- عكَست الإجراءات الصينية الانتقامية ضد حرب ترمب التجارية استعداد بيجين وسعيها للتصعيد عبر الاعتماد على هيمنتها العميقة والواسعة على سلاسل توريد المعادن الحرجة والنادرة.
- وفي ظل ذلك، بات واضحاً أن الولايات المتحدة والصين تمضيان بخطى متسارعة نحو “الانفصال” في سلاسل التوريد وتحمل كُلَفه، استناداً إلى اعتبار الجانبين المعادن الحرجة والنادرة مكوناً أساسياً في معادلة أمنهما القومي.
- أظهرت القيود الصينية المفروضة على تصدير المعادن النادرة أن بيجين باتت تمتلك أداة جيوسياسية قد تلجأ إليها مستقبلاً في مواجهة أي خلافات تجارية أو نزاعات حدودية أو صراع مسلح أو أزمة في مضيق تايوان، ما يمنحها القدرة مستقبلاً على تشكيل الديناميات الجيوسياسية العالمية، وهو ما يرفع مستوى التهديد للأمن الاقتصادي للعديد من دول العالم، بما فيها دول الشرق الأوسط.
اتجهت الصين مؤخراً إلى تسليح هيمنتها على صناعة المعادن الحرجة والنادرة والمغناطيسات وسلاسل توريدها منذ عودة الرئيس دونالد ترمب للحكم في الولايات المتحدة وإطلاقه حرباً تجارية واسعة النطاق ضد بيجين. وكانت أكثر الإجراءات الصينية حدةً قرارا أبريل وأكتوبر للرد على رفع مستوى الرسوم الجمركية الأمريكية المفروضة على السلع الصينية.
تحلل هذه الورقة محددات الهيمنة الصينية ومحفزاتها الداخلية والخارجية على سلاسل توريد المعادن الحرجة والنادرة، وتداعياتها على التحوُّل الطاقي وقطاعات التصنيع في الدول الغربية، واستراتيجية الولايات المتحدة لزعزعة هذه الهيمنة.
الصين وسياسة “تسليح” سلاسل التوريد
تتحكم الصين، حالياً، بشكل شبه كامل، بجميع مكونات سلاسل توريد المعادن النادرة (الشكلان 1 و2). بالنسبة للمعادن الأرضية النادرة المستخدمة في المغناطيسات، شكَّلت الصين حوالي 60% من إنتاج التعدين العالمي في عام 2024. وتفُوق هيمنة الصين ذلك في مرحلتي الفصل والتكرير، حيث تمثل حوالي 91% من الإنتاج العالمي. وبشكل أهم، عززت الصين هيمنتها بشكل كبير في تصنيع المغناطيسات الدائمة المحتوية على المعادن النادرة، حيث ارتفعت حصة الصين من الإنتاج من 50% قبل عقدين إلى 94% العام الماضي. وتستخدم المغناطيسات الدائمة في صناعة السيارات وتوربينات الرياح والمحركات الصناعية ومراكز البيانات وأنظمة الدفاع.
شكل 1: التوزيع الإقليمي للمعادن النادرة وإنتاج المغناطيسات الدائمة في عام 2024
شكل 2: الدول المهيمنة على عملية التنقيب عن المعادن النادرة
ورداً على رسوم “يوم الاستقلال” لإدارة ترمب، فرضت الحكومة الصينية، في 4 أبريل، ضوابط تصدير على سبعة عناصر نادرة ثقيلة، فضلاً عن جميع المكونات والمعادن والمغناطيسات المرتبطة بها. وأدى القرار الصيني إلى انخفاض حاد في مستوى الصادرات في شهري أبريل ومايو. وواجهت العديد من شركات صناعة السيارات في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا تحديات في الحصول على المعادن النادرة والمغناطيسات، واضطر بعضها لغلق خطوط إنتاج أو مصانع بأكملها. وقفز القرار أيضاً بالأسعار في السوق، ووصلت الأسعار في أوروبا إلى ستة أضعاف الأسعار في الصين، ما من شأنه إخراج الكثير من المنافسين الأوروبيين من السوق كلياً.
