مقدمة:
لم يمض عقد من الزمن على تسليم الجيش في ميانمار السلطة جزئيًا إلى الأحزاب السياسية عام 2011؛ حتى أعلن قائد الجيش مين أونغ هلاينغ انقلابه على الحزب الحاكم وسيطرته على مقاليد الحكم في الأول من شباط/فبراير- 2021، جراء خسارة حزب “التضامن والتنمية الاتحادي” المدعوم من العسكر أمام حزب “الرابطة الوطنية للديمقراطية” الحاكم بقيادة المستشارة أون سان سو تشي في الانتخابات البرلمانية التي جرت في شهر تشرين الثاني/نوفمبر- 2020، ليؤكد هذا المشهد شكليّة تسليم الجيش للسلطة، ورغبته الكامنة في البقاء المستمر في قلب المشهد السياسي.
أسباب الانقلاب وتداعياته:
بعد فوز حزب المستشارة سو تشي خلال الانتخابات الأخيرة، وحصوله على غالبية مقاعد مجلسي النواب والشيوخ بواقع 396 مقعدًا من أصل 476، أي بنسبة 83 % من المقاعد[1]، وهي نسبة تمكنه من تغيير مسائل دستورية؛ شعر جنرالات الجيش بسعي الحزب الحاكم إلى تجريد المؤسسة العسكرية من بعض سلطاتها التي لا تزال مترسخة في البلاد بموجب دستور عام 2008[2]؛ الذي منح الجيش سلطات واسعة بإقرار سيطرته على أهم الوزارات، ومن بينها: الدفاع، والشؤون الداخلية، وشؤون الحدود، إضافة إلى 25% من مقاعد البرلمان[3]، ما دفع قائد الجيش مين أونغ هلاينغ إلى التشكيك بنزاهة الانتخابات والتهديد بإلغاء الدستور[4].
قبل ساعات من انعقاد الجلسة الافتتاحية للبرلمان الجديد، استولى الجيش على السلطة في انقلاب عسكري متذرعًا بدعوى “حصول عملية تزوير في الانتخابات”، مستغلًا وجود بند في الدستور يعطيه الصلاحية للسيطرة على الحكم عند أي نشاط من شأنه “تهديد سيادة الدولة”[5]؛ إذ شنت قواته حملة اعتقالات واسعة طالت كبار قادة الدولة، ومن بينهم رئيس البلاد وين مينت، وزعيمة حزب “الرابطة الوطنية للديمقراطية” ومستشارة الدولة أونغ سان سو تشي – وهو منصب يوازي مرتبة رئيس الوزراء – مع أكثر من 400 شخص آخرين[6]، بما في ذلك أعضاءٌ في الحكومة المنتخبة مؤخرًا وسياسيون وناشطون وحقوقيون ومدنيون رافضون للانقلاب، كما وُجهت اتهامات أخرى للمستشارة سو تشي بـ” انتهاك قانون إدارة الكوارث الطبيعية واستيراد أجهزة اتصال لاسلكية غير قانونية”[7]، كذلك وجهت عدة اتهامات للرئيس وين مينت، من بينها انتهاك قواعد حظر التجمعات أثناء وباء كوفيد-19[8].
ويأتي الانقلاب بعد سنواتٍ من صراع سلطاتٍ بين حكومة سو تشي والجيش، حيث ادعى الأخير أن هدف الانقلاب “إجراء انتخابات جديدة، وتسليم السلطة للحزب الفائز”[9]، دون تحديد موعد إجرائها، وأعلن حالة الطوارئ في البلاد لمدة عام، وأبطل نتائج انتخابات 2020[10]، كما عيّن جنرالات في مناصب قيادية، من بينهم الجنرال السابق ميينت سوي رئيسًا بالوكالة لمدة عام – وهو منصب فخري -، وأصبحت السلطات “التشريعية والإدارية والقضائية” بيد قائد الجيش مين أونغ هلاينغ، الذي يقف وراء حملة التطهير العرقي الدامية ضد مسلمي الروهينغا[11].
