أحمد إدعلي
شكّل المفكّر الجزائري الراحل مالك بن نبي ظاهرة مفارقة في الفكر العربي والإسلامي خلال القرن العشرين المنصرم. فقد أخذ بسبيل التنظير للإحياء الإسلامي الحديث في مقابل نقد البنية المعرفية للغرب بمجمل مكوناتها الفلسفية والفكرية والسياسية. ولذا فهو لم يكتفِ بوصف أحوال المجتمعات الإسلامية وأسباب تخلفها، بل أقام صلة وطيدة بين نظرية التأخر والسلوك الاستعماري الذي مارسته الكولونيالية الأوروبية والأميركية على مدى أجيال متعاقبة.
هذه الدراسة تحاول تأصيل جدليات التقدم والتأخر، وتجيب على أطروحة التنمية في منظومة بن نبي الفكرية.
المحرر
تشكو المجتمعات الإسلاميّة من انحطاطٍ حضاريٍّ مزمنٍ لم تنجح في الانفكاك من آساره. هذه الانتكاسة الحضاريّة، تتعاضد مع مشكلة استعصاء الاستئناف الحضاري؛ بسبب تراكم الأعطاب المغذّية لانقطاع الصّلة بالدورة الحضاريّة. ولئن انبرى مفكرو عصر النهضة لطرح سؤال لماذا تقدم الغرب وتخلّف المسلمون، متوسلين بمقارباتٍ مختلفةٍ، فإنّهم حصروا أنفسهم في زوايا ضيّقة، إما بانغلاقهم في خدر الماضي وكيل المديح لأمجاد التاريخ، أو قصور منهجهم في التغيير؛ بسبب فائض حماسة ثوريّة وغلبة النّزعات الكميّة والذرية والكلامية المانعة لفهم علل المأساة الإسلاميّة. وبالمثل، لم يحد بعض روّاد حركة الإصلاح والحداثيين عن منزعهم. إنّهم بمراهنتهم على منطق التكديس، واحتضانهم للأفكار المقتبسة المميتة، وبتعلّقهم الصنمي بما بدا لهم حتميّة الاختيار بين الرأسماليّة والاشتراكيّة، وبانهجاسهم المفرط بفكرة أنّ المال قوام النّشاط الاقتصادي، أخطؤوا الطريق للجواب عن سؤال كيف يتم تحويل الجمود الحضاري إلى ديناميّة تؤمّن الإقلاع؟ لقد أثبتت الخبرة التاريخية محدوديّة فاعليّة «الثقافة الأثرية» الانتكاسيّة، وكيف إنّ الدول العربية والإسلامية بتعلّقها بوثنياتٍ جديدةٍ ومساعيها لمحاكاة نماذج النّمو في البلاد الغربية، فشلت في كسب رهان التنمية الشاملة.
من هذا المنطلق، تحاول الورقة طرح استفهام: كيف شخّص مالك بن نبي مظاهر الانحطاط الحضاري ومعيقات النّهضة الاقتصاديّة للمجتمعات الإسلاميّة؟ وماهي المسالك التي عبّدها من أجل تنشيط الديناميات المعطّلة وتحقيق الإقلاع الاقتصادي؟ وفي العلاقة مع ذلك، تستفهم عن تمظهرات فرادة منهجه وراهنيّة فكره؟
تفترض الورقة أنّ مالك بن نبي، في مسعاه لطرح إشكاليّة التخلّف الحضاري بشكل عام، والتخلف الاقتصادي بشكل خاص، بلور رؤيةً حضاريةً متفرّدةً عكستها براعته في ملامسة التمظهرات المختلفة والأبعاد المركّبة للانحسار الحضاري، وفهمه العميق لنواميس الحضارة، ومهاراته التحليليّة والمنهجيّة في تعبيد مسالك الانتهاض الحضاري، وتجاوز مظاهر قصور مناهج الأوائل ورؤاهم، وقدرته على وصل المجتمعات الإسلامية بطريق الحضارة. لقد أبان مالك بن نبي عن انهجاس كبير بتغيير الواقع الموبوء للمجتمعات الإسلاميّة، وعنايته الفائقة بمنهجيّة صنع مصيرها. وقد شدّد، متأثّرًا بابن خلدون، على أهميّة مدخل التنمية الاقتصادية في تحقيق النهضة. فالاقتصاد يعدّ مناط قوّة الدول، بل و«تجسيمًا للحضارة»[2].
تسعى الورقة إذن لعرض ملامح رؤيةٍ حضاريّةٍ لمآزق التنمية الذي تشكو منها المجتمعات العربية والإسلامية، وتحليل كيف شخّص مالك بن نبي مظاهر تخلّف نهضة المجتمعات الإسلامية ومعيقاتها، ورصد طبيعة المسالك التي عبّدها للانتهاض من حجر العجوزات المتراكبة والانعتاق من درك التخلّف الذي وقعت فيه في منحنى الحضارة، وتحقيق نهضةٍ حضاريةٍ تقطع مع الحضارة الشيئيّة التي ترتكن إلى منطق التكديس.
وتتجلّى أهميّة الورقة في أنّها تتناول جانبًا مهمًّا من مشروع مفكرٍ ذي دربةٍ في معالجة مشكلات الحضارة، وتتيح الفرصة للوقوف على نوعيّة الإشكالات التي أثارها وعمقها في ما يتّصل بقضايا التنمية والتخلّف الحضاري، والإحاطة بالمداخل التي اقترحها لمقاربتها. كما أنّ راهنيّة أفكاره، وجدّة طرحه، ومهاراته التحليليّة والمنهجيّة في استقراء الظواهر وفهمها، وقدرته على التشخيص والتفكيك والتركيب والتجاوز، عناصر تغري بأن ندلف من صرحٍ فكريٍّ شامخٍ عبر ثلمة أسئلة التنمية. وتتوسّل الورقة بمنهج وصفي تحليلي يحاول الإمساك بتعبيرات التخلف الاقتصادي والحضاري، وشروط التحرّر من عقالها للانطلاق صوب آفاق اقتصاديّة حضاريّة، ومن خلال ذلك، رصد القسمات العامة لفكر مالك بن نبي سيما في شقه الاقتصادي.
