تحديات مركبة: سوريا بعد سقوط النظام وصعود الفصائل المسلحة

بعد أكثر من عام كامل من انصراف الأنظار الإقليمية والدولية إلى تطورات الأوضاع في قطاع غزة، وبعد سنوات من الخفوت؛ تصدرت “هيئة تحرير الشام” واجهة الأحداث مرة أخرى بعد قيادتها مجموعة من الفصائل المسلحة السورية وشنها هجومًا مباغتًا بدأ في أواخر الشهر الماضي على قوات الجيش السوري الذي انسحب من محافظة تلو الأخرى وما تبعه من سيطرة الفصائل عليها، وهو ما مثل تطورًا دراماتيكيًا انتهى بسقوط النظام السوري فجر يوم الأحد ٨ ديسمبر ٢٠٢٤، بما يضيف تحديات جديدة لمعادلات الإقليم المضطربة بالأساس منذ فترة طويلة.

أظهر هجوم الفصائل السورية المسلحة الذي بدأ في 27 نوفمبر الماضي وحمل اسم “ردع العدوان” بقيادة “هيئة تحرير الشام”، تطورات نوعية طرأت على أداء هذه الفصائل غيرت بها قواعد الاشتباك المتعارف عليها منذ سنوات في الساحة السورية، ومن ثم يمكن تفسير تقدمها السريع في المناطق التي سقطت من أيدي الجيش السوري من خلال النقاط التالية:

استخدام الطيران المسير: استخدمت الفصائل المسلحة الطائرات المسيرة سواء في عمليات الرصد والاستطلاع والتصوير الجوي، أو إسقاط القذائف وإطلاق النار على الأهداف المختلفة، أو استخدامها بشكل انتحاري. ويبدو أن الفصائل أدركت أهمية هذا السلاح نظرًا لما أثبته من كفاءة في عدد من ميادين القتال المختلفة وأبرزها الساحة الأوكرانية، ومن ثم عملت على دراسة تجارب التنظيمات المناظرة وتجنب أسباب فشلها، مثال فشل محاولات تنظيم داعش لاستخدام الطائرات المسيرة خلال فترة سيطرته قبل اندثاره، وقامت بتأسيس كتيبة “الشاهين” التي اختصت بهذا الملف منذ بدايته وتتولى تشغيل سلاح المسيرات في المعارك الجارية، وكذلك قامت هيئة تحرير الشام بتحويل مدرسة في قرية عين البيضا في ريف اللاذقية إلى مصنع للطائرات المسيرة تم الكشف عنه في فبراير الماضي.

تنوع تسليحي: كشفت المعارك خلال الأيام الماضية عن امتلاك هيئة تحرير الشام والفصائل المشاركة معها لترسانة من الأسلحة المتنوعة ما بين الخفيفة والمتوسطة والثقيلة والقدرات الصاروخية المختلفة، لتكشف بذلك مدى التطور الذي طرأ على الهيئة خلال الخمس سنوات الماضية وقدراتها التسليحية، والانتقال من حالة القدرات المحدودة المتأثرة بشدة بسبب ضربات الجيش السوري المدعوم من روسيا إلى الحالة النوعية التي حققت لها نجاحات ميدانية سقط أمامها الجيش السوري. وتحصلت الهيئة على هذه الأسلحة من خلال مجموعة من الروافد من بينها السلاح الذي أغرقت به مجموعة من الدول سوريا لدعم الحركات المسلحة، أو نزع سلاح الفصائل الأخرى سواء عن طريق الحل والاندماج أو الاندثار وتوقف النشاط، أو التصنيع المحلي، بالإضافة إلى الاستيلاء على مخازن الأسلحة الخاصة بالجيش السوري والتي أدت إلى امتلاك الهيئة دبابات وناقلات جنود مدرعة ومنظومات دفاع جوي، وسمح هذا التنوع الكبير في ترسانة الأسلحة للهيئة وغرفة عملياتها العسكرية في بناء تكتيكات هجومية فعالة.

تكتيكات مختلفة: لم تكن لهيئة تحرير الشام أن تحقق هذه النجاحات غير المسبوقة إلا بدون العنصر البشري المدرب على تكتيكات قتالية نوعية واستخدام التكنولوجيا المتطورة، وقال أحمد دالاتي القيادي العسكري في هيئة تحرير الشام “بعد الحملة التي قام بها النظام السوري عام 2019 التي أدت لخسارة جزء من الأراضي التي كانت تسيطر عليها، قامت الهيئة بإعادة تقييم للأمور ووقفت عن الأخطاء التي وقعت فيها، وبدأت منذ عام 2020 في عملية الإعداد والتجهيز وتنظيم القوات لتكون جاهز لفرصة الهجوم على الجيش السوري لاستعادة الأراضي التي خسرتها وتحرير باقي الأراضي، وأن عملية تأهيل المقاتلين أخذت وقتًا كبيرًا”، كما عملت الهيئة خلال السنوات الماضية على توحيد وتنسيق العمل العسكري مع الفصائل الأخرى وتنفيذ عدد من الأنشطة المشتركة، وتدشين كليات عسكرية لتخريج مجموعات قتالية مدربة خصيصًا على المسرح العملياتي السوري، وإعداد المعسكرات الخاصة لتأهيل قوات النخبة وتأتي “العصائب الحمراء” على رأس هذه القوات.

عنصر المباغتة: تسبب عنصر المباغتة والأعداد الكبيرة من المقاتلين المشاركين في الهجوم في إرباك قوات الجيش السوري التي تساقطت كقطع الدومينو في المحافظات السورية الواحدة تلو الأخرى انتهاءً بالعاصمة دمشق، وتميز هذا السقوط بالانسحاب من التمركزات المختلفة بشكل عشوائي دون خطة مدروسة، ووصل الأمر إلى انسحاب قرابة ألفي ضابط وجندي سوري من البوكمال إلى العراق عبر معبر القائم الحدودي وتسليم أنفسهم ومعداتهم للسلطات العراقية. ويعزى هذا السقوط أيضًا إلى حالة الإنهاك التي يعاني منها الجيش السوري في ضوء استمرار القتال غير المتجانس لمدة 14 عامًا متواصلة وحالة الاستنزاف المستمرة وضعف عمليات التطوير فيما يتعلق بتدريب المقاتلين أو المعدات، مما جعله غير قادر على المواجهة بعد اختفاء الداعمين الدائمين للنظام السوري (روسيا وإيران وحزب الله) كما كان معتادًا خلال السنوات الماضية.

ولم يقتصر نجاح هجوم الفصائل المسلحة على العناصر السالف ذكرها فحسب، بل لعبت السياقات السياسية المصاحبة لهذا الهجوم دورًا في توفير مناخًا وظروفًا ملائمة للغاية لإنجاح هذا التحرك العسكري، وفي مقدمتها انشغال روسيا بتداعيات الحرب في أوكرانيا المستمرة لأكثر من عامين وتحظى فيها كييف بدعم غربي واسع أرهق موسكو بشكل واضح، وانسحاب دور حزب الله اللبناني الذي كان يوفر مظلة حماية جيدة للنظام السوري بعد الضربات القاصمة التي تلقاها خلال صراعه مع إسرائيل وأسفرت عن تصفية قياداته من الصفوف الأولى والثانية والثالثة على المستويين العسكري والسياسي خلال أكثر من عام من القتال الذي توقف باتفاق وقف إطلاق نار هش يواجه الكثر من الخروقات، ويرتبط ذلك أيضًا بتراجع الدور الإيراني لدعم النظام السوري على خلفية تداعيات الحرب على قطاع غزة، وقيام إسرائيل باستهداف سلاسل الإمداد والتموين الإيرانية في سوريا، واستهداف عدد كبير من عناصر وقيادات الحرس الثوري، وضرب مقرات الميليشيات الإيرانية هناك، والمناخ الدولي وخاصة من جانب الولايات المتحدة الرافض للنفوذ الإيراني في المنطقة ويسعى لتحجيمه والقضاء على أذرعه.

