تأملات قرآنية من الايات الاولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة من سورة يس

بسم الله الرحمن الرحيم
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)

التأمل الاول :
هناك فئة من الناس قد يؤمنون بالقرآن الكريم ويؤمنون بأنه حكيم ولا يأمر بأمرٍ مخالف للحكمة ، ولكنهم – عملياً – لا يؤمنون بأن النبي محمد صلى الله عليه وآله مرسلٌ من الله تعالى الذي أنزل ذلك القرآن الحكيم ، وأن الحكمة الإلهية تقتضي إرسال مرسلين ليدلّوا الناس على الصراط المستقيم الذي يعتبر السير عليه من الحكمة لأنه يوصل الى الله العزيز الرحيم .
فهؤلاء الناس يدعون مثلاً الى الالتزام بالقرآن الحكيم ( حسبنا كتاب الله ) إلا أنهم لا يلتزمون بما جاء به من نُزِّل عليه القرآن ، رغم أن هذا القرآن الحكيم صرّح بشكل واضح : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ، ومثل هذا القسم بالقرآن الحكيم هو إيقاظ هؤلاء الناس .

التأمل الثاني :
إن الرسالات السماوية ( وعلى رأسها الإسلام ) تربط بين مجموعة من الأسس ، فقدان أحدها يؤدي الى فقدان روح الرسالة وغايتها ، هذه الأسس هي :
1) مبنية على الحكمة النابعة من صلب القرآن الكريم وليس من أفواه الرجال مهما بلغوا علماً .
2) الاستقامة وفق المبادئ القرآنية ، فمن يخرج عن هذه الاستقامة خرج عن الحدود الإسلامية .
3) العزة وفق الثوابت القرآنية ، فأي رسالة لا تسعى ولا تخطط لأن يكون أتباعها أعزاء فهي رسالة خارجة عن نهج المرسلين .
4) الرحمة ، فمن يفتك بالبشر ويتسلط عليهم بحجة حاكمية الإسلام فهو خارج عن خط الإسلام.

التأمل الثالث:
من الحكمة أن يكون الإنسان المؤمن الرسالي مستقيماً ، ولو كان منحرفاً لشوّه سمعة المؤمنين ، ومن الحكمة أن يكون هذا الرسالي عزيزاً ، لأن الله عزيز والتخلق بأخلاق الله يتطلب ذلك ، هذا فضلاً أن العزة تسهم في نشر الرسالة التي يحملها هذا الرسالي ، أما الذلة فتعرقل أي جهد لنشر الرسالة الإلهية ، ومن الحكمة أيضاً أن يكون المؤمن رحيماً كي يكون رسالياً ، لأن رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله – الذي ينبغي أن يتأسى به – كان بالمؤمنين رحيماً ، وما أرسله الله تعالى إلا رحمة للعالمين ، فالرسالة السماوية رحمة للخلق أجمعين ، ومن لم يكن رحيماً لا يمكنه أن يكون رسالياً ، بل سيعرّض الرسالة الى التشويه ، لذا ليس من الحكمة أن يكون الرسالي غير رحيمٍ .

التأمل الرابع:
إن القرآن الحكيم غزيرٌ بالمواضع التي تتناول الحمد لله رب العالمين وبشكل ملفت للانتباه ، وربما أبرزها في سورة الفاتحة التي نقرأها على الأقل عشر مرات في صلوتنا اليومية الخمسة ، ومن ينزّل هذه الحكمة القرآنية – رحمةً بخلقه – يستحق الحمد لأنه رحمن رحيم ، ويستحق الحمد لأنه عزيز ويريد لنا العزة بالحكمة القرآنية التي أنزلها وبالصراطِ المستقيمِ الذي نهتدي إليه بعبادته والاستعانة به ، وبالتالي فمن الحكمة أن نعرف الهداة الى الصراط المستقيم والسائرين عليه كي نسير على خطاهم ، ولا يوجد من هو أفضل من المرسلين عليهم السلام ( وعلى رأسهم خاتمهم صلى الله عليه وآله ) ليكونوا هداة الى هذا الصراط لأنهم سائرون عليه بلا انحراف ، ومن أخلص بعبادته واستعانته سيهتدي الى هذا الصراط وسوف لن يكون من المغضوب عليهم ولا من الضالين .

