- الرسائل الموجهة من قبل الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان، إلى المجتمعات العربية والعالميّة، تبعث على التفاؤل، لكنْ المقاربة الواقعية تُوجِب وضع هذه الرسائل في سياقها الطبيعي، واستدراك شروط نجاحها الواقعيّة، لكي يكون الحوار المفترض مع إيران مُنتِجاً لواقع مُغاير، يضمن مصالح جميع الأطراف.
- من أجل بدء حوار ناجح بين إيران والعرب، ينبغي طي صفحة طُغيان ظاهرة الميليشيات التي تُعيق أيّ تقدُّمٍ في العلاقات الإقليمية، والتعاون الاقتصادي بين دول المنطقة. وسيتعيّن على بزشكيان التأكد من تحييد المؤسسات دون مستوى الدولة، وضمان عدم تأثيرها على إرادة السلم، والتنمية الإقليمية.
- بإمكان إيران، في حال توفرت الظروف المناسبة، الاستفادة من الاستثمارات والرؤى التنموية الخليجية، والخبرات التجارية والاقتصادية المُتقدِّمة في الخليج، لانتشال اقتصادها من أزمته العميقة، وتحقيق معدلات النموّ المنشودة، ومعالجة الفجوة الشاسعة بين الطلب والإنتاج.
كانت بادرة لافتة من الرئيس الإيراني المنتخب، مسعود بزشكيان، أن يُخاطِبَ العالم العربي في مقال نشره أحد المواقع الإخبارية العربية. ويبدو أنها لم تكن البادرة الوحيدة؛ إذْ شرح بزشكيان الخطوط العامة لرؤيته حول العلاقات مع الغرب في مقال آخر بالإنكليزية، نشرته صحيفة إيرانية قريبة من دوائر السلطة في طهران. ويُشيرُ هذا التمهيد لعهد بزشكيان إلى رغبته بالانفتاح، وإحداث انفراجة في علاقات إيران الخارجية.
تعكس الرسائل التي وجهها الرئيس الإيراني الجديد في مقالته المنشورة باللغة العربية، نوايا إيرانية طيبة بالانفتاح على الجيران العرب الذين مرّت العلاقات معهم بمنعرجات صعبة خلال الأعوام الماضية. وينبغي التعامل بتفاؤل مع رسائل بزشكيان، والتِقاط الإشارات التي تصدُر عن إيران هذه الأيام بعناية، لإعادة صياغة الواقع الإقليمي. لكنْ من منطلق هذا الواقع الصعب، يجب أيضاً التعامل معها بواقعية، بل وبواقعية مفرطة.
وتحدّث الرئيس بزشكيان في رسالته إلى العرب، وهو محقّ، عن ضرورة التعاون، والتضامن بين دول المنطقة التي يجمعها مصيرٌ مشترك. وذلك استناداً إلى مبادئ أخلاقية، ودينية، ومشتركات ثقافيّة راسخة. وهي دعوة أكثر من جيدة، كان قد نادى بها العرب من ذي قبل عدّة مرّات، لكنّها ما كانت كافية لصياغة حلول تُخرج المنطقة من دوامة التوتُّر. ربما لأنها دعوة لا تأخذ بالحسبان خصوصيّة النظام السياسي في إيران؛ فالحوار المفترض الذي يدعو إليه الجميع، يجب أن يجري بين أجهزة رسمية، يطلق عليها اسم “مؤسسة الدولة” التي ينبغي أن تحمل سيادة لا تعلوها سيادة أخرى. والمشكلة في الحوار مع إيران، هو عدم اليقين من أنّ الحكومة تحمل تفويضاً يخولها التفاوض على جميع الملفات الخلافيّة.
وتشير الوقائع إلى أن مؤسسات أخرى في إيران، غير مؤسسة الحكومة/الدولة، تمتلك زمام المبادرة في معظم الملفات الخلافية التي ينبغي طرحها على الطاولة، وسيكون الحوار مع حكومة لا تمتلك الصلاحيات اللازمة حواراً مبتوراً، ومحكوماً بالفشل. ولذلك فإنّ الرئيس بزشكيان مطالبٌ بأنْ يُظهِر للشركاء العرب أنّ حكومته، ومؤسسة الدولة في إيران، تمتلك مثل هذه الصلاحيات. وأنّ مخرجات الحوار معها، والقرارات الناجمة عنه، ستكون مُلزِمة لجميع المؤسسات داخل إيران، بمن فيها المؤسسات الثورية التي أظهرت من ذي قبل، أنها لا تجد نفسها مُلزَمة بالاتفاقيات التي تبرمها الحكومة/الدولة مع الأطراف الدولية. وربما يتعيّن على الرئيس بزشكيان، أوّلاً، أن يبذل جهده لإقناع المؤسسة السياسية في إيران بأن تضع الصلاحيّات جميعها حول الملفات السياديّة بيد الحكومة، وأنْ تُظهِر أنّ الجميع داخل إيران ملتزمٌ بمخرجات أيّ حوارٍ تتوصّل إليه الحكومة مع الأطراف الخارجيّة.