وبالتزامن مع الموجة الثانية من التصعيد، في 9 أكتوبر2025، أعلنت وزارة التجارة الصينية عن فرض ضوابط تصدير إضافية على المعادن النادرة والمنتجات والمعدات والتقنيات المرتبطة بها. وتلزم الضوابط الجديدة الشركات الأجنبية بالحصول على ترخيص من الصين لتصدير “الأجزاء والمكونات والتركيبات” التي تحتوي على معادن نادرة صينية المصدر أو منتجة باستخدام تقنيات صينية. وقد دخل تطبيق القواعد الجديدة على المنتجات المصنعة في الصين حيز التنفيذ على الفور. لكن، اعتباراً من الأول من ديسمبر، سيتم توسيع الضوابط لتشمل المنتجات “المصنوعة دولياً” التي تحتوي على مواد صينية المصدر أو مُصنَّعة باستخدام تقنيات صينية، حتى وإن تُدوِلت محلياً. ويتطلب فهم محفزات هذه الضوابط ومحدداتها شرحاً لديناميات التفكير الاستراتيجي حول المعادن النادرة في الصين وأهداف القيادة طويلة المدى.
أولاً: الممارسات التجارية
تحتل المعادن النادرة مكانة مركزية في التخطيط الاقتصادي الاستراتيجي في الصين. فاستراتيجية “صنع في الصين 2025” تركز على تنمية عشرة قطاعات تكنولوجية، تدخل المعادن النادرة في خمسة منها بصفتها مكونات أساسية، بينما تشكل مكونات داعمة في الخمسة الأخرى. وتنقسم مقاربة الصين للهيمنة على سلاسل توريد المعادن النادرة إلى عدة ممارسات أهمها الحوافز المالية المباشرة للشركات المحلية، والاعتماد شبه الكامل على الشركات المملوكة للدولة، والتحكم بالأسعار العالمية.
يتمثل الدعم المالي المباشر للشركات الصينية في المنح، والقروض منخفضة التكلفة، ودعم الطاقة، والأراضي منخفضة الكلفة، والحوافز الضريبية. وثمة تقديرات أن الدعم المالي الحكومي يُغطي ما بين 20% إلى 40% من إجمالي تكلفة المشروع، في مرحلتي الاستخراج والمعالجة، مما يضمن قدرة الشركات الصينية على التفوق على المنافسين الأجانب.
وتُوظِّف الحكومة الصينية دعم الصادرات ودعم إحلال الواردات لتكريس إبقاء المعادن النادرة داخل حدود الصين، وتوسيع القاعدة الصناعية والمعالجة. على سبيل المثال، تُعيد الحكومة سداد ضريبة القيمة المضافة للشركات مرة أخرى إذا ما أُدخِلَت المعادن النادرة التي قامت بشرائها في عمليات معالجة داخل الصين ولم تُصدَّر باعتبارها مواد خام إلى الخارج، وهو ما يعني خفضاً تلقائياً بمقدار 13% على كلفة الإنتاج. في المقابل، تفرض الصين رسوماً جمركية بمقدار 5% وضريبة القيمة المضافة بمقدار 13% على واردات السلع المصنعة في الخارج باستخدام المعادن النادرة، بينما تُعفي واردات المعادن النادرة بصفتها مواد خام من كل هذه القيود، وهو ما يعكس سعي بيجين لإضعاف قدرة شركات المعاجلة والتصنيع الأجنبية على التنافس مع الشركات الصينية والحفاظ على الهيمنة على مرحلة المعالجة الوسيطة. إلى جانب ذلك، فإن الشركات العاملة في الخارج، خصوصاً في الدول العضوة في مبادرة الحزام والطريق، تتلقى تسهيلات في التمويل من البنوك الحكومية الصينية.
وقد عملت الصين منذ 2016 على تركيز مرحلتي التعدين والإنتاج في ثلاث شركات حكومية كبرى فقط، نزولاً من 100 شركة قبل هذا العام. وتعمل الشركات المملوكة للدولة على التحكم بالأسعار العالمية عبر إغراق السوق لتحييد المنافسين الأجانب إذا اقتضت الضرورة، حتى لو أدى ذلك في بعض الأحيان إلى خسائر لهذه الشركات. بمعنى، أن منطق الربح والخسارة أولوية متأخرة مقارنةً بالأهداف الجيوسياسية للدولة، وهو ما يخلق تحديات كبرى بالنسبة للشركات الأجنبية الساعية لزيادة حصتها في سلاسل التوريد وتقليل الاعتماد على السوق الصيني.
ثانياً: نظام القيود على الصادرات
تنظر الدولة الصينية إلى إمدادات المعادن النادرة باعتبارها “قبضة خانقة” (卡脖子) تكنولوجية حاسمة ضد المنافسين الغربيين. أي أن الهيمنة الصينية على سلاسل التوريد هو إجراء استراتيجي مضاد للممارسات الغربية، خصوصاً منذ الجولة الأولى من الحرب التجارية في خلال رئاسة ترمب الأولى.
