- ثبّتت زيارة الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع لواشنطن شرعيته على الصعيد الدولي، ورعاية إدارة ترمب له، ورغبتها في منح سورية فرص النجاح لتجنُّب حرب أهلية مع الإمساك بتوازنات المسائل السورية الشائكة.
- حقَّق الشرع من الزيارة مكاسب مباشرة وملموسة، أهمها تعليق قانون قيصر تمهيداً لإلغائه، مقابل الانضمام السياسي لدمشق إلى التحالف الدولي ضد “داعش” وعقد اتفاق أمني مع إسرائيل في إطار صفقة أوسع نحو الاتفاقيات الإبراهيمية.
- على رغم المكاسب الدبلوماسية والاقتصادية المباشرة للزيارة، فإن دمشق لم تتمكن من قطف كامل ثمار هذه الزيارة بعد؛ فإلى الآن لم تأتِ “قسد” إلى طاولة المفاوضات لتطبيق ما تم الاتفاق عليه في البيت الأبيض، كما لا تزال العديد من التعقيدات تواجه خريطة الطريق الخاصة بالسويداء. أما الاتفاق الأمني مع إسرائيل فيصطدم بإصرار نتنياهو على موقفه بإقامة منطقة منزوعة السلاح من دمشق حتى الحدود في جبل الشيخ.
أتت زيارة الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع إلى العاصمة الأمريكية واشنطن ولقائه الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في 10 نوفمبر 2025، بمنزلة خطوة جديدة نحو تثبيت سلطته على الصعيد الدولي، وبخاصة أنها تلت قرار مجلس الأمن الدولي برفعه عن قائمة العقوبات بناءً على طلب أمريكي. والزيارة التي توجت بإعلان نوايا من قبل الإدارة السورية بانضمامها إلى التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”، شهدت اجتماعاً سورياً-تركياً-أمريكياً رفيع المستوى لوضع اللمسات الأخيرة على سبل التعامل مع قوات سورية الديمقراطية (قسد)، وحل مسألة السويداء، جنباً إلى جنب مع تطويق حزب الله اللبناني، وملف الجنوب السوري، بما فيه مصير الاتفاق الأمني مع إسرائيل. وسعى الشرع في خلال الزيارة إلى دفع الجهود لإنهاء قانون قيصر الذي يشكل عقبة كأداء أمام تعافي سورية وإطلاق عملية إعادة إعمار البلاد.
تستعرض الورقة المكاسب التي حققها الشرع عقب زيارته إلى واشنطن، وتتناول انعكاسات مباحثاته هناك على العلاقة المعقدة بين إدارته و”قسد”، وتبحث تأثير الزيارة على ميزان القوى بين الشرع والدروز، قبل أن تختتم بالتطرق إلى الانزعاج الإسرائيلي من هذه الخطوة.
مكاسب الشرع المباشرة من زيارته لواشنطن
استقبل الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الشرع في البيت الأبيض يوم 10 نوفمبر، في أول زيارة من نوعها لرئيس سوري [للولايات المتحدة] منذ استقلال البلاد. وعكس الاستقبال استمرار جهود إدارة ترمب لملء الفراغ الذي أحدثه انهيار نظام الأسد وانحسار النفوذين الإيراني والروسي في دمشق، عبر مقاربتها التعاونية حيال سورية، ومنحها “كل فرصة ممكنة للنجاح، حتى لا يكون البديل الحرب الأهلية”، وفي الوقت نفسه سعي الولايات المتحدة للإمساك بتوازنات المسائل الشائكة في سورية، كيلا تتطور في اتجاه معاكس للمصالح الأمريكية. وفي المقابل، رأت الإدارة السورية في لقاء البيت الأبيض دعماً أمريكياً لـ “شرعيتها“، وأن إدارة ترمب تَعدّ الإدارة السورية الجديدة “شريكاً أساسياً” في ضمان “الاستقرار الإقليمي” وإدارة “التحولات الخطيرة” في فترة ما بعد السابع من أكتوبر.
حصل الشرع في خلال زيارته على مكاسب مباشرة بسيطة، مثل قرار وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو تعليق قانون قيصر لستة أشهر، وتوضيح وزارات الخارجية والتجارة والخزانة الأمريكية للإعفاءات من العقوبات وقيد التصدير والأنشطة المسموحة وغير المسموحة مع سورية. كما سلّم روبيو نظيره السوري أسعد الشيباني قراراً برفع القيود المفروضة على البعثة الدبلوماسية والسفارة السورية في واشنطن، مما يمكّنها من استئناف نشاطها كاملاً. واستهدف القرار الأمريكي “تعزيز التنسيق في قضايا مكافحة الإرهاب والأمن والاقتصاد”، سيما أن الشرع وعلى هامش لقائه بترمب، أعلن انضمام بلاده إلى “التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش”، لتكون الدولة التسعين في هذا التحالف. لكن الإدارة السورية حرصت على تأكيد أنها انضمت إلى التحالف بشقه السياسي، ولم تنضم بعد إلى شقه العسكري المتمثل بـ “عملية العزم المتأصل”.
كما أبلغ الأمريكيون الشرع عزمهم “المساعدة” في التوصل إلى اتفاقية أمنية بين دمشق وتل أبيب، باعتبارها جزءاً، على ما يبدو، من صفقة أشمل لانضمام سورية إلى الاتفاقيات الإبراهيمية. وبعد أيام من زيارة الشرع، وصف ترمب الرئيس السوري بـ “داعية سلام”، وتعهَّد بـ “بذل كل ما في وسعه لإنجاح سورية“، فيما أوضح وزير خارجيته أن واشنطن تركز على دعم الاستقرار في سورية، وتوفير فرص النجاح للإدارة السورية “كيلا تنزلق البلاد إلى حرب أهلية شاملة”، لكنه حذّر من أن عدم انخراط الأقليات في الدولة سيقود إلى “الفشل المحتوم“، داعياً إلى تشكيل “حكومة تمثل كل عنصر من عناصر المجتمع السوري“. وأقرَّ المبعوث الأمريكي الخاص إلى سورية، توم براك، بأن زيارة الشرع ساهمت في تحويل سورية إلى “شريك أساسي” لبلاده.
حققت زيارةُ الشرع أهمَّ نتائجها في دفع الجهود نحو إنهاء قانون “قيصر” في الكونغرس الأمريكي، حيث ساهم لقاؤه برئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي، براين ماست، في تخفيف موقف الأخير المعارض لإنهاء العقوبات، وإن كان لا يزال يشترط صياغة تضمن إعادة فرضها إذا فشلت الإدارة السورية في الإيفاء بالتزاماتها. وذكر نشطاء أمريكيون من أصل سوري أن الصياغة التي طالب فيها ماست قد جرى تلبيتها من قبل الكونغرس، باعتبارها “شروطاً غير ملزمة” للإدارة الأمريكية. وأبلغ الشرع ممثلي المنظمات السورية في واشنطن أن “العقوبات في مراحلها الأخيرة”. وبينما يناقش الكونغرس إلغاء قوانين أخرى شكَّلت إطاراً تشريعياً للعقوبات المفروضة على دمشق، مثل قانون “محاسبة سورية واستعاد سيادة لبنان” لعام 2003، أصدر مجلس النواب الأمريكي في 20 نوفمبر قانوناً يطلب إلى الإدارة تقييم التهديدات الإرهابية المحتملة للولايات المتحدة، والتي قد تنشأ عن أفراد في سورية مرتبطين بمنظمات إرهابية أجنبية أو عالمية، الأمر الذي عكس استمرار القلق في الأوساط الأمريكية من حلفاء الشرع في تشكيلات “الجهاديين الأجانب”.
الانعكاسات على “قسد”
أتت أهم انعكاسات لقاءات واشنطن على وضع “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) في شمال شرقي سورية، نظراً لتعلُّق مصيرها بحالة العلاقات بين الولايات المتحدة وكلٍّ من سورية وتركيا. وقبل زيارة الشرع، كانت المحادثات بين “قسد” والإدارة السورية تمر بـ “مرحلة شديدة الحساسية“، مع اعتراض كبار القادة في “قسد” على استفراد الشرع بتشكيل ملامح المرحلة الانتقالية.
أعرب القائد العام لـ “قسد”، مظلوم عبدي، عن شكره للرئيس ترمب، على الرغم من شعور كبار مسؤولي قسد بـ “خيبة أمل” جراء دعوة الشرع إلى البيت الأبيض، وعدم توجيه دعوة مماثلة للقيادة الكردية. كما ارتابوا بمحادثات ترمب والشرع ووزير الخارجية التركي هاكان فيدان، والتي أسفرت عن اتفاق الأطراف الثلاثة على “تنفيذ” اتفاق العاشر من مارس. وقد تعهَّد عبدي للمبعوث الأمريكي إلى سورية توم براك، بتسريع عملية “اندماج قسد في مؤسسات الدولة السورية”، رداً على مطالبة الأخير لقسد بـ “خطوات عملية” في هذا المجال. وبدا أن براك يستعجل بدء الحوار بين الجانبين حول منابع النفط ووضع مؤسسات الدولة والمعابر ومطار القامشلي الدولي. لكن عبدي ظل على تحفّظه، وشدد على ضرورة العمل مع “الشركاء الدوليين” من أجل مستقبل آمن لـ “سورية الموحدة” في إشارة إلى الولايات المتحدة وفرنسا، من دون أن يأتي على ذكر الإدارة السورية. لكن الزيارة ما كانت كلها سلبية بالنسبة لـ “قسد”، إذ أشاد قادتها بانضمام سورية إلى التحالف الدولي ضد “داعش”، كما عَدّوا مشاركة فيدان في اجتماعات البيت الأبيض بمنزلة قبول تركي باتفاق 10 مارس، بعدما اعترضت عليه أنقرة لأشهر خلت.
وبالفعل، توقع فيدان، بعد أيام من لقاءات واشطن، أن تتطور المحادثات بين الإدارة السورية و”قسد”، فيما بدا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكثر ليونة، إذ أعرب عن استعداده لتقديم كل مساهمة ممكنة لضمان نجاح اتفاق العاشر من مارس. أتى هذا التغيير في النبرة التركية بعد أسابيع من الإنذار الذي وجهه أردوغان إلى “قسد” بضرورة “التنفيذ الفوري” لاتفاق العاشر من مارس، ومطالبتها من قبل فيدان بسحب قواتها من المناطق ذات الأغلبية العربية.
وكان من المفترض أن يشهد الربع الثالث من شهر نوفمبر، انعقاد لقاء موسع بين الإدارة الذاتية والإدارة السورية، إلا أنه لم يحصل حتى موعد كتابة هذه الورقة، بينما عقد قادة “قسد” والإدارة الذاتية اجتماعاً تمسكوا فيه بـ “الحوار الوطني”. وعوضاً عن ذلك، استقبل الشرع في 19 نوفمبر مانع حميدي الدهام الجربا، شيخ مشايخ قبيلة شمر، التي تشكل العمود الفقري لفصيل “قوات الصناديد”، إحدى تشكيلات “قسد“. ومراعاة للحساسيات، وضع الجربا عبدي يوم 22 نوفمبر، بصورة محادثاته مع الشرع. ومَثَّل التجاذب بين الشرع وعبدي على استقطاب الجربا، انعكاساً لتفاقم الصراع بين الإدارة السورية الانتقالية و”قسد” على مصير المناطق ذات الأغلبية العربية الواقعة إلى الشرق من نهر الفرات. لذلك، لم تكن مصادفة اندلاع اشتباكات بالتزامن مع وصول الجربا إلى دمشق للقاء الشرع، بين فصائل تنتمي إلى الجيش السوري الجديد و”قسد” في بادية معدان الواقعة شرقي محافظة الرقة ليل التاسع عشر من شهر نوفمبر، قبل أن تتوقف بعد التوصل إلى اتفاق بين الجانبين منح الشرع مكاسب ميدانية. لينتقل التوتر صباح يوم 23 نوفمبر، إلى خطوط التماس بين الجانبين في محافظة دير الزور.
وقبل لقاء ترمب بالشرع، بشَّرت وزارة الخارجية السورية، في 7 نوفمبر، بحصول “تحول” في الموقف الأمريكي نحو “التعامل المباشر مع الحكومة السورية المركزية”، مؤكدةً أن العمل يجري “على نقل الشراكات والتفاهمات التي كانت اضطرارية مع أجسام مؤقتة (في إشارة إلى “قسد”) لدمشق. ثم قدم الشيباني في 20 نوفمبر مقاربة الإدارة السورية للتعامل مع مسألة “قسد”، والتي تتمحور حول إيجاد مخرج مشرّف للأمريكيين كي يتخلوا عنها، عبر طرح دمجها ضمن أطر الدولة السورية تحت إشراف واشنطن، بالتوازي مع انضمام دمشق إلى التحالف الدولي ضد “داعش”، من دون التطرق إلى الأبعاد الوطنية والسياسية الأوسع لعملية الدمج. لذلك عبّر عبدي عن تضايقه حيال مقاربة الشيباني ولقاء الشرع الجربا، يوم 23 نوفمبر، من طريق التشديد على ضرورة مشاركة ممثلين عن الدروز والعلويين في أي اجتماعات مقبلة تعقدها “قسد” مع الإدارة السورية، نظراً لتشابه مطالبهم في “الفيدرالية” مع مطالب الأكراد. وطرح في رد غير مباشر على الشيباني، المعضلة الحقيقية مع إدارة الشرع، والمتمثلة في سعيها لانتزاع ورقة السلاح من يد “قسد” قبل الاتفاق على المسار الدستوري والسياسي للبلاد. وكشف أن الدستور، وشكل الحكم في سورية (مركزي أم لامركزي)، هي قضايا جوهرية لاتزال عالقة، بالرغم من التوصل إلى اتفاق عسكري بين الجانبين بوساطة أمريكية في شهر أكتوبر الماضي. وأكّد تعذُّر التوصل إلى اتفاق شامل من دون حصول توافق سياسي حول الدستور.
وعلى الرغم من المرونة التي اكتسى بها الموقف التركي بعد اجتماعات واشنطن فإنّ فيدان ما لبث أن عاد إلى تشدده المعتاد، حيث أكد أن بلاده لن تسمح باستمرار وجود بيئة تهدد أمنها القومي من سورية، واصفاً “الهيكل الحالي لقسد بالتهديد المباشر لأمن تركيا“، ودعا لإزالة التهديدات القائمة شرقي نهر الفرات.
وفي المحصلة، توَّج الشرع زيارته إلى واشنطن بالانضمام إلى التحالف الدولي ضد “داعش” من الناحية السياسية، مُطلِقاً مفاوضات حول شروط الانضمام إلى “عملية العزم المتأصل” مع بروز احتمال بنشر واشنطن قواتها في إحدى المطارات العسكرية الواقعة جنوب العاصمة دمشق، والذي سارعت الخارجية السورية ومصادر أمريكية إلى نفيه. وقد استغل الشرع زيارته إلى واشنطن من أجل تمهيد الطريق أمام زيارة الجربا إلى دمشق، مُضعِفاً بذلك موقف “قسد” التي تدّعي أنها تُمثّل العشائر العربية شرقي الفرات، لذا أدركت قيادة “قسد” أن الشرع نجح في تطويقها في جوهر قوتها، أي الحليف الأمريكي.
انعكاسات الزيارة على علاقة الشرع بالدروز
تزامنت زيارة الشرع مع تصاعد في التوتر بين الإدارة السورية والزعيم الدرزي الأقوى الشيخ حكمت الهجري. كرر الهجري في 28 أكتوبر دعوته إلى استقلال المحافظة التام، والاعتراف الدولي بالإبادة التي تعرَّض لها الدروز في شهر يوليو الماضي. وعشية سفر الشرع إلى واشنطن، وقعت اشتباكات بين قوات الإدارة السورية وعناصر “الحرس الوطني” (تجمع لعدة فصائل درزية تحت عباءة الشيخ الهجري)، اختلفت المصادر في تأويلها. واندلعت الاشتباكات مجدداً بُعيد عودة الشرع إلى دمشق، وسط اتهامات متبادلة بالمسؤولية عن خرق وقف إطلاق النار. ولا يزال الهجري على موقفه المطالب بإطلاق سراح المختطفين الدروز، الذين يقدر أن عددهم يتجاوز 600 شخص، وخروج قوات الإدارة السورية من قرى وبلدات الريف الغربي للسويداء إلى خارج الحدود الإدارية للمحافظة، وذلك تمهيداً لإعادة المهجرين الدروز الذين تُقدَّر أعدادهم بعشرات الآلاف.
من المؤكد أن مباحثات بواشنطن تطرَّقت إلى الوضع في الجنوب السوري، حسبما كشف وزير الخارجية التركي، الذي حذَّر من مخاطر تهدد وحدة سورية وسلامتها الإقليمية إذا لم تُدَر المشكلات في شمالها وجنوبها “بعناية“.
نشّطت عمّان، عقب مباحثات واشنطن، محركاتها لبحث سبل تطبيق خريطة الطريق التي طرحتها الخارجية السورية في 15 سبتمبر، بدعم من وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي والمبعوث الأمريكي إلى سورية توم برّاك؛ فبعد أيام من زيارة الشرع ذكرت تقارير أن الأردن يستعد لاستقبال وفد درزي من أجل بحث تسوية أزمة السويداء، بناءً على “وحدة سورية ونزع السلاح من المحافظة”، وهما مبدآن يرفضهما الشيخ الهجري بشكل قاطع. نفت أوساط الهجري أي علاقة لها بالوفد المذكور، بينما أكدت مصادر درزية مناوئة له دعوتها من قبل الأردن، ما أثار مشاعر الغضب بين الدروز، مما اضطر عمّان إلى إصدار نفي رسمي للأمر برمته. لكن الإعلان الأردني لم ينفِ وجود تحضيرات لاستقبال وفود من محافظة السويداء، وبخاصة أن خريطة الطريق لتسوية أزمة السويداء، نصت على استضافة عمّان حواراً بين وفدين؛ الأول يمثل أهالي السويداء (بمن فيهم الدروز)، والثاني يمثل العشائر.
شجَّعت زيارة الشرع إلى واشنطن الأصوات الناقدة لسلطة الهجري داخل السويداء على التجمع فيما بينها، والدعوة إلى إطلاق ما أسموه “مسار إنقاذ وطني” للمحافظة، ووصفوا خريطة الطريق الحكومية بـ “المدخل لحل أزمة السويداء، كما رفضوا المشاريع الإسرائيلية والانفصالية” التي يتهمون الهجري بتنفيذها. وتتقاطع هذه الدعوات مع مساعٍ تركية خلف الكواليس للانفتاح على شخصيات درزية غير مرتبطة بالشيخ الهجري من أجل “حلحلة الأزمة”، وسط دعم أمريكي.
نظراً لذلك، أدخل الشيخ الهجري شيئاً من المرونة التكتيكية على مواقفه. تولى مقربون منه تسريب أنباء عن انطلاق ترتيبات جادة لعقد جولة حوار جديدة في الأردن، لكن على قاعدة الاعتراف بمركزية دور الشيخ الهجري واستحالة عزله. وأكد أولئك المقربون (21 نوفمبر) فشل خريطة الطريق الحكومية، وعرضوا شروط جديدة توفر لأهالي السويداء القدرة على إدارة أمن المحافظة بأنفسهم بالتنسيق مع دمشق، من دون الوصول إلى الاستقلال أو إقرار حق تقرير المصير الذي ينادي به الشيخ الهجري. وتضمنت الشروط الجديدة: إدخال الحرس الوطني كتلة واحدة في صفوف الجيش السوري الجديد على أن يحافظ على قيادته المحلية، وانسحاب قوات الأمن الداخلي من الريفين الشمالي والغربي للمحافظة، وضمان عدم ملاحقة الأهالي أو اعتقالهم على خلفية أحداث شهر يوليو الماضي. وفي المقابل، صعَّدت الإدارة السورية لهجتها حيال الفصائل الدرزية في السويداء، إذ وصفتها لأول مرة يوم في 15 نوفمبر بـ “العصابات المتمردة“، بينما يتحضر قضاؤها للنظر في دعاوى مقدمة بحق الشيخ الهجري بتهمة “المساس بأمن الدولة“.
في المحصلة، وضعت زيارة الشرع الشيخ الهجري في موقف دفاعي على المستويين الدرزي والوطني، ودفعته إلى إضفاء شيء من المرونة على مواقفه المتشددة، وبخاصة بعد أن أدى الضغط الأمريكي إلى رفع مجلس الأمن الدولي الشرع عن قوائم الإرهاب. هذا التحرك الأمريكي، واستقبال الشرع في البيت الأبيض، أفقدا الشيخ الهجري إحدى أقوى الأوراق في ترسانته: نعت الإدارة السورية الجديدة بـ “المتطرفة والمطلوبة للعدالة الدولية”. وعلى الأرجح أن الشيخ الهجري ينتظر تبلور ملامح اليوم التالي للزيارة، فيما يتعلق بالعلاقات السورية-الإسرائيلية.
الانعكاسات على العلاقات السورية-الإسرائيلية
ما إنْ عاد الشرع إلى دمشق حتى كشفت الحكومة الإسرائيلية عن خطوات ومواقف عدائية منه، على الرغم من أن الإدارة الأمريكية أطلعت الإسرائيليين بما جرى بين ترمب والشرع.
في البداية، تساءل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عما إذا كان الشرع مُستعداً لتطهير جيشه من الجهاديين وتحويل سورية إلى دولة مسالمة والتعاون مع إسرائيل لإقامة منطقة منزوعة السلاح في جنوب غربي سورية، فضلاً عن توفير الحماية الدائمة للدروز. وما لبث الإسرائيليون أن أعلنوا تمسكهم بالمنطقة العازلة وقمة جبل الشيخ، وسط تقارير أممية عن توسيع الجيش الإسرائيلي وجوده في جنوب سورية. ثم قطعوا المحادثات مع إدارة الشرع بذريعة إصرار دمشق على التوصل إلى اتفاق أمني يضمن انسحاب الجيش الإسرائيلي من الأراضي التي احتلها بعد سقوط نظام الأسد، بينما تُصر إسرائيل على الاحتفاظ بهذه الأراضي إلى حين توقيع اتفاق “سلام” بين الجانبين.
بعد قطع المفاوضات، اتخذ رئيس الحكومة الإسرائيلية خطوة تصعيدية حين زار الأرضي السورية محط الخلاف مع الإدارة الشرع. ثم وصف نتنياهو الدروز بـ “الحلفاء“، وأكد أن حمايتهم ومنع نشوء تهديدات في جنوب سورية هما هدفان ستحققهما إسرائيل سواء عبر “اتفاق أمني، أو من دونه”. وبلغ نتنياهو أقصى غضبه من الشرع، عندما عَدَّ أن الأخير عاد من واشنطن “منتفخاً وبدأ يفعل أموراً لن تقبلها إسرائيل”، مثل إحضار قوات روسية إلى جنوب سورية. وبالفعل زار وفد عسكري روسي كبير مناطق في محافظة القنيطرة استعداداً لإحياء الدور الروسي في المنطقة والذي أسسه اتفاق الجنوب لعام 2018، إلا أن تل أبيب عارضت جولة الوفد الروسي العسكري بشدة. ولإظهار عزمها منع أي انتشار عسكري في الجنوب، أرسلت في 20 نوفمبر سرباً من طائراتها الحربية مشَّطت الأجواء السورية من الجنوب إلى الشمال.
كما استعجلت الحكومة الإسرائيلية أعمال التشييد والبناء في قمة جبل الشيخ داخل الأراضي السورية، خوفاً من أن يفرض ترمب تنازلات على نتنياهو لدفعه إلى سحب قوات الجيش الإسرائيلي منه. وزاد الإسرائيليون وتيرة توغلاتهم في محافظتي القنيطرة وريف دمشق، كما حصل في بلدة بيت جن، حيث نفذت القوات الإسرائيلية يوم 28 نوفمبر، عملية عسكرية لـ “اعتقال” عناصر مما أسمتها “الجماعة الإسلامية” بدعوى أنهم يخططون لشن “هجمات إرهابية”، إلا أن القوة الغازية تعرضت لكمين مسلح أدى إلى مواجهات انتهت بمقتل أكثر من عشرين سورياً، وجرح 13 جندياً إسرائيلياً. وزادت إسرائيل من تسخين الأجواء عبر اتهام عناصر من إدارة الشرع بالوقوف خلف “كمين” بيت جن، وقدَّمت الحادث دليلاً إضافياً على “صحة” موقفها الرافض توقيع اتفاق أمني مع الشرع، لعدم قدرة قواته على ملء الفراغ الذي سيحدثه انسحاب الجيش الإسرائيلي.
تعكس المواقف الإسرائيلية انزعاجاً واضحاً من نتائج زيارة الشرع إلى واشنطن، فقد راقب المسؤولون الإسرائيليون بحذر انضمام الشرع إلى التحالف الدولي ضد “داعش” وتنامي التعاون المباشر بين الولايات المتحدة والإدارة السورية ضد التنظيم، وما يتصل بـ “الأمن الإقليمي“، الأمر الذي قد يُكسبه دعماً أمريكياً ولو كان محدوداً، كما نظروا بشكل سلبي إلى جهود الإدارة الأمريكية للضغط على مجلس النواب الأمريكي من أجل إنهاء قانون قيصر قبل نهاية العام 2025 الجاري، على الرغم من تمسُّك تل أبيب به.
كما انزعجت إسرائيل من مواقف الشرع في واشنطن، حيث رفض الانضمام إلى الاتفاقات الإبراهيمية، ورفض المطلب الإسرائيلي القاضي بنزع سلاح المنطقة الواقعة جنوبي دمشق. وحدد أولويته من المفاوضات مع إسرائيل التي تواجه “صعوبات كبيرة”، بالتوصل إلى اتفاق يؤدي إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها بعد سقوط نظام الأسد، أو ما أسماه الشيباني خط 7 ديسمبر. وربما تنظر إسرائيل بعين الريبة إلى جهود الشرع للترويج لبلاده بوصفها “ممراً تجارياً مهماً بين الشرق والغرب”. لكن أشد ما أثار غيظ الإسرائيليين هو مشاركة وزير الخارجية التركي في لقاءات واشنطن، والذي حدد أهداف تلك اللقاءات بمناقشة “سُبُل إزالة التهديد الإسرائيلي لسورية”.
وإن ردَّت الحكومة الإسرائيلية باستعراض قوتها الجوية فوق الأراضي السورية، على احتمال انتشار قوات روسية في جنوب سورية، فالأرجح أنها بالمثل غير مرحبة بنوايا واشنطن نشر قواتها في إحدى المطارات الواقعة جنوب دمشق، من دون أن يسبقه اتفاق سوري-إسرائيلي. وفي هذا السياق، أكد نتنياهو أن تقويمه للشرع يقوم على أفعاله وما يحققه من “نتائج ملموسة”، ودعا الإدارة الأمريكية إلى تبنّي نهجه حيال الإدارة السورية الجديدة القائم على: “ثق أو لا تثق، لكن تحقَّق دوماً”. ولخصت تصريحات نتنياهو، جوهر الخلاف مع الإدارة الأمريكية حول التعامل مع الشرع، فبينما يمنحه ترمب فرصةً لإثبات نفسه والانتقال إلى السلام والازدهار، يسعى نتنياهو إلى ملء طريقه بالاختبارات، وأن يفرض عليه الانصياع للأولويات الإسرائيلية ليس خارج سورية فحسب، وإنما داخلها أيضاً.
استنتاجات
حسَّنت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن موقفه على الصعيد الإقليمي، نظراً لقبول واشنطن إشراكه في مناقشة جوانب معينة من أمن المنطقة. كما عززت وضعيته المحلية إلى حد بعيد مع دفع جهود إلغاء قانون قيصر إلى الأمام. وقد أثارت الزيارة قلقاً عميقاً داخل أوساط “قسد” والدروز، خشيةً من صفقة أمريكية مع دمشق وأنقرة على حسابهما. كما أدى احتضان إدارة ترمب للشرع إلى موقف إسرائيلي اعتراضي، وقطع تل أبيب المفاوضات مع الإدارة السورية التي ترعاها واشنطن بخصوص الاتفاق الأمني.
لا يمكن إغفال أهمية زيارة الشرع إلى واشنطن، إلا أن الرئيس السوري الانتقالي لم يُظهر بعد أي استعداد ملموس لتنفيذ خطوات حقيقية نحو المصالحة الوطنية أو الحوار الجاد، سواء مع “قسد” أو الدروز، والأرجح أن تفكيره يسير في اتجاه استغلال نتائج الزيارة في صراعه مع خصومه الداخليين وتشديد الحصار عليهم أكثر فأكثر ولكن بحذر، سيما أنَّه مطوَّق بالتربُّص الإسرائيلي، وضغوط إدارة ترمب لتشكيل “حكومة أكثر تمثيلاً”، ومُطالبة بعض أعضاء الكونغرس بربط إنهاء قانون قيصر بالحصول على تعهدات صارمة من الإدارة السورية حيال حقوق الأقليات.