مفتاح الخروج من دوامة الاضطراب، والعُنف في المنطقة، هو تغيير منطق التعامل الإقليمي، والمُنافسة الإقليميّة، من محوريّة وأولويّة الهواجس والعوامل الجيوسياسية التي سادت في العقدين الماضيين، إلى محورية وأولوية الهواجس الجيواقتصادية المنشودة للعقدين المقبلين
ومن أجل بدء حوار ناجح بين إيران والعرب، ينبغي طي صفحة طُغيان ظاهرة الميليشيات التي تُعيق أيّ تقدُّمٍ في العلاقات الإقليمية، والتعاون الاقتصادي بين دول المنطقة. ولا شكّ أنّ إيران على رأس الأطراف المطالَبة بفعل شيء كهذا؛ فهي الطرف الإقليمي الرئيس الداعم لهذه الميليشيات، والذي يُسيِّرُ أهدافه الإقليمية عبرها، بدلاً من تطوير علاقات تعاون إقليمية ناجزة مع الدول.
وبينما يؤكد الرئيس الإيراني على التنمية الاقتصادية الإقليمية، مُعلِناً استعداد بلاده للمشاركة في مشاريع التنمية، وإشراك الدول في الممرّات التجارية التي تمرّ من داخل أراضي إيران، سيتعيّن على الرئيس الإيراني، وعلى كل الأطراف الإقليمية الأخرى، التأكد من تحييد المؤسسات دون مستوى الدولة، وضمان عدم تأثير تلك التنظيمات والميليشيات على إرادة السلم، والتنمية الإقليمية. والحقيقة أنها دعوة مباركة لو التزمت بها جميع الأطراف؛ إذْ إنّ مفتاح الخروج من دوامة الاضطراب، والعُنف في المنطقة، هو تغيير منطق التعامل الإقليمي، والمُنافسة الإقليميّة، من محوريّة وأولويّة الهواجس والعوامل الجيوسياسية التي سادت في العقدين الماضيين، إلى محورية وأولوية الهواجس الجيواقتصادية المنشودة للعقدين المقبلين، حيث يظهر أفق معظم الخطط التنموية الإقليمية.
ويستعدُّ العالم لمغادرة مركزية الصراعات الجيوسياسية؛ وليست حروب أوكرانيا، وغزة، سوى ارتدادات لعصر قديم في طور التلاشي. ولا مناصَ من التحوّل نحو العصر الجيواقتصادي الذي يُتَوقَّعُ أنْ تنخفض فيه المنافسة الجيوسياسية، والصراعات العسكرية استناداً إلى تشابُك المصالح الاقتصادية العالمية، وتزايُد الاعتماد المتبادل.
ويُمكنُ أنْ تستفيد إيران من الاستثمارات الخليجية، والرؤى التنموية الخليجية، والخبرات التجارية والاقتصادية المُتقدِّمة في الخليج، لانتشال اقتصادها من أزمته العميقة، وتحقيق معدلات النموّ المنشودة، ومعالجة الفجوة الشاسعة بين الطلب والإنتاج. كما يمكنُ لدول الخليج الاستفادة من السوق الإيرانية الواسعة، والخبرات البشرية الهائلة، والثروات الطبيعية الضخمة، عبر اتفاقيّات التعاون المُشترك، ناهيك باستثمار مصادر الثروات البينيّة، والمشتركة. لكنْ من أجل تحقيق هذا الحلم، يتعيّن على الجانب الإيراني القيام بعدة خطوات بسيطة، من ضمنها:
- الالتزام بالقواعد الماليّة العالميّة، وفضّ الخلافات الرئيسة مع المجتمع الدولي.
- الكف عن “عسكرة الاقتصاد”، أو النظر إلى المشاريع الاقتصادية بوصفها مخططات أمنية، يُراد منها التآمر على الأمن الإيراني.
- ضمان أمن الاستثمار في السوق الإيرانية من تقلبات السياسة والاقتصاد الداخلية، والتحرُّر من هيمنة الهواجس الأمنية.
لقد غابت إيران على مدار العقد الماضي عن مشاريع الممرات الدولية المتنامية، وما كان ذلك بسبب مؤامرة حيكت لعزلها، وخنقها، كما يتصوّر بعض قادتها، وإنما كان بسبب عدم توافر هذه الشروط البسيطة، المشار إليها أعلاه، والتي تعني “سلوك الدولة الطبيعية” الذي يتوقعه الشركاء من أية دولة، بما فيها إيران. ولو سلكت إيران هذا المسلك البنّاء، لرأت رؤوس الأموال من الخليج، ومن مختلف قارات العالم، تلجُ إلى الأسواق الإيرانية التي تُشكِّل مناخاً ملائماً للغاية لتحقيق مستويات نمو، وأرباحّ لكل الأطراف. أما ما دون ذلك، فإن الأمر سيبقى مجرد حلم آخر يضاف إلى قائمة الأحلام.
اقرأ المزيد من تحليلات «د. ابتسام الكتبي»: |
ويتحدّث الرئيس الإيراني في مقالته/رسالته عن ضرورة اعتماد مُبادرات تهدف إلى التعاضُد الإقليمي، وإنهاء تدخُّل القوى العظمى. والحقيقة أنّ العقل السليم لا يجدُ بدّاً من موافقة الدعوة إلى أيّ مبادرة للتعاون، والتضامن الإقليمي. لكنّ مثل هذه المبادرة ينبغي أنْ تُراعي بعض الشروط الأساسية، لتكون تمهيداً لتنمية اقتصادية إقليمية متكاملة، ومنها:
- أن تكون شاملة؛ بمعنى أن تطرح جميع الملفات الخلافية على طاولة الحوار، بهدف إيجاد حلول يستفيدُ منها الجميع، وفق منطق رابح-رابح.
- أن تجمع كل الأطراف الإقليمية على طاولة حوار واحدة؛ لأنّ التجربة تظهر أن الاتفاقيات البينيّة، والثنائية التي تُفضِّلُها إيران، ستكون هشّة، خاصّة في مناخٍ مضطرب، ومليء بالشكّ كالذي تعيشه المنطقة حالياً.
- أن تكون محليّة، نابعة عن قناعة الأطراف الإقليميّة، تماماً كما ذكر الرئيس الإيراني؛ إذْ إنّ أيّة مبادرات تطرحها القوى العالميّة، ستجعل المنطقة عُرضةً لمزيد من الاستقطاب الدولي، وتضارُب مشاريع الهيمنة. ولا مانع أن تكون مخرجات الحوار مضمونة من جانب القوى العظمى، و/أو المؤسسات الدولية.
- أنْ تراعي “مبدأ حوار الأنداد” الذي يعني أنّ الجميع متساوون على طاولة الحوار، وألا يدّعي أيّ طرف امتلاك مرتبة أعلى، لا في النظام الدولي، ولا في المنظومة الإقليمية.
إنها مبادئ بسيطة، لكنّها ضروريّة حتّى تستقيم معها دعوة الرئيس الإيراني للحوار. وحتّى يمكن الخروج من هذا الحوار بتعاون إقليمي بنّاء، وتنمية يتشارك فيها الجميع، ويستفيد منها الجميع. وهي مبادئ تعيدُ المنطقة إلى الحالة الطبيعية، وتعيدُ إلى مؤسسة الدولة مكانتها، في منطقة شهدت أعواماً من انخفاض سيادة الدولة، وتزايُد هيمنة الميليشيات والفاعلين من دون الدول؛ كما تُمهِّد لخروج المنطقة من العصر الجيوسياسي المُتقادِم إلى العصر الجيواقتصادي القادِم.
ولا شك أن الرسالة الموجهة من قبل بزشكيان إلى المجتمعات العربية والعالميّة تبعث على التفاؤل لكنْ من منطلق المقاربة الواقعية، ينبغي وضع هذه الدعوة في سياقها الطبيعي، واستدراك شروط نجاحها الواقعيّة، لكي يكون الحوار المفترض مع إيران مُنتِجاً لواقع مُغاير؛ واقعٌ يوفر الخير لجميع الأطراف، ويغلق أبواب الحروب والتوتُّرات الإقليمية، ويضمن حضور المنطقة في مشاريع التنمية العالمية المقبلة.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/brief/rasayil-pezeshkian-ila-alarab-nawaya-aliainfitah-altayeba-wahdaha-la-takfi