في 3 يوليو 2023، أصدرت وزارة التجارة الصينية والإدارة العامة للجمارك قيوداً مشتركة على تصدير السلع الكيميائية المشتقة من الغاليوم والجرمانيوم. واستندت القيود تحديداً إلى ثلاثة أسس قانونية أساسية: قانون مراقبة الصادرات، وقانون التجارة الخارجية، وقانون الجمارك.
أهم قانون بينها هو قانون مراقبة الصادرات الذي أُقِرَّ عام 2020. وتكمن أهمية هذ القانون في أنه استبدل نظاماً مجزأ للرقابة على الصادرات بقانون موحد بعد أن كانت التراخيص موزعة بين هيئات متعددة تسببت في عدم اتساق التنفيذ وصعوبات في الامتثال. يرتكز القانون على مفهوم الرئيس شي جينبينغ للأمن القومي الشامل، ويمنح القانون وزارة التجارة، تحت إشراف مجلس الدولة واللجنة العسكرية المركزية، سلطة مركزية بدلاً من الهيكل البيروقراطي المشتت سابقاً. ويوسع القانون تعريف “التصدير” ويعتمد فئات واسعة للمواد الخاضعة للرقابة، بما في ذلك صلاحيات خارج الحدود الصينية، ويفرض عقوبات صارمة تصل إلى عشرين ضعف العائد غير القانوني. ويمنح نطاق القانون الواسع مرونة انتقائية في التنفيذ بما ينسجم مع الأولويات الاستراتيجية للدولة.
ويؤسس قانون الرقابة على الصادرات نظاماً موحداً يشمل المكونات الثلاثة لسلاسل التوريد: السلع، والمصدرين، والمستوردين والمستخدمين النهائيين. تمنح المادة 9 من القانون وزارة التجارة صلاحية وضع قائمة المواد الخاضعة للرقابة وتحديثها، مع إمكانية فرض رقابة مؤقتة لمدة تصل إلى عامين بموافقة مجلس الدولة، كما حدث في تقييد تصدير الغرافيت في ديسمبر 2023. ويمكن للوزارة، بموافقة مجلس الدولة واللجنة العسكرية المركزية، فرض حظر تصدير موجّه على دول أو أفراد وفق متطلبات الأمن القومي.
وتعزز المادة 12 ترسيخ نظام تراخيص التصدير، القائم منذ لوائح وتدابير قائمة منذ عام 2001 (انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية) لكنها ترفعه لمستوى قانون وطني مع معايير تشمل الأمن القومي، والالتزامات الدولية، وبلد المقصد، والمستخدم النهائي والاستخدام النهائي. وتلزم المادة المصدرين بطلب تراخيص حتى للمواد غير المدرجة على قائمة الحظر إذا تم الابلاغ باحتمال استخدامها بما يهدد الأمن القومي أو يرتبط بأسلحة الدمار الشامل.
وتفرض المادة 17 نظام تحقُّق من المستخدم النهائي والاستخدام النهائي، مع توسيع قائمة المنتجات لتشمل المعادن النادرة ابتداء من الأول من نوفمبر 2023. وتُجيز المادة 18 من قانون الرقابة على الصادرات لوزارة التجارة إنشاء قائمة رقابية للمستوردين والمستخدمين النهائيين، ما يسمح بتنظيم موجَّه يعتمد على هوية الجهات المستلمة. وبمجرد إدراجهم، يحق للوزارة حظر أو تقييد المعاملات أو وقف الصادرات إليهم. كما يمكن للوزارة السماح بمعاملات في “ظروف خاصة”، وهي آلية مماثلة للرخصة العامة المؤقتة لدى مكتب الصناعة والأمن في وزارة التجارة الأمريكية. وقد طُبِّقَت “قاعدة المنتج الأجنبي” على المعادن النادرة، القائمة منذ عام 1959، للمرة الأولى على الإطلاق في 9 أكتوبر الماضي.
تفرض القواعد الجديدة على الشركات الأجنبية الحصول على موافقة من وزارة التجارة الصينية قبل تصدير أي منتجات قد تحتوي على معادن نادرة ذات منشأ صيني، أو جرى إنتاجها باستخدام تقنيات صينية في الاستخراج أو المعالجة أو التصنيع. ويمتد إطار الترخيص الجديد ليشمل المنتجات/المغناطيسات النادرة المصنعة في الخارج، إضافة إلى بعض المواد المستخدمة في الرقائق الإلكترونية التي تحتوي على 0.1% أو أكثر من المعادن النادرة الثقيلة المصدرة من الصين.