وعقب الانقلاب عمت احتجاجات ومظاهرات في مدن كبرى بميانمار، رفضًا لاستيلاء الجيش على السلطة، وللمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، في حين أعلن موظفون حكوميون إضرابًا عامًا في إطار حركة عصيان مدني، ورد الجيش من جانبه على تلك المطالب باستخدام خراطيم المياه وإطلاق الرصاص المطاطي والذخيرة الحية على المتظاهرين؛ ما أوقع قتيلًا وعددًا من الجرحى[12]، كما نشر عربات مصفحة وجنودًا في شوارع العاصمة التجارية يانجون وفي ميتكيينا وسيتوي ومدن أخرى، إضافة لقطع خدمات الإنترنت والهواتف المحمولة، وحجب خدمات فيسبوك وتويتر وإنستغرام في البلاد حتى “إشعار آخر”[13]، وتهديده بسجن المتظاهرين الرافضين للانقلاب لفترة تصل إلى 20 عامًا؛ ما أثار مخاوف لدى محتجين من شن عمليات تفتيش واحتجاز تعسفي، فيما حث 300 عضو في البرلمان الأمم المتحدة على التحقيق بـ”انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ارتكبها الجيش؛ من اعتقالات غير قانونية، وإطلاق نار على متظاهرين”[14].
الحراك الدولي بعد الانقلاب:
انقلاب العسكر على السلطة في ميانمار دفع الولايات المتحدة الأمريكية لمطالبة الجيش بـ”إعادة السلطة على الفور إلى الحكومة المنتخبة، وإنهاء حالة الطوارئ، والإفراج عن جميع المحتجزين، وضمان عدم مواجهة المتظاهرين السلميين بالعنف”[15]، وفرضت واشنطن عقوبات على رئيس ميانمار بالإنابة، وقائد الجيش مين أونغ هلاينغ، الخاضع أصلًا لعقوبات أمريكية على خلفية قمع أقلية الروهينغا المسلمة منذ كانون الأول/ ديسمبر- 2019[16]، وجنرالات آخرين، شملت تجميد كل أصول مالية أو تعاملات لهم في أمريكا، إضافة إلى ثلاث شركات يملكها الجيش أو يسيطر عليها، وتعمل في قطاع الأحجار الكريمة[17]، وهددت واشنطن بفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية في حال استخدام الجيش العنف ضد المحتجين السلميين.
كذلك فرضت بريطانيا عقوبات على ثلاثة جنرالات بارزين في جيش ميانمار، وهم: وزير الدفاع ميا تون أو، ووزير الداخلية سو هتوت، ونائب وزير الشؤون الداخلية ثان هلينغ[18]؛ وشملت تجميدًا فوريًا للأصول وحظرًا للسفر، واتهمتهم بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان.
كما هدد الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على المؤسسة العسكرية، ودعا لإلغاء فوري لحالة الطوارئ، واستعادة الحكومة المنتخبة للسلطة، واصفًا أعمال الجيش بأنها “غير قانونية”[19]، فيما تعهد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بحشد ضغط دولي “لضمان فشل هذا الانقلاب”[20]، في حين توعد مقرر الأمم المتحدة الخاص لميانمار توم أندروز، بمحاسبة قادة المجلس العسكري على أعمال العنف[21]، محذرًا من “احتمالية وقوع مذبحة في ميانمار، وأن البلاد قد تشهد كارثة”[22].
كما ازداد القلق الدولي بعد انقلاب ميانمار على مصير أقلية الروهينغا المسلمة التي تعرضت للإبادة والتهجير والاغتصاب طوال السنوات الأربع الماضية على يد الجيش وبمباركة من سان سوتشي الحاصلة على عدة جوائز دولية؛ من بينها “نوبل للسلام”، حيث رفضت مسبقًا وصف ما يجري ضد المسلمين بالإبادة أو التطهير العرقي، وادّعت أن “المسلمين هناك يقتلون مسلمين آخرين إذا اعتقدوا أنهم يتعاونون مع السلطات” دون توجيه أي إدانة أو انتقاد للجيش[23]؛ ما دفع العديد من منظمات حقوق الإنسان إلى سحب جوائز منها[24]، كما لم يشفع لها دفاعها عن جرائم الجنرالات ضد الروهينغا عند الجيش الذي انقلب عليها بعد أن فقد مزيدًا من أوراقه في السلطة بعد الانتخابات البرلمانية.