أوّلًا: تجليات الانحسار الحضاري للمجتمعات الإسلاميّة
استحكم الركود الحضاري للمجتمعات الإسلاميّة نتيجة تظافر العلل الأولى للانحسار والأسباب المحدثة لعسر الاستئناف الحضاري[3]. وتتنوع تلك العلل المتفاعلة بين عوامل داخليّة تتمثل في استبطان قابليّة الاستعمار بحكم خلل في العقيدة، وسبب خارجي جسّده الاستعمار. فقد شاعت في المجتمعات الإسلاميّة حالة ذهنية انهزاميّة استحكمت في نفوس الأفراد واخترقت بنية المجتمع، فأضعفت مناعته إزاء إرادات الاستعمار والهيمنة. ولعلّ الخلل العقدي الذي كانت تشكو منه تلك المجتمعات، في خضم المآسي والعوادي التي أصابتها، قوّض رصيدها من الحضارة وزاد من قابليتها للاستعمار. إنّ عجزها عن تجديد الصّلة بالقرآن الذي يكسب الإنسان «الفعالية الروحية» التي تشكّل منطلق البناء الحضاري، هوى بها إلى قعر الحضارة ومقام الأفول، وأنعش جرعات سباتها وخمولها. على أنّ نفسيّة الاستسلام والهزيمة تلك، علّة أصليّة[4] يسّرت إحكام المستعمر لقبضته على عقول المسلمين ومقدّراتهم وقلوبهم. وقد ساعد هذا العامل الخارجي على تعميق تلك الذهنيّة، بحيث أضحت العلّة الثانوية تُغذّي بدورها العلّة الأصليّة، فأوغلت المجتمعات الإسلاميّة في نفق تأخّرٍ حضاريٍّ مزمنٍ. لقد غدا الأفراد خاملين وسلبيين وضعيفي الهمّة، ومنغلقين في الحدود الضيّقة التي رسمها المستعمر. ولم تيسّر موجة الاستقلالات الشكلية تحرّرها من ربقة الرصيد السلبي المغذي لقابليّة الاستعمار ولأشكال الاستعمار الجديدة. هذه العلل، كرّست إذن الانحدار الحضاري للمجتمعات الإسلاميّة، وعسّرت فرصة تجديد الصّلة بالدورة الحضارية. ومن تمظهرات الانحسار الحضاري ذات الطبيعة الاجتماعية والنفسية والفكرية والاقتصادية، تفكك أوصال الشبكة الاجتماعية وخطوطها، وانعطاب عوالم الأشخاص والأفكار والأشياء، وما ارتبط بذلك من هيمنة الأشخاص وانحجاب الأفكار، واستحكام النّزعة الشيئيّة ومنطق التكديس. إضافة إلى النّزعة الذرية وغياب الفعاليّة، والتأرجح الحدي بين ذهان السهولة والاستحالة، وضعف أخلاق الواجب، والتعالم، والعجز عن توفير الضمانات الاجتماعية للأفراد. على أنّ هذه التعبيرات، فضلًا عن كونها نتائج لمسبّبات، تتشابك في إطار ديناميّة تفاعليّة تتحوّل في قلبها مظاهر الانحدار إلى عللٍ تغذّي مشكلة التخلّف الحضاري، فتتناسل الأسباب والنتائج على نحو يزيد من خطر الاستعصاء الحضاري.
1- تمزّق شبكة العلاقات الاجتماعيّة:
إذا كان المجتمع يوثّق شبكة علاقاته مع انطلاق البناء الحضاري متوسّلًا بوقود الفكرة الدينيّة، فإنّ طاقة الدفع تلك قد تفتر، وتخبو جذوة الرّوح جراء ما يصيبه من انحطاط بسبب تراخي خيوط تلك الشبكة[5]. على أنّ وهن أنسجة شبكة العلاقات الاجتماعيّة وتمزّقها، وتفكك أوصال المجتمع ومرضه، أعراضٌ تغذّي نزعة الفردانيّة، فينكفئ الأفراد على أنفسهم، ويؤثرون مصالحهم على مصالح المجتمع. إنّ خطورة ضمور العلاقات الاجتماعيّة، تكمن في انتقال العدوى إلى عوالم الأفكار والأشياء. فالخلل الذي يُصيب تلك الشبكة، يؤثّر سلبًا على فاعليّة الأفكار؛ ويفضي إلى طغيان عالم الأشياء؛ فيتضرّر المجتمع وتستعر شهوة إرادة السيطرة وينتفي الوفاق الاجتماعي[6].
2- انحجاب الأفكار البناءة وتناسل الأفكار الميتة والمميتة:
تُشكّل الأفكار البنّاءة بنظر مالك بن نبي، قوّة دفعٍ وطاقةٍ محرّضة على الإنجاز. لذلك، حين تغرب الأفكار الإيجابيّة وتغيب القاعدة الفكريّة التي تكون أساسًا لعمليّة البناء الحضاري، يشيع الجهل فتشرق الأصنام[7]، وتتناسل الأفكار الميتة، ويعسر فرز الأفكار المميتة[8]، فيفقد المجتمع بوصلته وتتعطّل التنمية، ويساء تشخيص مشكلاته وتحديد غايته والوسائل الملائمة لبلوغها[9]. فلا غرو إذا أخطأت المجتمعات الإسلامية موعدها مع فرصة وصل الرباط بالدورة الحضارية.