سياسات المواجهة الأمريكية
تنص القيود الصينية الجديدة، بدءاً من 1 ديسمبر 2025، على حجب تراخيص التصدير عن الشركات المرتبطة بجيوش أجنبية ورفض أي طلبات لاستخدام العناصر الأرضية النادرة لأغراض عسكرية. وستخضع الصين طلبات تصدير المعادن النادرة للتقنيات المتقدمة (مثل الرقائق عند مستوى 14 نانومتر أو أقل) لمراجعة فردية، مع إلزام الشركات بوثائق تفصيلية ومنح السلطات صلاحية واسعة لتأخير أو رفض الشحنات.
ولتقويض الاستراتيجية الصينية وتقليل الأضرار الناجمة عنها، تتبنى الولايات المتحدة استراتيجية مكونة من أربعة عناصر أساسية:
1) تشجيع توطين الإنتاج المحلي، بما يشمل عمليات التعدين والمعاجلة والتصنيع. ففي 8 أكتوبر، وقَّعت شركة “نوفيون” الأمريكية للمعادن الأرضية شراكة استراتيجية مع شركة “ليناس” الأسترالية لبناء سلسلة توريد في الولايات المتحدة قابلة لتطوير المغناطيسات الدائمة من المعادن النادرة.
2) تنويع مصادر المعادن النادرة المستوردة من الخارج، باتجاه الاعتماد على مصادر موثوقة وحليفة للولايات المتحدة ضمن سياسة “دعم الأصدقاء” المرتكزة على “شراكة أمن المعادن“، إلى جانب مبادرات التنمية الدولية، مثل تلك التي تقودها مؤسسة التمويل الإنمائي الدولية الأمريكية، والشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار. على سبيل المثال، ضمن اتفاق الشراكة الاستراتيجية بين “نوفيون” و”ليناس”، ثمة تركيز على دور “ليناس” في تزويد القطاعات الدفاعية والتجارية في الولايات المتحدة بالمعادن النادرة إلى جانب المغناطيسات الدائمة المصنّعة منها.
3) توسيع دور وزارة الحرب في حماية سلاسل التوريد عبر زيادة عدد اتفاقات الاستحواذ المباشر ووضع حد أدنى للأسعار لتقليل مخاطر التقلبات السعرية بسبب السياسات الصينية. ففي يوليو 2025، وقّعت الوزارة اتفاقاً لاستثمار400 مليون دولار في أسهم شركة “ام بي ماتيريالز”، لتصبح الحكومة الأمريكية أكبر مساهم في الشركة. ويتضمن الاتفاق التزاماً يمتد لـ10 سنوات بوضع حد أدنى للأسعار قدره 110 دولارات للكيلوغرام لمنتجات الشركة من النيوديميوم–البراسيوديميوم، مع منح الشركة قرضاً بقيمة 150 مليون دولار لتعزيز قدراتها الصناعية. ويأتي الدور الموسّع للوزارة ضمن المحددات الصادرة في الاستراتيجية الصناعية للدفاع الوطني الصادرة في يناير 2024، والمنبثقة من استراتيجية الدفاع الوطني 2022.
4) حشد القوى الداخلية عبر استخدام آليات تشريعية وقانونية توسّع صلاحيات الحكومة الفدرالية في تأمين سلاسل التوريد ورفع القدرة الداخلية التعدينية والتصنيعية في الولايات المتحدة. أحد أهم هذه الأدوات قوانين تفويض الدفاع الوطني لعام 1950، والاستثمار في البنية التحتية والوظائف لعام 2021، وخفض التضخم لعام 2022، والرقائق والعلوم لعام 2022.
التوقعات المستقبلية
يظهر، إذن، أن الهيمنة على المعادن النادرة تسمح للصين بالتحكم في الأسعار، وتقييد العرض، وتقويض الشركات الناشئة، خصوصاً في الدول التي لا تملك بعد البنية التحتية التصنيعية والتعدينية التي تمكنها من المنافسة. وتؤكد بيانات وكالة الطاقة الدولية هذه التقديرات (شكل 3). تتوقع الوكالة أن تستمر الصين في توفير حوالي 60% من المعادن النادرة الرئيسة المستخدمة في صناعة المغناطيسات بحلول عام 2030. وبالمقارنة، تتوقع أن تتمكن الولايات المتحدة من تلبية حوالي 95% من طلبها على المعادن النادرة من مصادر محلية.
شكل 3: المشاريع القائمة والمخطط لها لتعدين وتكرير وتصنيع المعادن النادرة والمغناطيسات في مناطق متنوعة بحلول عام 2030
لكن هذه التوقعات مبنية على تقدير أن المشروعات والشراكات التي تقودها الولايات المتحدة حالياً ستكون جاهزة في موعدها المحدد، وهو أمر غير واقعي نظراً للسنوات الطويلة والتحديات التي قد تقابل تطوير المناجم، والقاعدة الصناعية اللازمة للمعالجة، وكلفة تطوير نظام تكنولوجيا ومعدات متطور خارج الصين، وتدريب العمالة الماهرة. إلى جانب ذلك، لم تأخذ بيانات الوكالة جميع تقسيمات المعادن النادرة، خصوصاً المعادن النادرة الثقيلة (يتوقع أن تستمر الصين بالتحكم في 91% من إنتاجها بحلول 2030) في الحسبان، وركزت على أربع فئات فقط. ويجعل ذلك عدة توقعات مستقبلية تبرز بشكل خاص:
أولاً، سيصبح تحرُّر سلاسل التوريد من الاعتماد على الصين غير مرجح في المديين القريب والمتوسط، خصوصاً إذا تم الاعتماد على قوى السوق بمفردها.
ثانياً، يضمن نفوذ الصين الهائل على المعايير والقواعد والتسعير والتعدين في الخارج استمرار هيمنتها في سلسلة التوريد حتى لو سعت الدول الغربية لتنويع مصادرها أو عقد شراكات مع بلدان أخرى، مثل دول الخليج. والسبب في ذلك استمرار خضوع الشركات الجديدة للقواعد الصينية وقوة السوق المشكّلة وفقاً لهذه المبادئ والممارسات. وقد تواجه الشركات العالمية، وخاصة في مجال الرقائق الإلكترونية والمركبات الكهربائية والدفاع، تكاليف أعلى مع تكيفها مع الأنظمة الموازية.
ثالثاً، أظهرت القيود الصينية المفروضة في أبريل وأكتوبر 2025 للرد على حرب ترمب التجارية أن الصين باتت تمتلك أداة جيوسياسية قد تلجأ إليها مستقبلاً في مواجهة أي خلافات تجارية أو نزاعات حدودية أو صراع مسلح أو أزمة في مضيق تايوان. يمنح ذلك بيجين القدرة مستقبلاً على تشكيل الديناميات الجيوسياسية العالمية، وهو ما يرفع مستوى التهديد للأمن الاقتصادي للعديد من دول العالم، بما فيها دول الشرق الأوسط. إلى جانب ذلك، على المدى الطويل، ستُحدد الهيمنة الصينية سرعة وتيرة التحوُّل الطاقي من طريق نفوذها المتزايد على تكنولوجيا الطاقة النظيفة والمركبات الكهربائية والتصنيع المستدام، وهو ما يرفع بالتبعية من نفوذها في قطاع الطاقة العالمي.
خلاصة واستنتاجات
عكست الإجراءات الانتقامية ضد حرب ترمب التجارية استعداد وسعي الصين للتصعيد عبر الاعتماد على هيمنة عميقة وواسعة على سلاسل توريد المعادن الحرجة والنادرة. يعني ذلك أن العالم مقبل على حرب باردة طويلة المدى حول تحصين أمن الدول الاقتصادي وصناعاتها الدفاعية وقدرتها على توسيع نفوذها الجيوسياسي. وبات واضحاً استعداد كلّ من واشنطن وبيجين للإسراع باتجاه “الانفصال” في سلاسل التوريد وتحمل كُلَفه، استناداً إلى اعتبار الجانبين المعادن الحرجة والنادرة مكوناً أساسياً في معادلة أمنهما القومي.
ويضع ذلك دول المنطقة، لاسيما بلدان مجلس التعاون الخليجي، الساعية للتحوُّل إلى لاعب عالمي أمام تحدياتٍ كبرى بالنظر لصعوبة فك الهيمنة الصينية على سلاسل التوريد في المديين القصير والمتوسط. لكنها أيضاً قد تكون أمام فرصة كبرى بالنظر إلى الاتجاهات المبكرة في الغرب لتعميق الشراكات مع دول الخليج واعتبارها شريكاً موثوقاً في هذا السباق. وتكمُن الفرصة الأهم في أن نموذج الاقتصاد السياسي الخليجي مشابه للنموذج الصيني، خصوصاً فيما يتعلق بمركزية المؤسسات والشركات الحكومية في قيادة تنفيذ أجندة التنمية الاقتصادية، وهو ما يمنح الشركات الخليجية مرونة وسرعة في اتخاذ قرارات الاستثمار وتخصيص الأموال، إلى جانب البيئة التشريعية والتنظيمية المرنة التي تتمتع بها دول المنطقة.