التأمل الخامس:
إن المؤمن قد يتخذ – نظرياً – سيد المرسلين صلى الله عليه وآله أسوة حسنة ، إلا أنه قد لا يكون عزيزاً ولا رحيماً ولا حكيماً ، وبذلك فهو مؤمن نظري ، فإن كان عزيزاً كان مؤمناً صالحاً ولكن قد لا يكون مؤهلاً ليكون مصلحاً حتى يكون رحيماً ، فإن كان رحيماً أصبح كالأم التي تحنو على أطفالها ، فيرعى مصالح الآخرين ويضحّي بالغالي والنفيس من أجلهم ، إلا أنه لا يستطيع أن يرسم مستقبلهم بصورة صحيحة ، فالإنسان الرحيم قد يرحم الآخرين لأيام إلا أنه قد يظلمهم لسنوات إن لم يكن حكيماً ، لأن الحكيم ينظر الى مصلحة الآخرين المرحلية والمستقبلية ، وبالتالي قد لا يراه البعض رحيماً على المستوى القريب ، أما بعد فترة طويلة يتبين أنه أرحم من ذلك الرحيم الذي ينظر للمستقبل القريب ، عند ذلك يكون هذا المؤمن ( العزيز الرحيم الحكيم ) رسالياً وعلى الصراط المستقيم .

التأمل السادس:
ربما من الواضح إهمال عموم المسلمين للقرآن الكريم ، ومن يهتم به فإنه يهتم بالقراءة فقط ولا يتبحّر في علومه ، فتجده قارئاً متميزاً إلا أنه لا يملك من الثقافة القرآنية شيئاً ، بل حتى من يهتم ببواطن القرآن فإنه لا يهتم بالحكمة القرآنية ، ونادراً ما نجد دراسات تتناول الحكمة في القرآن ، وإن وجدت فقليلة جداً بحيث لا تكون مؤهلة لإيجاد نهضة ثقافية تنتقل من الأروقة العلمية الى المجتمع ، فقد يهتم المؤمنون بالأحكام الشرعية والمسائل العقائدية إلا أنهم فقراء في الحكمة ، لذا لا نرى المجتمع الإسلامي عزيزاً بالشكل الذي أراده القرآن الحكيم ، ولا رحيماً بالمستوى الذي يليق بالمنتمي لسيد المرسلين صلى الله عليه وآله ، وربما لمثل هذه الأسباب وغيرها لا يكون إلا القليل على الصراط المستقيم .

التأمل السابع:
أي نظام سياسي إذا نتج عنه دستور حكيم فسيكون عزيزاً ورحيماً ، عزيزاً بسياسته الحكيمة واقتصاده القوي وسلاحه العسكري وغير العسكري كالأخلاق والإعلام والتقدم العلمي وما يسمى بالقوة الناعمة وغيرها ، ورحيماً من خلال رحمة الحكّام بالرعية ورحمة الناس في ما بينهم ، ورحمة أتباع هذا النظام السياسي بأتباع غيره من الأنظمة ، بل ورحمة الناس بالحيوان والنبات والبيئة عموماً ، فلا تلويث للهواء والماء – فضلاً عن نشر الأمراض السرطانية بين البشر – من أجل إنشاء مصانع تدرّ بالأموال على ثلة من الرأسماليين .
إن مستوى العزة والرحمة اللتان يتمتع بها هذا النظام السياسي يعتمد على حكمة القائمين على هذا النظام كما يعتمد على حكمة دستورهم ، فإن لم يكونوا حكماء فسوف لن تكون هناك عزة ورحمة ، وهذا يدل على أنهم ليسوا على الصراط المستقيم .