لقد أفرز وضع الفوضى الفكريّة الذي ساد المجتمعات الإسلامية وضع هجانة مثبطة؛ حيث احتضنت مزيجًا من رواسب الأفكار الميتة ومستحدثات الأفكار المُميتة الوافدة من الغرب. على أنّ الأفكار الميتة التي تخلقت في تلك المجتمعات في انسلاخ عن أصولها، غدت بنظره جراثيم تنخر جسم المجتمعات، وتُشيع وعيًا يعصب أعين النخبة عن الأفكار الحيّة في الحضارة الغربية ويفتح حدقاتها على التافه منها[10]. إنّ الأفكار المنقطعة عن الثقافة الإسلامية الأصيلة، مثلما الأفكار الوافدة السقيمة التي جرى تلقفها، تغدو بؤرة اللّا فعاليّة ومصدر الاستلاب في أبعاده المختلفة. فالمجتمع ينشطر بين مستعصمٍ بالتّراث، منشد لماضٍ وارف الظلال، وبين متلقّفٍ لحداثةٍ رثّة، مستبشر بفتوحاتها، فتضعف مناعته، ويفتقد لنسغ توازنه، وتضعف وشائج بنياته. وعوض أن يغدو الاختلاف عامل إثراء وإخصاب، يمسي عامل تمزّق وفوضى قيمية، ويُغذّي بالتالي منطق استعصاء الانتهاض الحضاري.
وفضلًا عن ذلك، تُفضي فوضى الأفكار وهجانتها إلى انعطاب «الوعي المنهجي في أبعاده المعرفيّة والإجرائيّة والأخلاقيّة»، بحيث يتعذّر الإمساك بسنن التغيير والربط المنطقي بين النتائج ومسبّباتها؛ ويعسر البناء السليم لشبكة المفاهيم التي تُيسّر فهم الظواهر ولنموذج التحليل الذي يصل العلاقات بين الظواهر وبين الظواهر والمفاهيم. كما ينتفي أثر الفكرة على الواقع، ويجري تغليب الرّؤى الجزئيّة والتجزيئيّة، ويحصل الانبهار بظواهر الأمور دون جواهرها[11].
3- هيمنة عالم الأشخاص وسلطة الأشياء:
حين تتفكّك أوصال المجتمع، وتختلّ الموازين بين عوالم الأشخاص والأفكار والأشياء، يزداد سحر الأشياء، فتسيطر على الإنسان. لذلك، تتسنّم الأشياء خلال طور الانحطاط الحضاري سلم القيم، وتصبح معيار التقويم. على أنّ سموّ قدر الأشياء، واستعذاب الشهوات، وأولويّة الأفكار الكميّة التي غزت كلّ مناحي الحياة، أمورٌ لا تصير موضع استهجانٍ في مجتمعاتٍ متخلّفةٍ. إنّ نزعات التكميم تلك، كرّست الضحالة والتبعيّة. فالمجتمعات الإسلاميّة عوض الانهجاس بالنّوعيّة، وتسخير الأشياء لتحقيق النّهضة، باتت تحت سلطانها، فأصبحت مجرّد آلة استهلاكٍ خاملةٍ. وبالمثل، تُكرّس أولويّة الأشخاص على الأفكار والمبادئ، تواكل المجتمع ودعته، فيقترن الخلاص بالأشخاص، وليس بالجهد الجماعي. وقد تتم حوصلة انحرافات الأشخاص في رصيد المجتمع، وترتهن الفكرة الجيّدة إلى الشخص غير المناسب. إنّ المجتمعات الإسلاميّة لم تلتقط رسالة القرآن المؤكّدة على أولويّة الفكرة والمشروع، وعدم تحويل الأشخاص إلى أوثان تقدس. «وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل. أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»[12].
4 – النّزعة الشيئيّة ومنطق التكديس:
لا غرابة في ظلّ مجتمعات تنحجب فيها الأفكار، ويصير فيها الأشخاص أوثانًا تُقدّس، وينغلق فيها الأشخاص في سجن الأشياء مثلما كان سائدًا في مجتمعات الجاهليّة، إذًا استحكمت النزعة الشيئيّة باعتبارها نزعةً مرضيّةً لا تخاطب سوى أحد أبعاد الإنسان، المادة دون الروح. وفي العلاقة مع ذلك، ترتكن المجتمعات الإسلامية خلال سباتها الحضاري، إلى منطق تكديس الأشياء[13]، عبر تكديس منتجات العالم الغربي واستهلاكها، وليس من خلال التفكير والإنتاج. والحال أنّ الحضارة هندسة وبناء، وليست مجرد تكديس[14]. ولئن مكّنت ظاهرة التكديس من بروز بعض مظاهر التمدّن في المجتمعات الإسلاميّة، فإنّها أبعد ما تكون عن الحضارة. بل إنّ مالك بن نبي يعتبر تلك الظاهرة المرضيّة إحدى أمارات خروج المجتمع من عصره. وتنتقل عدوى التكديس لتشمل مختلف مناحي حياة تلك المجتمعات، فتغرق في دوّامة تكديس إفرازات الحضارة، وتعجز عن رتق أفقٍ حضاريٍّ ينتشلها من سديم الأشياء. ولعلّ النخبة المتعلّمة تتحمّل -بنظر مالك بن نبي- مسؤوليّة هذا السلوك الانحرافي، بارتكانها إلى «السطحيّة الفكريّة في النّظر إلى حضارة العصر»[15]. على أنّ الحضور الطاغي لنزعة الشيئيّة وداء التجميع[16]، يكشف عطبًا آخر يشكو منه عقل المسلم، وهو النّزعة الذرية؛ حيث تعوزه القدرة على تركيب الأجزاء والأبعاد المختلفة، وبلورة تصور مؤتلف العناصر، وربط الأجزاء بالكليات. فلا غرو، باستهدائه بمنهج البرغوث، القفز من جزئيّة إلى أخرى، إذا تناسلت المشاكل وتشابهت، وعجز عن صوغ إجاباتٍ فعّالةٍ للمعضلات المستفحلة للأمّة.
5 – غياب الفعاليّة:
تفتقر مجتمعات ما بعد الموحدين للطاقة المحرضة على الإنجاز؛ بسبب مناخ الدّعة المخيّم عليها، وضمور العلاقات الاجتماعيّة المستثيرة للفعل، والاستسلام للرؤى القدرية التي تُعطّل الأخذ بالأسباب. ورغم استعصام المسلمين بعقيدتهم، فإنّ أثر العقيدة على سلوكاتهم الاجتماعيّة كان ضعيفًا أو معدومًا. لقد حصل انفصام بين المثل والمبادئ من جهة، والسلوكات الحياتيّة من جهة أخرى، وشلّت الفاعليّة الاجتماعيّة للعقيدة، واختزلت في حزمة طقوس لا يتعدّى أثرها أسوار المساجد[17]. فالمسلم المعاصر، يشكو انفصامًا بينه وبين البيئة الخارجة على المسجد[18]. إنّها تخنق حسّه الأخلاقي، فيتأثّر بها عوض أن يؤثّر فيها.
ولعلّ جانبًا كبيرًا من المسؤوليّة على غياب الفعاليّة يتحمّله القوارض وهدام وسائل المجتمع. فالقوارض، «يقرضون جوهر الحضارة» بدعواتهم لتكسير أغلال الغرائز، فيهدمون الرّوح ويحصل الخواء المدمّر للتوتر الإيجابي الذي يجعل المجتمع يواصل نشاطه في التاريخ. وهدام وسائل المجتمع يوجّهون»الملكات المبدعة وجميع الفضائل الأخلاقية في المجتمع خارج عالم الوقائع والظواهر» [19].
6- ذهان السهولة والاستحالة:
يتموضع المسلم حين تقويمه للأمور على طرفي نقيض، الاستسهال أو الاستحالة. فالاستسهال يُمثّل أحد مظاهر التطرّف في الحكم على الأشياء. إنّ ذهان السهولة يعفي من بذل الجهد وتحري العمق، ويورّط في الضحالة والتسطيح، وسوء تشخيص الأسباب الموضوعية للمشكلات، وقلّة تقدير حقيقة التحديات المستقبلية[20]. في المقابل، يُغذّي ذهان الاستحالة العجز ويثبّط الهمم. فالمسلم يقف حيال الظواهر والمشكلات موقف العاجز المستكين. إنّ استبطان العجز، يقضي على فرص المبادرة بالأخذ بأزمة المبادرة والتوثّب لتحقيق الاستئناف الحضاري، ويشرع الباب في المقابل على انتظار حصول المعجزات.
7- تضخّم المطالبة بالحق وآفة التعالم:
تبدو العلاقة بين الحق والواجب في تصوّر مالك بن نبي تكوينيّة. فالحقّ هو صنو الواجب، والحق نتيجة حتميّة للواجب. وإذا كان تقديم الواجب على الحق، يُشكّل أساسًا أخلاقيًا للنهضة[21]، واعتبر إيمانويل كانط الواجب هدفًا في ذاته، فإنّ تضخّم المطالبة بالحقوق على حساب الواجبات يُخلّ بالتوازن المطلوب بين طرفي المعادلة، وينعكس سلبًا على توازن المجتمع. إنّ الواجب في تصوّر مالك بن نبي «هو تخزين للقيم الروحية المطلقة في مستوى المجتمع في مواجهة الحقوق التي هي استهلاك لهذه الطاقة في مستوى الفرد»[22].
ومن الظواهر الجديدة التي عرفتها المجتمعات الإسلامية ظاهرة «التعالم» أو «الحرفيّة في الثقافة»؛ حيث يتّخذ الفرد من العلم وسيلةً لللظهور والاسترزاق[23]. هذا المنطق الذرائعي الذي ينزع عن المثقف جوهره باعتباره ضمير الأمّة، يجعل من حرفيي الثقافة متكسّبين منهجسين بالترقي في مدارج الحياة المادية. على أنّ خطورة هذا «الجهل المركّب» بنظر مالك بن نبي، أكبر من خطورة جهل العوام؛ إذ يعسر أن يبرأ منه صاحبه.
8- الحرمان الاجتماعي عطب مثبّط لطموح الإقلاع الاقتصادي
يُشكّل الحرمان الاجتماعي تجليًا آخر من تجليات الانحطاط الحضاري. فالمجتمعات الإسلاميّة تعجز عن توفير الضمانات الاجتماعيّة التي تكفل كرامة الأفراد وسعادتهم. ومن تمظهرات ذلك، عجز كثير من الأفراد عن المشاركة في سوقي الإنتاج والاستهلاك. فكيف لمجتمع أخلّ بطرفي معادلة حيويّة؛ توفير لقمة العيش لكلّ فم، وعمل واجب لكل ساعد؛ أن يضطلع بمهمّة البناء الحضاري؟ وكيف للضمانات الاجتماعيّة أن تتوفّر من دون بناء مجتمع حضارة[24]؟
هذه الملامح العامة للانحطاط الحضاري، والتي تتعاضد وتتشابك في إطارها أعطاب وعلل قديمة وأخرى مستحدثة، تبدو في غاية الأهميّة. فمعرفة الأسباب، والتشخيص الدقيق والشامل لأعراض داء مزمن يجسده الانحدار الحضاري، جهد معرفي ومنهجي شاقّ وضروريّ لتعبيد مسالك الانتهاض الحضاري. ولعلّ مالك بن نبي كان بارعًا في ذلك. لذلك، ينصرف المقطع الموالي إلى بسط بعض المداخل الأساسيّة الميسّرة لتحقيق الإقلاع الاقتصادي والانتهاض من العجوزات التنمويّة والحضاريّة المتراكمة.
ثانيًا: شروط الإقلاع الاقتصادي
إنّ انهجاس مالك بن نبي الكبير بـ«شروط الانطلاق»، لم يدفعه لبلورة خطاطة تقنيّة تتلقّف عناصرها من طيف النّماذج الاقتصادية المتداولة، بل صاغ ملامح مشروع حضاري أصيل ومتّصل الحلقات. مشروع يدمج الأبعاد المختلفة للتنمية، ويأخذ في الحسبان كيمياء المجتمعات الإسلامية وخصوصياتها. ولا غرابة في ذلك، ما دامت مشكلة المجتمعات الإسلامية في جوهرها حضارية. لقد بلور مالك بن نبي رؤيته الفكرية العميقة بعد استقراء دقيق لأحوالها الحضاريّة، وجهد منهجيّ يصل العلاقات بين الظواهر، ويُمسك بسنن ونواميس الأفول والانبعاث، متوسّلًا في تطلّعه لتحقيق الاستئناف الحضاري، بالغاية والوسيلة، المبتدأ والمنتهى، الإنسان المسلم صانع الحضارة.
1- تشييد الإنسان: أولويّة الرأسمال الاجتماعي على الرأسمال المالي
بلور مالك بن نبي رؤيةً تركّز على الإنسان، من منطلق أنّ المشكلة الرئيسيّة في المجتمعات الإسلاميّة ليست بمقاييس ماديّة واقتصاديّة. «فالاقتصاد ليس قضيّة إنشاء بنك وتشييد مصانع فحسب، بل هو قبل كل شيء تشييد الإنسان». إنّ الإقلاع الاقتصادي المنشود، يرتهن إلى الإنسان باعتباره خميرةَ التغيير، ومحرّك التاريخ والمجتمع، وعنصرًا ديناميًا لبناء الحضارة[25]. لقد أثبتت التجربة التاريخية كيف تعثّرت محاولات تلك المجتمعات المتواترة لتحقيق نهضة اقتصادية؛ بسبب تركيزها على منطق التكديس، ومراهنتها على الاستثمارات المالية، وإهمال الإنسان الذي يُشكّل طاقة الدّفع الرئيسيّة، والضلع الأساسي من أضلاع مركب الحضارة. في المقابل، أثبتت تجربة الإقلاع في الصين، قدرة الإنسان العجيبة على صنع المعجزات، وكيف إنّ الإمكانات الاجتماعية مخزون طاقي مُبهر يُيسّر الإنجاز رغم محدوديّة الإمكانات المالي. فقد نجحت الصين في تحقيق معدلات تنموية مرتفعة بتصويب اهتمامها على الإنسان الصيني، ومراهنتها على الرأسمال البشري. فلا غرو إذا جعل مالك بن نبي من كيفية صنع «رجال يمشون في التاريخ مستخدمين التراب والوقت «رهانًا حاسمًا». إنّ التحدي الكبير الذي تواجهه المجتمعات العربية يتمثل في تشييد إنسان[26] جديد له من القدرة والتصميم ما يكفي لتحديد غايات سامية والسعي لبلوغها. ولذلك، يغدو بناء الإنسان ذي الفاعلية الاجتماعية [27]، والقادر على تحقيق الإقلاع الاقتصادي رهانًا حضاريًا.
إنّ كسب هذا الرهان، يقتضي الاستفهام عن بعض الشروط التي تضمن فعاليّة الإنسان في التاريخ، وتقوي الإمكان الاجتماعي. إنّ مطمح بناء الإنسان المولّد للديناميّة الاقتصاديّة يقتضي العناية بمثلث الإنسان، الثقافة والعمل ورأس المال. فأهميّة الثقافة تتجلّى في أنّها تُشكّل البيئة التي تتشكّل في إطارها شخصيّة وسلوكات إنسان التنمية، والشرط الذي يرهن قدرته على استثمار التراب والوقت. ولذلك يلزم أن يسهر المشروع الثقافي للمجتمع على تنمية الأخلاق التي تشذب الغرائز، وتنمّي النزعات الخيّرة والذوق الجمالي، وتُحرّض على الصّناعة والتقدّم التقني، وتزوّد الإنسان بحسّ عمليٍّ يصل بين الفكرة وتجسيدها، وبين الغايات والوسائل[28]. ولعلّ فشل الدكتور شاخت في ضمان الإقلاع للاقتصاد الإندونيسي، وهو الذي نجح في النهوض بالاقتصاد الألماني قبل الحرب العالمية الثانية، يدلّل على أولويّة الاستثمار في الإنسان، وأهميّة البُعد الثقافي في صناعة إنسان التنمية وتحقيق عملية الإقلاع الاقتصادي. إنّ المعادلات الاقتصادية تغدو عديمة الفعاليّة في غياب معادلة اجتماعية تأخذ في الحسبان الخصوصيات الثقافيّة والمعطيات المتعلّقة بالطاقات البشريّة لكلّ بلد، وتنقل وضعيّتها من السكون إلى الحركة. وفضلًا عن محوريّة بعد التوجيه الثقافي، يلزم توجيه عمل الإنسان على نحو يضمن تكثيف الجهود من أجل صناعة التاريخ. فإرادة التغيير من خلال استنفار العمل وتظافر الجهود، تتيح الاستعاضة عن عدم كفاية الإمكان الحضاري. ثم إنّ فعاليّة الديناميّة الإنسانيّة باعتبارها مولّدةً للتغيير، تفترض قدرة الإنسان على تجاوز داء التكديس، ومواجهة عطالة الثروات من خلال تحريكها لتصبح رأس مال منتجًا ومتداولًا. فلا عجب إذا استطاعت ألمانيا أن تنبعث من ركام الحرب وتصنع لنفسها تجربة تنموية فريدة من خلال التصدي للثقافة المعيقة للتقدم، والإقبال على الأفكار المحرّضة على الفعل والتنمية، واستثمار الرساميل لتوليد طاقة تغييرية.
