إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
التأمل الأول:
على المؤمن الرسالي أن يتبع خطى الأنبياء وفي مقدمتهم النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله في كل شيء ومنها إنذار الناس ، فلا بد أن ينذرهم ويُنبّههم من غفلتهم ، وقد يقول قائل : بعض الناس لا يفيد الإنذار معهم ، وهذا صحيح ، فلنبدأ ممن يُرجى منهم الاهتمام بالإنذار ، كالمسلمين باعتبارهم من الذين اتبعوا الذكر ، وإن لم نتمكن من التأثير بهم كون الكثير منهم يتبع الإسلام والقرآن شكلاً لا حقيقة فيمكن أن ننذر من خشي الرحمن بالغيب منهم ، فهؤلاء هم التابعون الحقيقيون للقرآن الكريم ، ويستمعون لأي إنذار يمكن أن ينجيهم من غضب الرحمن ، المهم أن لا يترك المؤمن مهمة الإنذار ، فهو شرف له .
التأمل الثاني:
يروي القرآن الكريم عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله أنه يقول : ( إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ، فهو نذير لمن اتبع القرآن وخشي الرحمن عز وجل بالغيب لأنه علام الغيوب وبيده الخير جل وعلا وهو على كل شيء قدير ، وإن كان سيد الخلق وحبيب الحق لا يعلم الغيب ( وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ) فمن باب أولى أن غيره لا يعلم الغيب ، فإن أراد الإكثار من الخير فلا بد أن يخشى الله تعالى خشية من يخاف إنقاص الخير .
وهو صلى الله عليه وآله بشير ، يبشّر من استجاب لإنذاره بمغفرة ذنوب ما استوجب الإنذار، ويبشره بالأجر الكريم لأنه من قوم يؤمنون .
التأمل الثالث:
يتطلب الإنذار أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ، فالأمر بالمعروف للتحذير من البقاء على مستوى إيماني معين من دون الإرتقاء الى مستوى أعلى ، والنهي عن المنكر يمنع الإنسان من التسافل في درجات الإيمان ، فمن عمل بالمعروف كان له أجر كريم ، ومن انتهى عن المنكر كانت له مغفرة من الذنوب التي ارتكبها بسبب هذا المنكر .
ومن اتبع القرآن الكريم يعرف قيمة فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) التي عُرِفَت بأسمى الفرائض ، ومن يخشى الرحمن بالغيب يخشى من تبعات ترك هذه الفريضة العظيمة التي وصفت بعمود الدين الاجتماعي ، لذا سيكون من المنذِرين (بالكسر) وليس من المنذَرين (بالفتح) .
التأمل الرابع:
إن من يتبع القرآن الكريم ينبغي أن يصل الى مرحلة متقدمة من الخشية ، فالعلماء هم أكثر الناس إتباعاً للقرآن ، لذلك حصر القرآن الكريم الخشية بهم ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) ، أما غيرهم فقد يخشون الله تعالى ولكن في مراتب بسيطة من الخشية بحيث لا تمنعهم من إرتكاب المعاصي فضلاً عن المكروهات ، فمن الطبيعي أن يخشى الإنسان من العزيز الجبار العظيم المنتقم ، ولكن أن يخشى من الرحمن فهذا يحتاج الى معرفة دقيقة لحقيقة الخشية ، باعتبار الرحمة الرحمانية تعمّ جميع الخلائق بشراً ( البر والفاجر ) وحيوانات ونباتات وجمادات وفي كل الكواكب والمجرات وغيرها ، هذه الخشية هي التي تجعل أولياء الله يرتعدون ويتغير لونهم عند إقبالهم للصلاة والمناجاة ، لأنهم يَنذِرون أنفسهم قبل أن يُنذَروا ، ولكي تتم الموازنة بين الخوف والرجاء تأتي البشارة بالمغفرة والأجر الكريم ليهدأوا ويطمئنوا .
التأمل الخامس:
إن من تشرّبت في روحه سورة الفاتحة يتّبع تفاصيلها بحذافيرها ، وهو من إتباع الذكر ، فتكرارها عشر مرات على الأقل وفي أقدس العبادات وأشرفها – وهي الصلاة – لا بد أن يؤثر في نفس قارئها ، فعبادته لله تعالى واستعانته به سبحانه مرتبطة بإتباع القرآن وخشية الرحمن جل وعلا ، فيعبد ربه بالغيب حتى وإن كان في مرأى الناس لأن عبادته خالصة له عز وجل ، وطلبه للهداية الى الصراط المستقيم هو استكمالاً لاتباع الذكر والقرآن الكريم ، فهذا الصراط صراط الذين أنعم الله عليهم بالهداية وبشّرهم بالمغفرة والأجر الكريم فصاروا منذِرين ينذرون الناس – ممن اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب – من أن يكونوا من المغضوب عليهم أو من الضالين ، كي يهتدوا بهداهم ويصلوا الى ما وصلوا إليه .
التأمل السادس:
في القرآن الكريم تكون البشارة أحياناً بالمغفرة والأجر الكريم ، وهذه البشارة لمن اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ، فمثل هذا يستحق البشارة بهذه العطايا الربانية مكافأةً له على إتباعه الذكر وخشيته للرحمن ، وتمييزاً له عن من لم يتبع الذكر ولم يخشَ الرحمن بالغيب ، خصوصاً عن ذلك الذي ( إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا ) لاتباعها باعتبارها من الذكر ولإنذاره ( وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا ) ، فمثل هذا يستحق البشارة بالعذاب الأليم ( فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) وليس فقط عدم بشارته بالمغفرة والأجر الكريم ، فالفرق واضح بين المتذلل في عبادته لله تعالى نتيجة خشيته وبين المستكبر عن عبادته نتيجة إعراضه عن آيات الذكر الحكيم ، ومنه نستنتج أن النبي صلى الله عليه وآله لا يُبشّر بالجنة فقط بل يبشر بالعذاب أيضاً نستجير بالله .
التأمل السابع:
قد يفهم البعض – من حيث يشعر أو لا يشعر – أن الرسول صلى الله عليه وآله وباقي المنذِرين ينذرون فقط من يتبع الذكر وخشي الرحمن ، وهؤلاء عادة نسبتهم قليلة في كل الأزمنة ، وبالتالي فإن جهود المنذِرين جهود متواضعة لا تستحق الإشادة والافتخار ، لأنهم يتوجهون الى الأشخاص الجاهزين للهداية فيهدونهم وليس إنقاذهم من الحضيض .
وهذا التصور خاطئ لعدة أسباب منها أن الواقع والتأريخ يثبتان عكس ذلك ، أما حصر الإنذار بهذه الفئة ليس حصراً لجهود المنذِرين ، لأن المنذِرين كجهاز الإرسال ، يرسل الى الجميع ، والمنذَرون كجهاز الاستقبال ، فمن يضع تردده بما يناسب تردد المنذِرين هم هذه الفئة فقط ، فيتأثرون بإنذارهم ويستجيبون .
التأمل الثامن:
عندما يخشى الإنسانُ الرحمنَ بالغيب فسيجعله يتبع الذِكر باعتباره الناطق بإسم الرحمن عز وجل ، كما يجعله يفكّر ملياً في كل ما يُنذَر به ويحلّله ويدقق في مصادره وأدلته ، فإن اكتشف صحة تلك النُذُر سيلتزم بها ويأخذها على محمل الجد ، ويرتّب عليها أثراً ، فإن كانت هذه النُذُر تأمره بأمر فسيأتمر ، وإن نهته عن أمر انتهى ، ويهتم بها بحيث تعيش معه وتؤرّقه وتأخذ من عقله مأخذاً فتشغله عن أهله ومجتمعه ، من دون أن يبيّن ذلك للناس ، ولذلك استجاب لهذه النذر ، وبذلك يستحق مثل هذا الإنسان المغفرة والأجر الكريم على ما اهتم به .
أما من لا يخشى الرحمن بالغيب فقد يتأثر بالنُذُر عند إلقائها عليه ، وربما تأثر لأسباب عاطفية ، إلا أنها لا تؤثر به هذا التأثير الذي حصل مع من يخشى الرحمن بالغيب .
التأمل التاسع:
إن إتباع القرآن الكريم هو أوضح مصاديق إتباع الذكر ، وإتباعه بشكل دقيق وصحيح يوجب إتباع السُنّة المطهرة للنبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله ، ( وَمَاۤ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُوا۟ )، أما الذي ينتهج منهج (حسبنا كتاب الله ) فيبقى في القشور ولا يصل الى حقيقة إتباع القرآن ، هذا إذا كان لا يقصد شيئاً في أنتهاجه هذا المنهج ، أما إذا لم يخشَ الرحمن بالغيب فإنه يريد إقصاء هذه السُنّة النقية التي تعتبر من المصاديق المهمة للذكر التي يجب إتباعها إن كنا نرغب الالتزام بما أنذرنا النذير الأعظم صلى الله عليه وآله ونأمل أن يبشرنا بمغفرة وأجر كريم ، هذا فضلاً عن إتباع العترة المطهرة (ثاني الثقلين) التي أوصى بها وتركها لنا مع القرآن الكريم لأنهما عمودا الذكر والخشية من الرحمن .
التأمل العاشر:
إن البعض يلهج لسانه بذكر الله تعالى ولكنه لا يتعدى حدود اللسان ، بحيث لا ينعكس على سلوكه ، فيستغفر الله سبحانه مثلاً ولكنه لا يريد أن يتوب مما استغفر منه إضافة الى أنه غير عازم على تركه . بينما البعض يستغفر ويجعل هذا الاستغفار قائداً يتبعه ، لأنه يخشى الرحمن بالغيب ، وهذه الخشية دفعته الى الاستغفار (اللساني) ، وهي التي تدفعه الى العزم – بما مكّنه الله عز وجل – على ترك ما استغفر منه ، وقد لا يكون الاستغفار من ذنب أو معصية ، وإنما من سلوك أو تصرف غير لائق يمكن أن يسبب الى نتائج غير محمودة ، فمثل هذا سينتفع من أي إنذار يسمعه أو يُوجَّه إليه أو يُنبَّه عليه ، وبذلك يستحق بشارة المغفرة والأجر الكريم .
التأمل الأحد عشر:
إن المؤمن إذا خشي الرحمن قلّت ذنوبه ، وقد لا يرتكب الذنوب – كما هو حال المعصومين عليهم السلام – وبالتالي تكون فرصة واحتمالية المغفرة أكبر ، وإذا اتبع الذِكر وعمل الصالحات وارتقى في مستواه الإيماني استحق الأجر الكريم ، وأن الأجر إذا لم تسبقه مغفرة يكون قليل الفائدة وربما عديم الفائدة ، كالشخص الذي يكون جسمه وسخاً ، فعندما يضع العطور وهو بهذا الحال فسوف لا يكون للعطر فائدة ، بينما تكون الفائدة واضحة إذا نظّف جسمه في البداية .
ومن هنا نفهم تسلسل المصطلحات الأخلاقية ( التخلي ثم التحلي ثم التجلي ) ، حيث يكون التخلي أولاً من الذنوب (المغفرة) ثم التحلي (الأجر الكريم) ثم يكون التجلي والتقرب من الله تعالى .
التأمل الثاني عشر:
إن خشية الرحمن عز وجل لها عدة نتائج وثمار وانعكاسات ، منها الخشوع في الصلاة ، وللخشوع في الصلاة عدة مستويات ، فالبعض قد يخشع لارتكاز الصفات الإلهية التي تدعو الى الخشية ( الجبار ، المنتقم ، العزيز وغيرها ) في عقله وقلبه ، ولو أزيلت هذه الصفات وجعلت مكانها صفات الرحمة ( الرحمن ، الرحيم ) لما خشع ، بينما هناك من يخشع حتى مع صفات الرحمة ، والبعض الآخر يخشع إما لما أُنذار منه وخشيته من مخالفته أو لانشغاله لما بُشِّر به من المغفرة والأجر الكريم ، وليس بالضرورة أن تكون المستويات المذكورة متسلسلة بحسب الأفضلية صعوداً أو نزولاً .