ركز زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني منذ اللحظة الأولى على إرسال عدة رسائل للداخل السوري والقوى الإقليمية والدولية لطرح نفسه كرجل المرحلة الحالية والقادمة، وتبني أهداف المعارضة المدنية على خلاف نهج الهيئة السابق، واستخدم أدوات مختلفة لإلغاء الصفة المتشددة التي تلاحقه ومن بينها استخدام اسمه الحقيقي “أحمد الشرع” بدلًا من اسمه الحركي، ويمكن إيجاز هذه الرسائل في النقاط التالية:

أولًا: التأكيد على وجود مشروع وطني لبناء سوريا، يقوم في جزء منه على اتخاذ الحكم بشكل مؤسسي وأن هيئة تحرير الشام جزء لتحقيق هذا المشروع، وقد يتم تفكيكها في أي وقت بعد تحقيق هدفها، وأن التحركات العسكرية ضد النظام السوري مجرد وسيلة لتحقيق غاية المشروع الوطني، وهو ما يتسق مع تحركات الجولاني منذ سنوات على مأسسة القوات العسكرية التابعة للهيئة لتتخذ طابع الجيوش النظامية.

ثانيًا: التركيز على مهاجمة النفوذ الإيراني بشكل مباشر، وذلك بهدف كسب ود التيار السني داخل سوريا وخارجها حينما أشار في خطبته بالمسجد الأموي بعد سقوط بشار الأسد أن الانتصار عليه هو “تاريخ جديد للأمة الإسلامية”، وتقديم نفسه أمام القوى الإقليمية والدولية في ضوء تنامي حالة الرفض للانخراط الإيراني في الصراع مع إسرائيل على خلفية الحرب في قطاع غزة مما أدى إلى توسع رقعة الصراع بالمنطقة على مدار أكثر من عام كامل، والإشارة بشكل واضح إلا أن سوريا بعد سقوط بشار الأسد لن تكون ساحة نفوذ لإيران مرة أخرى، حيث قال في ذات الخطبة أن “الأسد ترك سوريا مزرعة للأطماع الإيرانية وزرع فيها الطائفية”، ودعوته لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني للنأي بالعراق عن الحرب في سوريا ومنع تدخل الحشد الشعبي العراقي فيما يجري في سوريا.

ثالثًا: طمأنة مختلف المكونات السورية، وتهدف هذه النقطة بشكل أساسي إلى تشكيل بيئة حاضنة واسعة، وتعتمد في مجملها على التأكيد بعدم وجود روح انتقامية سواء ضد مؤسسات الدولة أو الأقليات وتحديدًا المسيحيين أو الطائفة العلوية التي كان ينتمي إليها بشار الأسد، وعدم وجود تشدد تجاه النساء أو وسائل الإعلام، حيث أكد زعيم الهيئة في بيان صادر بعد سقوط بشار الأسد على أن المؤسسات العامة ستظل تحت إشراف رئيس الوزراء السابق محمد الجلالي حتى يتم تسليمها وتكليف محمد البشير رئيس وزراء حكومة الإنقاذ حاليًا بتشكيل حكومة انتقالية، مما يشير إلى وجود جهود مبذولة لضمان الانتقال المنظم والسلس للسلطة، كما حظر على القوات العسكرية في دمشق الاقتراب من المؤسسات العامة أو إطلاق الرصاص في الهواء، وإعلان العفو العام عن جميع العسكريين المجندين تحت الخدمة الإلزامية والتشديد على عدم الاعتداء عليهم، وتأكيده خلال لقاء مع قناة “سي إن إن” الأمريكية على أنه يعمل على طمأنة “المدنيين والجماعات التي عانت من الاضطهاد على أيدي الجماعات المتطرفة والجهادية في الحرب الأهلية السورية التي استمرت لعقد من الزمان، وأبذل قصارى جهدي لإخبار المسيحيين وغيرهم من الأقليات الدينية والعرقية علنًا أنهم سيعيشون بأمان”، مؤكدًا أن “الطوائف تتعايش في هذه المنطقة منذ مئات السنين، ولا يحق لأحد القضاء عليها”، كما أصدرت القيادة العامة للفصائل المسلحة السورية سلسلة قرارات من بينها المنع البات للتدخل في زي النساء أو فرض أي طلب متعلق بمظهرهن بما فيها طلب التحشم، وأن الحرية الشخصية مكفولة للجميع، وكذلك حظر التعرض للإعلاميين العاملين في التلفزيون السوري، والإذاعة السورية، وصفحات التواصل الاجتماعي ومنع توجيه أي تهديد لهم تحت أي ظرف، وفرض عقوبة الحبس لمدة سنة كاملة لكل من يخالف هذا القرار.

تواجه سوريا في المرحلة القادمة حزمة من التحديات التي يجب العمل عليها لكونها تحمل تداعيات كبيرة على سوريا والمنطقة، ويمكن إيجازها في النقاط التالية:

أولًا: مستقبل هيئة تحرير الشام، على الرغم من كون الهيئة مصنفة كتنظيم إرهابي من قبل الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأخرى حول العالم، وتخصيص واشنطن في عام 2018 مكافأة قدرها 10 ملايين دولار لمن يساعد في القبض على زعيمها أحمد الشرع المكنى بأبي محمد الجولاني، إلا أنه من المتوقع أن يتجاوز المجتمع الدولي ذلك ويتعامل مع الحركة بشكل تدريجي في ضوء التزامها بما وعدت بتحقيقه وإجراء مراجعات لتراجع الحركة عن الإرهاب ومن ثم يتم رفعها من القوائم الإرهابية، على غرار التعامل مع نموذج تولي حركة طالبان الحكم في أفغانستان.

ثانيًا: مستقبل الفصائل المسلحة، وذلك في ضوء أن جميع الفصائل السورية منذ بداية انخراطها في القتال ضد النظام السوري قبل 14 عامًا، رهنت استمرارها بسقوط بشار الأسد وهو ما تحقق بالفعل، وبالتالي يعد مستقبل هذه الفصائل من أهم الإشكاليات القادمة، نظرًا لامتلاك هذه الفصائل أعدادًا كبيرة من المقاتلين وعتادًا ضخمًا من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة بالإضافة إلى الخبرات القتالية المعتبرة التي تراكمت عبر سنوات القتال، وهو ما يضع ثلاثة سيناريوهات، الأول، دراسة مدى إمكانية دمج هذه الفصائل في الجيش السوري وخاصة أن بعض من هذه الفصائل تضم بين جنباتها ضباط وجنود سوريين انشقوا سابقًا عن الجيش، والثاني، اتخاذ أي من هذه الفصائل رد فعل عنيف حال إقصائها من المشهد السياسي أو الأمني في المرحلة القادمة وهو ما يفتح الباب أمام الاقتتال البيني بين هذه التنظيمات وبالتالي يظل المشهد الأمني السوري يدور في حلقة مفرغة من عدم الاستقرار، والثالث، حل هذه الفصائل وتجريدها من سلاحها، هو ما يفتح الباب أمام زيادة النشاط الإرهابي في المنطقة بسبب انتقال هؤلاء المقاتلين إلى أماكن صراعات أخرى أو عودة نشاط تنظيمات إرهابية خاملة لتضيف أعباء جديدة على معادلة الأمن في المنطقة.

ثالثًا: زيادة وتيرة التهديدات الأمنية، سلطت التطورات على الساحة السورية الضوء على خطورة امتلاك التنظيمات المسلحة التكنولوجيا العسكرية النوعية واستخدامها بشكل احترافي، مما قد يؤدي إلى قلب موازين القوى خلال فترة وجيزة ولا تستطيع الجيوش النظامية مواجهتها بسهولة، وهو ما يؤدي إلى تهديدات أمنية مستجدة تقوم في جانب كبير منها على تشجيع التنظيمات المسلحة الأخرى في المنطقة على السير على نفس الخطى السورية على أمل الوصول إلى تحقيق ذات الهدف، بالإضافة إلى زيادة احتمالية عودة نشاط تنظيم داعش الإرهابي بعد فترة كبيرة من الخمول، ومحاولته الاستفادة من الوضع الحالي بكل ما يتضمنه من تفاصيل وحالة السيولة الأمنية التي قد تنشأ بسبب هذا الوضع.

مجمل القول، على الرغم من التطورات المتسارعة التي مرت بها سوريا خلال الأيام الماضية والتي أسفرت عن تغيير واقعها وإطلاق مرحلة جديدة مليئة بالتطلعات، إلا أن المرحلة القادمة ستكون محفوفة بالمخاطر على كافة المستويات. ويبقى الحفاظ على سيادة سوريا ووحدة أراضيها ووقف التدخلات الأجنبية بكافة أشكالها، وواقعها الأمني، هو المعيار الأساسي والوحيد للحكم على مدى نجاح المسار الحالي أو فشله.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M