة وبين الدعوات الشكلية ، فإن الدعوات الحقيقية تضبطها الحكمة والاستقامة وينتج عنها إنذار الناس وتُنبّهُهم من غفلتهم ، لا أن تُكرّس الغفلة والابتعاد عن ما ينفعهم ، واللهو بما يضرهم من موبقات وانحرافات تذل الإنسان وتظلمه .
التأمل الثالث:
لو أردنا تقييم المنظومة الفكرية الغربية ( أو غير الإسلامية عموماً ) من زاوية إسلامية ، فنقيّم مثلاً اهتمامها بعزة الإنسان والرحمة به ، أو كما يطلقون عليه (حقوق الإنسان) ، فهل من الحكمة المطالبة بهذه الحقوق كما أُعلِنَت في ( الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ) عام 1948 ؟ وهل أن التطبيق العملي لهذا الإعلان يجعل الإنسان على الصراط المستقيم ونهج سيد المرسلين صلى الله عليه وآله ؟ لنرى هل من المبرَّر اقتناع بعض المسلمين بهذا الإعلان فضلاً عن المطالبة به ؟
لو نظرنا الى غايات هذا الإعلان والنتائج الواقعية لتطبيقه سوف لن نجدها تخلّص الإنسان من الغفلة والابتعاد عن ربه جل وعلا ، بل تدفع لزيادة تلك الغفلة والانحراف واللهو بالملذات ، عندها نعرف إجابات الأسئلة المتقدمة .
التأمل الرابع:
إن الشخص الذي يتمتع بصفات كالحكمة والاستقامة والعزة والرحمة هو شخص يكون ملهماً لباقي الناس ، فبحكمته يطمئنون للقرارات التي يتخذها فتناسب ظروف الحاضر والمستقبل ، واستقامته تضمن لهم عدم انحرافه عن طريق الحق ، وعزته تجعلهم ينجذبون له ، وبرحمته يعرفون أنه لا يظلمهم ولا يقهرهم .
فإن كانت غفلة هذا الشخص متكررة فسيفقد بعض هذه الصفات أو يفقد جزءاً منها ، وعليه فإن الغافل لا ينفع أن يكون قائداً ، أما إذا جاهد نفسه لِتَقلّ غفلتُه فسيحافظ على هذه الصفات ويكون مؤهلاً بشكل أكبر لقيادة الناس وإنذارهم لما يحمله من صفات مرموقة ، أما إذا كان بلا غفلة فسيكون مؤهلاً لحمل رسالة السماء حتى يكون سيد المرسلين صلى الله عليه وآله .
التأمل الخامس:
إن الإنذار من مهام المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين ، وفي بعض الأحيان لا يصل الإنذار الى قوم ما لأي سبب كان ، وبالتالي لا بد أن تُعوَّض الأقوام اللاحقة بهذا الإنذار ، وهذا يكشف عن أهمية الإنذار في استمرار عملية الإصلاح التي لا تنجح مع الغافلين ، وليس من الحكمة أن يتوقف الإنذار عند جيل معين ولا يستمر الى باقي الأجيال ، لأن هذا التوقف سيجعل الغفلة تدبّ في روح المجتمع فيصعب سير أفراده على الصراط المستقيم الذي يمثل نهج المرسلين ، وبسبب هذه الغفلة يكونون أذلاء لأنفسهم الأمارة بالسوء وينسون العزة فيقبلون بذل الآخرين لهم كي يحققوا رغبات أنفسهم الغافلة ، فيرون الحق باطلاً والباطل حقاً ، فيرحمون من لا يستحق الرحمة ويظلمون من يستحقها .
التأمل السادس:
يبدو أن علاج الغفلة هو الإنذار ، باعتبار أن الغافل أشبه بالسائق المنشغل بأمور جانبية فيغفل عن الطريق الصحيح الذي يسير عليه ، وهذا يحتاج الى تنبيه وتوعية من مخاطر الغفلة التي قد تؤدي الى موته مع من يقودهم ، أما إذا وصل الأمر الى نومه فيحتاج الى حركة وهزة قوية أو ربما لصعقة لإيقاظه وإعادته الى وعيه ، ولا ينفع حينها التنبيه والإرشاد .
ولكن يبقى الأسلوب هو الفيصل في تحقيق هذا الهدف ، فليس من الحكمة إيقاظ نائم بصورة تستفزه وتجعله يرد بصورة سيئة على من أيقظه ، أما الأسلوب المناسب فسيؤدي الى إيقاظه من دون أية مشكلة أو ردة فعل سلبية ، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن ردة الفعل هذه قد تُحسَب على الدين والمرسلين وليس على القائم بالإنذار .
التأمل السابع:
إن غفلة الشخص تنتج آثاراً خطيرة ( منها الانحراف عن الصراط المستقيم ) وما أخطره ، إلا إن آثار غفلة القائد تكون أخطر بكثير ، تعادل على الأقل مجموع المخاطر التي تعرّض لها أتباعه ومن أثّرت عليه هذه المخاطر ، كالسائق الذي يغفل عن طريقه وينام فإن كان معه ركاب سيُسبِّب الى أَذاهم وربما موتهم ، أما إذا كان لوحده فسيعرّض نفسه فقط للخطر .
لذا يكون اختيار القائد بعناية فائقة ، وأول وأهم صفة يجب أن يتحلى بها هو أن لا يكون غافلاً ، فإن لم يكن غافلاً كان على الصراط المستقيم ، وعندها سيكون مؤهلاً للإبحار في كنوز القرآن الحكيم ، وفِقه ما نزّله العزيز الرحيم ، أما إذا انعدمت الغفلة عنده فسيكون من المرسلين بل وسيد المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين .
التأمل الثامن:
إن الله تعالى رحمةً بعباده ولكي يدفعهم نحو الصراط المستقيم يرسل لهم أنبياء مرسلين لينذرونهم وينتشلونهم من الغفلة التي تحيط بهم ، ولم يقتصر الإنذار على الأنبياء عليهم السلام بل أُرسِلَ كل من يمكن أن يهديهم الى الصراط المستقيم وينذرهم من غفلتهم ، كما حدث مع قابيل الذي قتل أخاه بسبب غفلته عن الله سبحانه ، إذ أرسل له تعالى غُراباً ليواري سوأة أخيه ، فانتبه من غفلته فقال : ( يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين ) .
وأحياناً يكون موقفٌ أو عبارةٌ رسالةً الى شخص فَتُنَبِهُه من نومة الغافلين ، وبالتالي يكون صاحب هذا الموقف أو العبارة مُرسَلاً من حيث لا يشعر ، أي أنه غافل عن أنه مُرسَل ، هذا يعني أن الله جلت آلاؤه يسخّر الغافلين – فضلاً عن غير الغافلين – ليهدي الغافلين .
التأمل التاسع:
من مساوئ الغفلة أن الغافلين لا يستمعون لصوت الحكمة ، ولا يعرفون للحكمة طريقاً ، لذا فإنهم يرفضون أي إنذار وتنبيه وتحذير من أي منذر أو ناصح ، وإن كان الإنذار والنصيحة بإسم رسالة السماء فإن الرفض يكون أقوى والسبب هو الغفلة والابتعاد عن الله عز وجل .
فمثل هؤلاء الغَفَلَة لا نتوقع منهم أن يسمعوا ويتعظوا لإنذار أو تنبيه أو نصيحة تأتي بصورة غير مباشرة ، من خلال موقف يرونه أو عبارة يسمعونها ، وإن افترضنا أنهم يتعظون من هذه المواقف والعبارات فإنهم لا يعتبرونها مرسَلَةً من الله جل وعلا ، لأنهم في غفلة تحجزهم عن رؤية الأمر الواضح فكيف يرون الأمر غير الواضح ؟!
فكم هي خطرة هذه الغفلة ؟
التأمل العاشر:
قد لا يكون من الحكمة أن يبعث الله تعالى المرسلين بالخطوط العامة ويترك التفاصيل بأيدي الناس من دون رقيب أو موجّه ، فمادام الناس غير معصومين فإنهم غافلون غير حكماء ، وبالتالي لا يكونون أعزاء ولا رحماء ولا سائرين على الصراط المستقيم ولا منذرين بالشكل الذي أراده سيد المرسلين صلى الله عليه وآله ، فإذا كان هؤلاء الغافلون غير الحكماء هم القادة فسوف سيكون المجتمع ؟ بالتأكيد أفراده غفلة .
لذا اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون هناك أوصياء لخاتم المرسلين صلى الله عليه وآله يُشرفون على أحوال المسلمين ويوجهونهم ويسددونهم ويمنعونهم من الغفلة بما أوتوا من تمكين ، ويسدّدون من يُؤمَل منهم الخير ليقودوا المجتمع بأقل الخسائر حتى يفرّج الله سبحانه عن ولي أمره عليه السلام .
التأمل الحادي عشر:
إن الغافل عن الله تعالى تكون معرفته به سبحانه قليلة ، وكلما زادت معرفته قلّت غفلته ، ووفق قاعدة ( تُعرَف الأمور بأضدادها ) فإن من لا يغفل عن الله جل جلاله هو الذي يعرف الله حق معرفته ، ولذلك لا يغفل عنه ، وهناك دعاء مشهور بين المؤمنين ( اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك، اللهم عرفني رسولك، فإنك إن لم تعرفني رسولك، لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك، ضللت عن ديني ) ، فمن الحكمة معرفة الله عز وجل التي تستدعي معرفة رسله – من البشر وغير البشر – ، ومعرفة رسله تستدعي معرفة حججه حتى يكون السير على الصراط المستقيم ، عندها لا يكون هذا العارف من الضالين ، وبالتالي لا يحتاج الى الإنذار ، لأنه حكيم عزيز رحيم وعرف الصراط المستقيم .
وردنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي