- مشروع الاندماج غرب أفريقي الذي قامت عليه منظمة الـ “إيكواس” يعاني حالياً من تحديات كبيرة، ويبدو أن المجموعة في طور التفكُّك جراء تصدع ثنائي من شأنه أن يُقوِّض مشروع الاندماج الإقليمي الذي تبلور في سبعينيات القرن الماضي.
- كتلة المنشقين لا تتجاوز حالياً مالي وبوركينا فاسو والنيجر التي أعلنت قيام اتحاد كونفدرالي بينها، لكن من غير المستبعد أن تستقطب دولاً أخرى تتشابه معها من حيث الأوضاع السياسية والخيارات الاستراتيجية مثل غينيا وتشاد ووسط أفريقيا.
قرَّرت الدورة 66 لقمة المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا المنعقدة في أبوجا منتصف ديسمبر 2024 منح دول الساحل الثلاث المركزية مالي وبوركينا فاسو والنيجر مهلة 6 شهور للتراجع عن قرار انسحابها من المنظمة الذي أعلنته يوم 28 يناير 2024. لكن دول الساحل تلك رفضت الرجوع لمنظمة الإيكواس وإن أعربت عن استعدادها الحفاظ على حرية التنقل والإقامة مع بلدان المجموعة.
مستجدات انسحاب الكتلة الساحلية من مجموعة الإيكواس
بعد إعراب دول الساحل الثلاث المركزية عن قرار الانسحاب من مجموعة الإيكواس في يناير 2024، منحتها المنظمة مهلة سنة كاملة لتأكيد قرارها، وفق المادة 91 من الاتفاقية التي نشأت بموجبها المنظمة، وهي المادة التي طُبقت من قبل على انسحاب موريتانيا من المنظمة سنة 2000. ومعروف أن الرئيس السنغالي الجديد بسيرو دوماي فاي اضطلع منذ شهر مايو 2024 بمهمة وساطة بين المنظمة والدول الساحلية، من أجل إرجاعها إلى حضن المجموعة، لكن هذه المهمة لم تتكلل بالنجاح.
وفي الآونة الأخيرة اقترح الرئيس دوماي فاي منح التكتل الساحلي وضعاً خاصاً في تركيبة المنظمة، على غرار وضع اتحاد البلدان المطلة على نهر مانو (ليبريا وسيراليون وغينيا وساحل العاج). كما أن دولة توغو اقترحت الإبقاء على بعض الروابط المؤسسية بين المنظمة ودول الساحل الثلاث. إلا أن ساحل العاج وبنين اعترضتا على هذه المقترحات، واعتبرتا أن الحل الوحيد المتاح هو الرجوع للمنظمة أو الخروج كلياً منها بما يترتب عليه من آثار مباشرة على الصعيد الإقليمي.
في مواجهة هذه المواقف الصارمة، سارع تكتل دول الساحل إلى توطيد نظام الاندماج الكونفيدرالي الرابط بينها، من خلال جملة من القرارات من بينها توحيد نظام الاتصال الهاتفي وتوحيد وثائق السفر وأوراق الحالة المدنية. وكما يبدو من هذه القرارات، لم تعد الشراكة القائمة بين الدول الساحلية الثلاث خاصةً بالجوانب العسكرية والأمنية التي كانت الخلفية الدافعة للتحالف بين البلدان التي تحكمها أنظمة انقلابية عسكرية، بل تعززت سياسة التكامل بين الأطراف الثلاثة في مختلف الملفات والبرامج الاقتصادية والثقافية والسياسية. ففي الاجتماع الوزاري لدول تحالف الساحل المنعقد في نيامي يوم 13 ديسمبر، جدَّدت المجموعة قرارها النهائي بالانسحاب من منظمة الايكواس، مع مراعاة “مصالح سكان الكونفدرالية”.
وانسجاماً مع هذه الرؤية، أصدر الرئيس المالي بصفته رئيس الكونفدرالية الساحلية يوم ١٤ ديسمبر إعلاناً يكرس إعفاء مواطني دول مجموعة الايكواس من التأشيرة ويمنحهم حق الإقامة المفتوحة في بلدان الساحل، مع الاحتفاظ بحق منع أي فرد من دخول المجال الإقليمي للتكتل الساحلي وفق القوانين واللوائح المعمول بها.
إلا أن مجموعة الإيكواس لم تقدم إلى حد الآن ردة فعلها على هذا القرار الانفرادي، بيد أن بعض الأصوات أعلنت اعتراضها على هذا التوجه باعتباره يشكل اختياراً انتقائياً في نصوص معاهدة الاندماج الإقليمي في غرب أفريقيا، بما يعني التمتع بميزات حرية التنقل والحركة المكفولة دون الانصياع لبقية الالتزامات المقررة في معاهدة المنظمة.
خلفيات ومعوقات انسحاب دول الساحل من المنظمة
من المعروف أن البلدان الساحلية المركزية مالي وبوركينا فاسو والنيجر من الدول المؤسسة لمنظمة الإيكواس (مايو 1975)، إلا أن علاقاتها مع المجموعة تردَّت نوعياً إثر الانقلابات العسكرية التي عرفتها هذه البلدان (2021 و2022 و2023)، وبلغ التردي أوجه بعد تهديد المجموعة بالتدخل العسكري في النيجر لإعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم للسلطة. لكنّ انسحاب الكتلة الساحلية من مجموعة الايكواس يمكن إرجاعه إلى عوامل ثلاثة أساسية:
1) اتهام مجموعة الإيكواس بأنها الذراع الأفريقي للقوى الغربية وبصفة خاصة فرنسا، بما يفسر تزامن سياسة القطيعة العسكرية والاستراتيجية مع فرنسا وقرار الانسحاب من المنظمة الاقتصادية لغرب أفريقيا.
2) الشعور بأن المنظمة تجاوزت خلفيتها الاقتصادية الأصلية، وأصبحت إطاراً لهيمنة قوى إقليمية تمارس سيطرتها على بقية بلدان المجموعة (نيجريا وساحل العاج وبنين).
3) اتهام مجموعة الإيكواس بالتخلي عن البلدان الساحلية في جهودها لمواجهة الإرهاب والتطرف الراديكالي، بما يتطلب مراجعة جذرية للسياسات العسكرية والأمنية المتبعة.
إلا أن العديد من العقبات تواجه قرار الكتلة الساحلية الانسحاب من منظمة الايكواس، وأهمها:
- استفادة عدد واسع من مواطني بلدان الكتلة من وضعية الاندماج الاقتصادي غرب أفريقي. ففي ساحل العاج وحدها يوجد 6 ملايين مالي وبوركينابي يقيمون بطريقة شرعية ويمارسون مختلف الأعمال دون قيود وفقاً لمعاهدة الإيكواس، ومن هنا خطورة قرار الانسحاب على وضعية هؤلاء الأفراد.
- تستوعب الأجهزة المهنية والإدارية للمنظمة ما يزيد على 100 موظف من البلدان الثلاث، وفي حال انسحاب الدول الساحلية سيتم تلقائيا تسريح هؤلاء الموظفين الذين يتولون مسؤوليات مهمة في مختلف مستويات الهيئة الإقليمية غرب أفريقية.
- مع أن بعض دول منظمة الإيكواس لا تستخدم العملة النقدية غرب أفريقية، إلا أن الدول الساحلية لا تزال متمسكة بالفرنك غرب أفريقي وتسعى إلى إيجاد بديل توافقي له تشترك فيه كل دول المنطقة (الايكو). ومن ثم فإن قرار الانسحاب من منظمة الإيكواس مع الإبقاء على الوحدة النقدية غرب أفريقية سيخلق لدول الساحل مشاكل عملية معقدة ومستمرة.
آفاق المعادلة الجيوسياسية في غرب أفريقيا
يبدو من المؤشرات الاستراتيجية البارزة في المنطقة أن المنظومة غرب أفريقية تتجه إلى تصدع ثنائي، من شأنه أن يقوض مشروع الاندماج الإقليمي الذي تبلور في سبعينيات القرن الماضي. وهكذا بدأنا نشهد تشكل ثنائية جيوسياسية تتمثل في كتلة الإيكواس في تركيبتها الجديدة المنقوصة، والكتلة الساحلية المتمحورة حول دول الساحل الثلاث المركزية مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
الكتلة الأولى تضم إجمالاً الدول التي اعتمدت الديمقراطبة التعددية والتداول السلمي للسلطة، وربطتها علاقات وطيدة مع القوى الغربية، وعلى الأخص فرنسا (جل هذه البلدان ناطق باللغة الفرنسية). الدول المحورية في هذا التكتل هي نيجريا وساحل العاج والسنغال وبنين. والرؤية التي ينطلق منها هذا التكتل هي توحيد العملة النقدية بالانتقال إلى عملة “الايكو” المشتركة ضماناً لوحدة اقتصادية وتجارية حقيقية، وتوطيد الممارسة الديمقراطية داخلياً والوقوف ضد أشكال التغيير السياسي غير الدستوري عن طريق الانقلابات العسكرية.
أما الكتلة الثانية فتضم دولاً تحكمها أنظمة عسكرية ترى أن تجارب الديمقراطية المدنية كانت فاشلة وأدت إلى تدمير الهياكل العمومية للدولة واستشراء العنف والإرهاب وصعود الحركات الانفصالية. ومن هنا ترى هذه الكتلة أن المؤسسة العسكرية هي دعامة الاستقرار الداخلي والأمن الأهلي، كما ترى في روسيا الحليف الاستراتيجي الفعال ضد المخاطر الأمنية القائمة. ومع أن هذه الكتلة لا تتجاوز حالياً الدول الثلاث التي أعلنت قيام اتحاد كونفدرالي بينها، إلا أنه من غير المستبعد أن تستقطب دولاً أخرى من المنطقة تتشابه معها من حيث الأوضاع السياسية والخيارات الاستراتيجية مثل غينيا وتشاد وجمهورية وسط أفريقيا.
وإجمالاً، فإن مشروع الاندماج غرب أفريقي الذي قامت عليه منظمة الإيكواس يعاني حالياً من تحديات كبيرة، ويبدو أن المجموعة في طور التفكك من جراء التصدع الداخلي النوعي الذي تشهده، بما يفسر انشقاق كتلة الساحل المرشحة للتوسع. غير أن هذه الكتلة لا تبدو قادرة في المدى المتوسط على تحقيق مكاسب جوهرية؛ نتيجةً لهشاشة أوضاعها الداخلية وعجزها عن حسم معضلة الانتقال السياسي ومواجهة الخطر الإرهابي المتفاقم.
خلاصة
في الوقت الذي جدَّدت دول الساحل الثلاث المركزية مالي وبوركينا فاسو والنيجر قرار انسحابها من منظمة الإيكواس، منحت القمة الأخيرة المنظمة هذه الدول مهلة 6 شهور للتراجع عن قرار الانسحاب، وكلَّفت الرئيس السنغالي بالاستمرار في جهود الوساطة بين الكونفدرالية الساحلية الجديدة والمجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا. لكن يبدو أن قرار انسحاب الكتلة الساحلية نهائي، وستترتب عليه نتائج جوهرية أبرزها تصدُّع المنظومة غرب أفريقية وفق ثنائية جديدة ستُحدِّد وتيرة وطبيعة المعادلة الجيوسياسية الجديدة في المنطقة.