2- تخليق معادلة الإنتاج و الاستهلاك:
تبدو المجتمعات الإسلاميّة في أغلبها مجتمعات استهلاكيّة. فلا غرابة إذا انطبع ميزان مبادلاتها التجارية بالعجز. وبينما حقّقت بعض البلاد الأوروبيّة إقلاعها الاقتصادي قبل عقودٍ قليلةٍ، مثل إسبانيا والهند، بقيت المقدّرات الإنتاجيّة للمجتمعات الإسلاميّة متخلّفة عن نزوعاتها الاستهلاكية. هذا الاختلال بين الإنتاج والاستهلاك، يضعف مناعة اقتصادياتها، ويرهن تبعيتها للخارج، فيعسر بالتالي تحقيق الإقلاع. إنّ جعل المعادلة الاقتصادية إيجابية، يقتضي أن يُغلّب المجتمع أخلاقيًا الواجب على الحق، وذلك بأن يُعطي الأولوية للإنتاج، ويُحفّز أبناءه على العمل المنتج. ولعلّ السيرة النبويّة تحضّ أكثر على القيام بالواجب بحكم مفاعيله الإيجابيّة.
لقد أسبل مالك بن نبي طابعًا أخلاقيًا على معادلة الإنتاج والاستهلاك من خلال تقديمه للإنتاج بما هو واجب على الحق في الاستهلاك. هذا التواشج بين الأخلاق والاقتصاد، يُنمي أثر العوائد الإيجابية على المجتمع. وعليه، فإنّ فوائض الإنتاج لا يجب أن ينظر إليها من زاويةٍ اقتصاديةٍ جبريّة صرفة. فبقدر ما تدلّل على مستوى النمو المادي، بالقدر نفسه تعكس مقدار الارتقاء الأخلاقي في المجتمع. ذلك أنّ أسئلة التنمية ومشاكل الندرة، تستعصي على الحلّ في غياب إنسان مسلم يفجّر طاقاته ويكثّف نشاطه من أجل صالح المجتمع. على أنّ هذا الترجيح لا يبدو اختيارًا سهلًا، بل يُشكّل محصلة مجاهدة تشذب السلوك الأناني وتنمي النّزعة الإيثارية. من هنا، أهميّة الوازع الديني في تخليق الاقتصاد، وتغذية الالتزام الذّاتي بالإقبال على الإنتاج. بيد أنّ بثّ الوازع ليس مسألة ذاتيّةً أو متروكة لانتظار وقوع أثر النص في النفس، بل يتطلّب تربية اجتماعية تبثّ أفكار بنّاءةٍ فتخلق بذلك قابليات جديدة وهيئات و«صور جديدة»، وتغيّر الطاقة الحيوية المنطلقة بالغرائز إلى طاقة اجتماعية»[29]. فتحقيق هذا الانزياح صوب الواجب، يتطلّب مسيرة شاقّة، بل و«ثورة ثقافية مضادّة» تقوّم اعوجاج الهيئات والصور[30].
3 – التخطيط وتعجيل خطى التاريخ:
لا يُمكن تحقيق الإقلاع الاقتصادي من خلال التوسّل فقط بالأطر النظريّة، بل لا بدّ فضلًا عن ذلك من صيغ فنيّة وتنظيميّة ترتّب سلّم الأولويات. ويبدو أنّ كثيرًا من المعضلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تشكو منها المجتمعات الإسلامية، تُعزى إلى غياب خطط تنميةٍ تُحدّد بعناية الأهداف المرحليّة والاستراتجية، وتقدر الكلفة المطلوبة، وتعبئ بشكل علميّ الوسائل والإمكانيات الضروريّة لبلوغها. لقد لاحظ مالك بن نبي سقوط العالم الإسلامي في هاوية «وثنيّة جديدة»، إشارة إلى «الاقتصادانية». هذه الأخيرة، تحيل بنظره على تسيير ارتجاليٍّ ينضبط لمنطق المصالح الشخصيّة والفئويّة، وتعاند مقتضى التخطيط، وترتحل بين نقيضين، الجهل أو عدم الوعي الاقتصادي الشامل، والهوس بـ«البشر الاقتصادي»[31].
على أنّ التخطيط باعتباره «مظهرًا من مظاهر تعجيل خطى التاريخ»، يجب أن يراعي الهويّة الحضاريّة للمجتمعات الإسلاميّة. فقد أثبتت التجربة فشل محاولات تقليد واستنساخ الخطط الرأسمالية والاشتراكية للتنمية. لذلك أكّد مالك بن نبي على ضرورة أن يأخذ التخطيط في الحسبان، الأرصدة الاقتصادية لتلك المجتمعات، ويحترم خصوصياتها. إنّ المجهود التخطيطي يتعيّن بنظر مالك بن نبي أن يُعنى بثالوث الإنسان والتراب والوقت، ويحدّد أولويات التنمية. وقد شدّد على أهميّة الفلاحة، من منطلق أنّها تضطلع بدورٍ حيويٍّ في «اقتصاد القوت». ويبدو أنّ محاولات كثير من الدول في العالم الإسلامي تلقف منهج الغرب في التركيز على الصناعة وإهمالها للتنمية الزّراعيّة، والإغضاء عن بعض التجارب الغربية الناجحة المتوسلة بالزراعة مدخلًا للتنمية، يفسّر عجزها عن توفير العيش الكريم لقطاعات كبيرة من ساكنيها، فكيف لمن لا يضمن القوت لكلّ الأفواه، ولا يشغل كلّ السواعد أن يُحرّك الطاقات الاجتماعيّة ويُنعش من ثمّة الديناميّة الاقتصاديّة؟ فاقتصاد التنمية يرتهن إلى حدّ كبير إلى اقتصاد القوت[32]. من جهة أخرى، راهن مالك بن نبي على الاستثمار الأمثل للمواد الخام التي تزخر بها بلدان العالم الثالث، من خلال المبادرة بالتنقيب والتحويل وتشكيل مصرف المادة الخام، باعتباره إطارًا تنسيقيًا يسهر على حماية مصالحها ويخلّصها من تسلّط العملة. على أنّ تأمين قطاع الفلاحة للاكتفاء الذاتي، وحماية المواد الخام من الاستنزاف وتثمينها، مداخل تقي تلك البلدان من خطر التبعيّة وتقلّبات السّوق الدّوليّة، وتؤهّلها لإيجاد قاعدة للتصنيع وتوفير سبل الإقلاع الاقتصادي.
4 – إلحاحيّة التكامل الاقتصادي بين دول الجنوب:
يبدو التكامل الاقتصادي مسألة ملحّةً واستعجاليّةً لبلدان الجنوب عامّة وللبلدان الإسلامية بشكل خاص. فتواضع فعاليّة اقتصادياتها القطريّة، وتنوّع إمكاناتها، ووحدة العقيدة والمصير، واشتداد وطيس المنافسة العالمية، ورسوخ منطق التكتلات الاقتصادية عالميًا، عوامل ذاتيّة وموضوعيّة تفرض تشكيل ما يُسمّيه مالك بن نبي «اقتصاد موحد»، ينعش الدينامية الاقتصادية، ويعضد مناعتها ضدّ تربّصات الشركات متعدّدة الجنسيات والقوى الاقتصاديّة الكبرى. إنّ دعواته إلى تجسيد فكرة الأفروآسيويّة والكومنويلث الإسلامي، تعكس قناعته باستعصاء تحقيق الإقلاع في ظلّ الانغلال في إطار جغرافيات ضيّقة ومحدودة[33]، وتشوّقه لتشكيل تكتل يمتدّ من جاكرتا إلى طنجة، ويشكل «نواة للحضارة»[34]، وإطارًا لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتعزيز نفسيّة البناء. إنّ الاقتصاد التكاملي الفعلي الذي ينهض على التخصّص الفنّي واستثمار الميزات التنافسية لكلّ بلد، هو وحده الذي يُعزّز موقع البلدان الإسلامية في خارطة التكتلات الاقتصاديّة، ويحوّل الكتلة العربيّة الآسيويّة إلى قوّة مؤثّرة عوض اختزالها في مجرّد حزمة إجراءاتٍ سياسيّةٍ ضعيفة الفعاليّة. غير أنّ فرص نجاح التكامل الاقتصادي ترتبط بجملة الشروط، ومن ضمنها إشاعة الفكرة الخلّاقة والفعّالة، وعناية كلّ قطر بالإنسان، وجعل العمل في طليعة القيم الاجتماعيّة.
5 – محوريّة الفكرة الدينيّة والمنطق العملي في مشروع الإقلاع الاقتصادي:
ترتهن دورة الحضارة بالمبدأ الأخلاقي أو بالطاقة الروحية التي يوفرها الدين. فبينما تنطلق تلك الدورة حين تتوهج الفكرة الدينيّة، يسهم ضمور تلك الفكرة في تكسير عقال الغرائز والشهوات، ويوذن بالخروج من الحضارة. وقد بيّنت الخبرة التاريخية كيف أنّ الخلل الذي أصاب تمثّل المجتمعات الإسلامية للعقيدة، أفقدها قوة الدفع، وسرّع من وتيرة انحراف مسيرتها الحضارية. فلا غرو بالتالي إذا أولى مالك بن نبي عناية كبرى بالوظيفة الإنقاذية والفاعلية الاجتماعية للدين[35]، وربط التغيير الحضاري بـ«ازدهار الفكرة الدينية»[36]. إنّ الفكرة الدينيّة تضطلع بدورٍ حيويٍّ في البناء الحضاري والإقلاع الاقتصادي من خلال التخلّص من استبطان العجز، وتوفير الطاقة الدافعة، وحماية مكاسب الإعمار. فالعقيدة تُسهم في صنع نفسيّة البناء والاستثمار الاجتماعي للزمن، وتُحرّض على تشييد إنسان التنمية، وتشذب النّزعات السّيّئة، مثلما توثّق الروابط بين أقطاب الشبكة الاجتماعية، وتجسّر المسافة بين عوالم الأشخاص والأفكار والأشياء. يقتضي الإقلاع الاقتصادي إذًا، تصحيح انعطاب معادلة التّوازن الروحي والمادي، واستثمار الفكرة الدينيّة؛ لإنعاش الطاقة الروحية، وصنع القدوة المتوازنة روحيًا، والخلاقة بقدرتها على تعليم فنّ الحياة، ومغالبة مرض الانفصام الذي يشكو منه الفرد المسلم والمجتمع المسلم؛ والذي يحوّل الدين إلى مجرّد طقوس لا تنعكس على السلوك الاجتماعي. من هنا، أهميّة التوجيه السلوكي العملي الضامن للانتقال من الحديث باسم العقيدة، إلى التمثل الفعلي والتطبيق العملي لمبادئها وقيمها، ومن العمل صوب الهدف، والربط بين الفكرة أو المبدأ، وبين العمل والتجسيد، وبين التصوّر والوسيلة. هذا الانفصام، يجعل المسلم يشكو من اللافعالية والعقم[37]، بحيث يضيع وسط الحشد ويتأثّر بالظروف الاجتماعية التي تحوّله إلى «فرد خام» أجوف وأعزل من الضمير، عوض أن يحافظ على شعلة الضمير، ويؤثر في وسطه الاجتماعي[38]. وعليه، فإنّ وهج الفكرة الدينيّة ونفاذ أثرها إلى السلوك الفردي والاجتماعي، يحتاج إلى مربين اجتماعيين لهم صلة وثيقة بالله، وسلطان على الواقع، وقدرة على تغيير الأنفس والمحيط، ومهارة تعليم فن الحياة والعيش المشترك والتحضر[39]. فحضارة الإنقاذ ونجدة الاقتصاد، يفرضان وجود إنسان الإنقاذ، والمزاوجة بين بُعد الأرض وبُعد السماء.