الـتأمل الثامن:
مهما بحثنا عن نظام يعز الناس في ظله أو يتراحم البشر برعايته فسوف لن نجد مثل النظام الذي جاء به سيد المرسلين صلى الله عليه وآله ، لأن هذا النظام قائم على دستور حكيم متمثل بالقرآن الكريم الذي نزّله العزيز الرحيم ليكون الناس على صراط مستقيم . لذا قد يرى البعض أن بعض الأنظمة غير الإسلامية ( كالرأسمالية والشيوعية وغيرها ) تعز شعوبها وترحمهم أكثر من الأنظمة (الإسلامية) ، وهذه نظرة قاصرة وخاطئة ، لأن العزة والرحمة التي يتمتع بها أي نظام يجب أن تؤدي الى السير على الصراط المستقيم ، وهذا ما لم يتحقق في الأنظمة غير الإسلامية ، أما الأنظمة (الإسلامية) التي تفتقد للعزة والرحمة فهي في الحقيقة ليست إسلامية ، وإنما إسلامية في الشكل فقط ، وهي أشبه بمسلمي الهوية الذين لا يصلون .

التأمل التاسع:
إن التأسي بسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله يقودنا الى السير على الصراط المستقيم ، والدليل على ذلك أن القرآن الحكيم دعانا الى ذلك عندما قال : ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) ، وبالتالي فإن من الحكمة أن نسعى لهذا التأسي لأنه يؤدي بنا الى الاستقامة في حياتنا والفوز في أخرانا إن كنا نرجو الله تعالى واليوم الآخر .
وأن السير على الصراط المستقيم يقودنا الى العزة والرحمة ، وهذا يعني أن العزة والرحمة لا تأتي مِمَن انحرف عن استقامة هذا الصراط ، بعبارة أخرى ، أن العزة والرحمة التي نراها من منحرف لا تدل على أنه مستقيم ، وأن الذلة والقسوة من مستقيم لا تدل على انحرافه ، لأن العزة والرحمة لها ظروفها والذلة والقسوة لها ظروفها .

التأمل العاشر:
الصراط – وفق الثقافة القرآنية – يكون مرتبطاً بالله عز وجل الذي نهى الوقوف حجر عثرة لعرقلة سير المؤمنين على هذا الصراط ( وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ) ، لذا لا بد أن يكون هذا الصراط مستقيماً ، وكيف لا يكون كذلك وهو مليء بالحكمة والعزة والرحمة ، وسار عليه سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الذي يستحيل أن يسير على صراط غير مستقيم .
أما أولئك الذين أخذوا حكمتهم من غير القرآن الحكيم ، وعزتهم ورحمتهم لم تكن وفق النهج القرآني الحكيم فسيبتعدون بكل تأكيد عن صراط المرسلين المستقيم ، فعزتهم تبرز أمام المستضعفين ، ورحمتهم تكون للظالمين ، وهذا ما نراه بكل وضوح في أحداث طوفان الأقصى ، فطريق هؤلاء بلا شك غير مستقيم .

الـتأمل الحادي عشر:
هناك نظام وحيد سيكون حكيماً بالمطلق وكما يريده القرآن الحكيم ويسير على نهج سيد المرسلين صلى الله عليه وآله ، ويوجّه أتباعه الى الصراط المستقيم ليكونوا أعزاء ، أعزاء أمام أنفسهم الأمارة بالسوء (العزة الداخلية) ، وأعزاء وأشداء على الكفار (العزة الخارجية) كمن كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ) إلا أنهم ( رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) لأن هذا النظام الحكيم الذي ربّاهم على الرحمة رحيم .
هذا النظام هو نظام آخر الزمان ، النظام المهدوي العادل الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً ورحمة بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً وذلة ، فيُعزّ المؤمنين المستضعفين ويذل الكافرين المتكبرين الظالمين ، وسيقوده ابن سيد المرسلين وخاتم أووصيائه الذي يمثل الصراط المستقيم .

التأمل الثاني عشر:
إن تطبيق القانون من حيث الأصل ليس غاية وإنما هو وسيلة لتحقيق غاية تسمى (روح القانون) وهي العدالة والرحمة والعزة وغيرها من معاني الكمال التي يراد تحقيقها للبشرية من خلال تطبيق القانون ، وبالتالي لو طُبِّق القانون ووصلنا الى الظلم والذلة ولم نصل الى هذه المعاني فهناك خلل يجب معالجته .
والقرآن باعتباره دستور كل مؤمن – فرداً كان مجتمعاً – فينبغي أن ننظر إليه كوسيلة لتحقيق غاية سامية تتمثل بالسير على الصراط المستقيم ، وكذلك إعزاز المؤمنين والرحمة بهم ، ولا يمكن أن يُستخدم القرآن وسيلة بشكل صحيح لتحقيق تلك الغايات السامية إلا من قبل حكيمٍ سائرٍ على صراط سيد المرسلين صلى الله عليه وآله ، وكل ما كان هذا الحكيم مطبقاً لتعاليم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله كل ما كان قادراً على تحقيق العزة والرحمة والاستقامة لأبناء المجتمع المؤمن .

التأمل الثالث عشر:
هناك نظرة سلبية تجاه السياسة ، بحيث يُنتَقَد من يميل الى السياسة وقد يُتَّهَم بشتى التُهُم ، مع إن سيد المرسلين وأوصياءه صلوات الله عليهم أجمعين كانوا ساسة العباد وقادة البلاد ، فسياستهم كانت إيصال أفراد الأمة الى الصراط المستقيم وجعلهم أعزاء رحماء ، فيوازنون بين الظروف التي يعيشونها وأحكام الشرع التي يدينون بها ، فالثبات على الصراط المستقيم مطلوب والعزة والرحمة مطلوبتان أيضاً ، والموازنة بينهما هي الحكمة وهي السياسة .
أما من لا يتقن الحكمة في قرارته فينظر الى الأمور بمنظار ضيق وقصير، بحيث يخطو خطوة صحيحة إلا أن آثارها وأبعادها تخرجه عن الصراط المستقيم ، والحكيم لا يتخذ مثل هذه الخطوات ، وقد يخطو خطوة تبدو أنها غير صحيحة لكن تبعاتها صحيحة .

التأمل الرابع عشر:
قد يلاحظ الكثير منا أن بعض المؤمنين يسعى ليكون عزيزاً باعتبارها صفة مهمة ينبغي أن يتصف بها كمؤمن ، إلا أنه يفقد السيطرة على نفسه فلا يكون رحيماً بالمستوى الذي يليق بدرجة إيمانه ، وقد يشعر بذلك إلا أنه يتصور أن العزة أهم من الرحمة ، وربما لا يشعر بذلك ، والبعض الآخر يسعى ليكون رحيماً لأهمية هذه الصفة في شخصية المؤمن ، إلا أنه يتنازل – من حيث يشعر أو لا يشعر – عن العزة ، فقد يقبل بالإهانة للمحافظة على الرحمة .
أما المؤمن الحكيم السائر على النهج القرآني والصراط المستقيم الذي يمثل نهج سيد المرسلين صلى الله عليه وآله فإنه يوازن بين صفتي العزة والرحمة ، فلا يكون عزيزاً على حساب الرحمة ولا رحيماً على حساب العزة .

التأمل الخامس عشر:
إن تطبيق القانون بحذافيره يجعله جافاً غير مستساغ ، ويجعل من الإنسان – المراد تطبيق القانون عليه – آلة بلا مشاعر أو أحاسيس ، وبالتالي قد تكون هناك ردة فعل تجاه هذا التطبيق الحاد للقانون حتى لا يفقد القانون صفة الرحمة التي ينبغي أن تكون من أولويات تطبيق القانون ، مع مراعاة عدم التهاون في تطبيقه كي تبقى عزة القانون وهيبته مصانة ، وعليه تكون الموازنة بين عزة القانون والرحمة (بمن يُطَّبق عليهم) هي الحكمة التي يفترض أن يتحلى بها كل من يتأسى بسيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسار على صراطه المستقيم .
بل حتى على المستوى الديني ، فإننا نجد الفقه عبارة عن أحكام جافة ، ولو تعاملنا معها بشكل منفرد لما تقبل الكثيرون هذا الدين ، لذا جاءت المنظومة الدينية الأخلاقية لتجعل للدين طعماً وللأحكام الفقهية مقبولية في نفوس المتدينين .

 

وردنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M