وتعبيرًا عن زيادة المخاوف الدولية على مستقبل الأقلية المسلمة في ميانمار في ظل الأحداث الحالية، قال متحدث باسم الأمم المتحدة: “إن المنظمة الدولية تخشى أن يُفاقم انقلاب ميانمار أزمة نحو 600 ألف من الروهينغا المسلمين الذين ما يزالون في البلاد”[25]. ويأتي ذلك في وقتٍ حجب فيه الجيش مواقع التواصل الاجتماعي عن معظم الشعب البورمي؛ فكيف بالأقلية التي تعاني أصلا منذ سنوات من تنكيل وعنف أسفر عن مقتل الآلاف وتشريد أكثر من نصف مليون، مع حالة إنكار لحقيقة ما يجري من جرائم ترتقي إلى التطهير العرقي؟[26].
هل هناك دول مستفيدة من الانقلاب؟
تتميز ميانمار- وتُعرف أيضًا باسم بورما – بموقع جيوسياسي مهم بشكل محوري في جنوب شرق آسيا؛ إذ يحدّها من الجهة الشماليّة الغربيّة بنغلادش والهند، ومن الجهة الشماليّة الشرقيّة الصين، ومن الجهة الشرقيّة والجنوبية الشرقيّة لاوس وتايلاند، أمّا من الجهة الجنوبيّة والجنوبيّة الغربيّة فيحدها بحر أنداما وخليج البنغال، وتتميز بوفرة مواردها الطبيعية.
موقعها الاستراتيجي دفع بدول كبرى وإقليمية لتوطيد العلاقات معها، حيث كشفت صحيفة The Tımes البريطانية، أن روسيا عززت علاقاتها مع ميانمار خلال السنوات الأخيرة؛ بهدف إيجاد موطئ قدم لها في آسيا وفي سواحل المحيط الهندي، كما كشفت الصحيفة أن قائد الجيش مين أونغ هلاينغ، “لم يشارك خطط الانقلاب فقط” مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، بل “حصل على موافقته” أيضًا[27]، خلال زيارة أجراها الأخير إلى ميانمار أواخر شهر كانون الثاني/يناير- 2021؛ أي قبل أيام من الانقلاب، لإبرام صفقة بيع أسلحة روسية للجيش البورمي.
كذلك للصين مصالح جيواستراتيجية كبيرة في ميانمار، وتسعى أيضًا للوصول إلى المياه الدافئة في المحيط الهندي[28]، حيث هناك شكوكٌ حول علم بكين بالانقلاب، برغم نفي الأخيرة ذلك[29]، إذ قالت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية: “قد يكون اللاعب الأكثر أهمية هو الصين فيما يحدث الآن”. وأضافت قوله: “ربما كان الاجتماع الذي عُقِدَ الشهر الماضي بين كبير الدبلوماسيين الصينيين وانغ يي وقائد الجيش مين أونغ هلاينغ هو النقطة المحورية في تحديد الانقلاب”[30]. واعتبرت أنه “قد تكون الطريقة التي تتعامل بها كل من بكين وواشنطن مع الأزمة علامة مهمة للعلاقة بينهما”[31].
خاتمة:
على ضوء ذلك، فإن الانقلاب في ميانمار لم يكن مستغربًا؛ لأن الجيش لا يُريد الابتعاد عن السلطة، ولا حتى تقليل نفوذه فيها كما أفرزت الانتخابات البرلمانية الأخيرة؛ خاصةً مع وجود إطارٍ دستوريٍ يمنحه الصلاحية للاستيلاء على الحكم، ما يعني أن قادة الجيش وضعوا في الحسبان مسبقًا إمكانية حصول مثل هذا المشهد الذي عصف بهم في الانتخابات.
وفي حين أبدت معظم الدول الغربية رفضها لما يجري، وهددت بفرض عقوبات، فعلى المدى المنظور لا يبدو أن ذلك سيكون مؤثرًا بشكل كبير على قادة الانقلاب للتراجع عن الخطوات التي أقدموا عليها؛ خاصة مع وجود دول حليفة للجيش تمتلك حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن؛ مثل روسيا والصين اللتين سبق أن أعاقتا اتخاذ أي إجراء ضد ميانمار بعد حملتها العسكرية ضد الروهينغا المسلمين في السنوات الماضية.
وفي ذات الوقت يدرك الغرب أن زيادة التلويح بعصا العقوبات على ميانمار ستدفع بالجيش إلى الارتماء تمامًا بالحضن الروسي والصيني؛ ما سيؤدي إلى خسارة نفوذه الجيوسياسي هناك، ويُنذر باحتمال تهدئة الموقف في الفترة المقبلة والقبول التدريجي بقادة الانقلاب سلطةَ أمر واقع.
العربي الجديد، ما تحتاجون إلى معرفته عن انقلاب ميانمار ومستقبل الأزمة
ساسة بوست، «فورين بوليسي»: هل تدعم الصين انقلاب ميانمار؟
الشرق الأوسط، لماذا استولى الجيش على السلطة في ميانمار؟
الأناضول، ميانمار.. انقلاب عسكري يطيح بالديمقراطية وحقوق الروهنغيا
الأناضول، منظمة حقوقية: دستور ميانمار يشجع على الانقلابات
الحرة، “ستحاسبون”.. الأمم المتحدة تحذر قادة المجلس العسكري في ميانمار
بي بي سي عربي، انقلاب ميانمار: الشرطة تتهم أونغ سان سو تشي بخرق قوانين الاستيراد وحيازة أجهزة غير قانونية
[8] نفس المصدر السابق
اندبندنت عربي، جيش ميانمار ينفي “الانقلاب” على الحكومة والاحتجاجات متواصلة
ميانمار…المجلس العسكري يلغي نتائج انتخابات 2020
الشرق الأوسط، مُدرَج على القائمة السوداء الأميركية… من هو قائد الانقلاب في ميانمار؟
بي بي سي عربي، انقلاب ميانمار: وفاة أول متظاهرة في المواجهات مع الجيش
عربي 21، بعد فيسبوك.. حكام ميانمار العسكر يحجبون تويتر وإنستغرام
سي إن إن عربي، انقلاب ميانمار.. شاهد مظاهرة ليلية حاشدة ضد الاعتقالات العسكرية للمدنيين
البيت الأبيض، بيان المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي حول بورما
رويترز، أمريكا تدرج قائد جيش ميانمار على قائمة سوداء لمزاعم عن انتهاكات ضد الروهينجا
رويترز، الولايات المتحدة تفرض عقوبات على ميانمار ردا على الانقلاب العسكري
انقلاب ميانمار: بريطانيا تفرض عقوبات على قادة في جيش ميانمار
روسيا اليوم، الاتحاد الأوروبي يهدد بفرض عقوبات على العسكريين في ميانمار
واشنطن تعتبر التصدي للانقلاب في ميانمار “أولوية”.. وغوتيريش يتعهد بحشد الضغط الدولي لإنهائه
تغريدة للمقرر الأمم المتحدة الخاص لميانمار، توم أندروز
سي إن إن عربي، ميانمار على حافة الهاوية.. المتظاهرون يتمسكون بمواجهة الانقلاب العسكري ومخاوف من مذبحة
فرانس 24، بورما: رئيسة الحكومة تنفي الاتهامات بتعرض أقلية الروهينغا المسلمة للتطهير العرقي
من هي سو تشي التي نفذ جيش ميانمار ضدها انقلابا عسكريا؟
[25] https://reut.rs/37tDclF
رويترز، الأمم المتحدة تخشى على الروهينغا بعد انقلاب ميانمار ومجلس الأمن يجتمع يوم الثلاثاء
[26] https://bit.ly/3sd4JQp
الجزيرة، الذكرى الثالثة لحملة تهجير الروهينغيا.. ما أحوال المسجونين في وطنهم والملاحقين خارجه؟
عربي بوست، التايمز: وزير الدفاع الروسي التقى الجنرال الذي أطاح بحكومة ميانمار قبل الانقلاب بأيام
سي إن إن عربي، اختبار مبكّر لرئاسة بايدن.. كيف سيتعامل مع الصين بعد انقلاب ميانمار ودورها هناك؟
سبوتنيك، صحيفة: الصين ترفض التلميح إلى دعمها أو موافقتها الضمنية على “انقلاب ميانمار”
مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، هل تدعم بكين انقلاب ميانمار؟
[31] نفس المصدر السابق
رابط المصدر: