تأملات قرآنية من الاية الخامسة عشر من سورة يس

قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15)

التأمل الأول:
هناك بعض البشر يعانون من نقص واحتقار داخلي لأنفسهم ، بحيث إذا جاءهم شخص يريد أن ينصحهم أو يهديهم فينظرون الى هيئته ، فإن كانت بمستواهم فلا يقبلون بنصيحته ، فضلاً إذا كانت هيئته بمستوى أقل منهم ، ويريدون أن يكون الشخص الذي يقدّم لهم شيئاً أعلى مستوى منهم (ظاهرياً) حتى لو كانت حقيقته أدنى منهم .
هذا ليس على المستوى الديني فقط ، فمثلاً إذا جاء مسؤول حكومي بملابس بسيطة ومن دون موكب من السيارات والحمايات فلا يهتمون به وربما يتجاوزون ويتنمرون عليه ، أما لو أتى مسؤول بملابس فاخرة وعدد كبير من المرافقين والحاشية فسيحترمونه ، ونتيجة لذلك أصبح المسؤول الحكومي متكبراً على عامة الناس .

التأمل الثاني:
إن إحياءَ المؤمنين لليلة القدر في شهر رمضان هو اعتراف وإيمان منهم بأن الرحمن أنزل شيئاً ( وهو القرآن الكريم ) وعبر مرسَلين من أنفسهم ( أي بشر ) ، وهو رد عملي على تكذيب المكذبين لما جاء به المرسَلون ورفضهم لإنزال الرحمن شيئاً منه عز وجل ، ويستنكرون بشرية المرسلين ، إذ يعتبرون أن المرسلين يجب أن يكونوا ملائكة أو ما شابه ، ولا ندري ما دليلهم على هذه الفرضية .
ربما يقال أن هؤلاء المكذبين لا نجد لهم مثيلاً اليوم ، فنجيب عليهم ونقول : هذا أمر غير دقيق ، فالذين يسخرون ويستهزئون من عقائد المؤمنين هو تكذيب عملي لما جاء به المرسلون ، فهؤلاء المستهزئون لو كانوا يؤمنون بهذه العقائد لما استهزأوا بها .

التأمل الثالث:
يُفتَرَض أن الإنسان إذا صفّى قلبه وأخلص نِيّته فإنه يَفتَرِض نزول شيء من الرحمن حتى لو لم يثبت عنده أن الرحمن أنزل شيئاً ، لأن من يؤمن بوجود الرحمن إيماناً واعياً يرى من ضرورات الرحمة الإلهية أن ينزل شيئاً لمن يريد أن يهديهم ليرحمهم ويُبعد عنهم عقبات الدنيا والآخرة ، فكيف يكون رحماناً ويترك المرحومين محرومين من رحمته ؟!
ومن مستلزمات الهداية أن يُرسل لهم من أنفسهم رُسلاً بشراً كي يَفهمونهم ويُفهّمونهم ما يريده الرحمن عز وجل منهم ، وإلا ستكون هناك فجوة مع المرسلين من غير البشر ، إضافة الى ذلك فإن وجود مُرسَل من غير البشر يعطي انطباع أن الهداية غير ممكنة للبشر ، وفي الحالتين لا تتحقق الهداية .

التأمل الرابع:
هناك نظريتان فكريتان طُرِحت من عَلَمين من علماء الدين ، تتناول هاتان النظريتان حالة عدم نزول شيء من الرحمن سبحانه ، ماذا يكون تكليف البشر تجاها ؟
النظرية الأولى : تقول ينبغي أن يحتاط الفرد في هذه الحالة ، بمعنى أنه يصلي بالشكل الذي تكشف عن عبوديته حتى لو لم يُؤمَر بالصلاة ، ويتصدق حتى لو لم يُؤمَر بذلك ، وهكذا في باقي الأمور التي يُحتَمَل وجودها في الشريعة لو أُنزِلَت من الرحمن جل وعلا .
النظرية الثانية : تقول أن الفرد لا ينبغي أن يعمل شيئاً إن لم تنزل أحكام من الرحمن عز وجل .
وللأسف فإن أصحاب النفوس الأمارة بالسوء يميلون الى النظرية الثانية لأنهم يجدون فيها تحرراً من القيود والخلاص من الواجبات الشرعية ، أما الثانية فتتماشى مع نهج أمير المؤمنين عليه السلام الذي قال : إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً بجنتك وإنما وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك .

التأمل الخامس:
توصلت البشرية الى أن فتح وكالة لأي شركة عالمية تكون باختيار وكيل من أهل البلد الذي يراد فتح وكالة للشركة فيه ، ويفضلون هذه الطريقة على إرسال ممثل من الشركة الأم للقيام بمهام الوكالة ، لأنهم اقتنعوا بمبدأ ( أن مكة أدرى بشعابها ) ، فالوكيل يعرف ما يريده ابناء مجتمعه ويعرف كيف يقنعهم والأسلوب المناسب والوقت المناسب لتسويق سلع الشركة الموكلة .
وامتدت هذه القناعة لتشمل السياسة أيضاً ، فالدول التي تريد تصدير تجارتها أو ثقافتها لم تعد تُرسل جيوشاً وتنصّب حكاماً من قبلها إلا في حالات نادرة ومؤقتة ، وإنما تقوم بدعم شخصية سياسية من أبناء البلد المراد تطبيق سياستها فيه ، باعتبار أن هذه الشحصية تعرف كيف تتعامل مع الشعب وتعرف ثقافته وتقاليده .
وهذا يعني أن من الحكمة أن يُرسَل رسلٌ من البشر لهداية ، وأن الثمرة تكون أفضل بكثير من إرسال غير البشر .

التأمل السادس:
من الممكن أن يكون المرسلون من غير البشر ، من الملائكة مثلاً ( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا )، ولكن من له القدرة على التعامل معهم ونظامهم الخلقي مختلف عن النظام الخلقي للبشر ؟ إذا تمكّن البشر من رفع مستواهم الروحي والإيماني سيكونون مؤهلين لتقبل رُسلاً من غير البشر ، فليس من المعقول أن يغيّر الرحمن عز وجل نظام خلقه من أجل إرضاء مجموعة من البشر غير مضمون هُداهم ، كما هو الحال عندما تتعامل دولة مع دولة أخرى فلا بد أن تكون بينهما لغة تفاهم ، فلا يُعقَل أن تغّير دولة لغتها من أجل تعامل جزئي مع دولة أخرى .
ولو افترضنا أن الرحمن سبحانه غيّر هذا النظام الخلقي لهؤلاء الرسل – من غير البشر – ليصبح البشر مؤهلين للتعامل معهم فسيصبح الرسل كالبشر وعاد الاعتراض والتكذيب من جديد .

التأمل السابع:
إن إنزال شيء من السماء كشريعة أو دين أو أحكام تحكم الدنيا وتضبط حركتها هو من ثمار ونتائج الرحمة الرحمانية ، بعبارة أخرى أن رحمة الرحمن الواسعة التي تشمل كل المخلوقات بشرها ( مؤمنها وكافرها ) وحيوانها ونباتها وجمادها وما شابه تقتضي إنزال شيء من الرحمن كي يتنعّمون بهذه الرحمة ، كالغيث الذي ينزل ويشمل الجميع من دون تفريق بين مخلوق ومخلوق ، فمن يُصدّق بهذه المنزَلات ( الأحكام والتشريعات السماوية ) ومن أُنزِلَ عليهم من الرسل فسيكون المخلوق الوحيد الذي يَنعم بالرحمة الرحيمية ، أما الآخرون فسوف لن يتذوقوا طعم الهداية التي تعتبر من أشكال هذه الرحمة الرحيمية ، وعلى رأسهم المكذِّبون الذين يتذرعون بأتفه الذرائع ليثبّتوا تكذيبهم .

* مشاركتها ثواب لنا ولكم

للمزيد من التأملات القرآنية يمكنكم الانضمام الى قناتنا على التلكرام:
https://t.me/quraan_views

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M