6 – الإرادة الحضاريّة وقود حيوي للبناء الاقتصادي والحضاري
إنّ مشكلة المجتمعات الإسلاميّة هي في الجوهر مشكلةٌ حضاريّةٌ. لقد أصيبت إرادتها بالضمور والوهن، فتخلّفت عن ركب الحضارة. لذا، فإنّ فرص إقلاعها الاقتصادي ترتهن إلى إرادة قويّة تضخ الفعاليّة في الأفكار، وتمنح الوعي بالأهداف، وتذكي التفاعل بين النفس والفكرة، وتنتشل المجتمع من سجن استبطان الدونيّة وحالة الطوارئ وشراك التخلّف. فالإرادة هي التي تصنع الإمكان الحضاري[40]. إنّ العلاقة بينهما علاقة سببيّة. فالإرادة الحضاريّة هي سبب الإمكان[41]، والعامل الذي يساعد على تجاوز حدود الإمكان. ولعلّ منجزات الأمّة الإسلامية في بداياتها، وتجربة الصين تنطوي على دروسٍ ثمينةٍ في هذا المجال. لقد حقّقت الأمّة الإسلامية في زمن الرسول منجزات تفوق إمكاناتها. واستطاعت الصين بفضل تصميمها وقوة إرادتها أن توازن بين الإنسان والمجال والزمن، وتسرّع من وتيرة تقدّمها الاقتصادي، وتحقّق إنجازًا حضاريًا مبهرًا. وبالمثل، تسلّحت ألمانيا بإرادتها الحضاريّة الصلبة للانبعاث من رماد الحرب العالميّة الثانية وتسلّق مراقي النّهضة الاقتصاديّة[42].
ثالثًا: فتوحات منهجيّة في تحليل التخلّف الاقتصادي والفجوة الحضارية:
لم يكن مشروع الإنقاذ الحضاري لمالك بن نبي متفرّدًا في عمق مضامينه وثراء أفكاره فحسب، بل كان متميّزًا أيضًا في منهجيّة قراءته لواقع بلدان الجنوب، وطريقة تناوله لقضايا التخلّف الحضاري. ولعلّ منهج مالك في مقاربة سؤال التنمية وتعبيد مسالك للإقلاع، يطفح بكثير من مظاهر الجدّة والابتكار. فإضافة إلى أنّ رهان الانتهاض الحضاري يعدّ أيضًا مسألة منهج وصيغ فنيّة، لاحظ مالك بن نبي أنّ منزع الأوائل في تشخيص الأمراض والأعطاب الحضاريّة للأمة الإسلامية، لا يساعد على الانفكاك من آسار الانحطاط؛ بسبب انعطاب منطلقاتهم المنهجيّة، ووجود خلل في الرؤية لا ييسّر الإمساك بسنن الدورة الحضارية، وصياغة بدائل حضارية فعالة. وسنركز في هذا الصدد على الأبعاد المنهجيّة المتعلقة فقط بسؤال التنمية.
انخرط مالك بن نبي، المنهجس بمنهج التغيير، في أفقٍ حضاريٍّ، وزاوج بين التوسّل بالفكر القرآني وارتياد آفاق فكريّة مختلفة. وإذا كان قد تمثّل «فلسفات الحضارة الحديثة تمثّلًا عميقًا»، ورفد من مفكرين وفلاسفة غربيين[43]، فإنّه أبان عن قدرة فائقة على استيعاب تلك الفلسفات والاتّجاهات الفكرية ونقدها وتجاوزها. وظف الحضارة وحدة للتحليل، وطوّر عدّة منهجيّة لتشخيص وعلاج معضلات العالم الإسلامي ومشكلاته الحضارية[44]، انطلاقًا من رؤيةٍ شاملةٍ ومتماسكةٍ تتجاوز الذرية التي وسمت منهج الإصلاحيين والتجديديين، والإفراط الذي طبع منزع الرأسمالية والاشتراكية.
تمتاز مقاربة مالك بن نبي لقضايا التنمية تميزها إذًا، من قدرته على مراجعة ونقد فلسفة المذاهب الاقتصادية الكبرى، والنزوعات المنهجيّة لحركات النهضة، ومحاولات المثقفين تلقّف وصفات الغرب ومنظوماته الإيديولوجية، وأيضًا من براعته في تجاوزها ووصل العلاقة بين أهداف الوحي وقرارات الأرض، وبين الأخلاق والاقتصاد. ينتصر المذهب الاقتصادي التقليدي، الذي يُعدُّ آدم سميث أحد روّاده، لمنطق السوق. فالنمو الاقتصادي المنتظم والمتوازن حسب النظرية التقليدية، يتحقّق بشكلٍ آليٍّ بفضل قوانين طبيعيّة. فالاستثمار يتّجه تلقائيًا بشكل تلقائيٍّ نحو المجالات ذات القيمة المضافة العالية. ثمة يد خفيّة توجّه الأفراد لتحقيق المصلحة العامة التي لا تتعارض في شيءٍ مع المصالح الخاصّة. ولأنّ وظيفة النقود، حسب هذه النظرية هي التبادل، فإنّ الدخول يتم إنفاقها على الاستهلاك والاستثمار. إنّ كلّ عرض يخلق طلبًا مقابلًا له. فالطلب يتم خلقه عبر الدخول الناتجة عن توظيف العمّال. على أنّ إنفاق هذه الدخول يعني جني أفراد آخرين لأرباح يُعاد إنفاقها من جديد. وفي حالة ما إذا كان الطلب ضعيفًا، فإنّ السّوق تظهر ذلك، بحيث تعدّ الأثمان مؤشّرًا على حجم الإنتاج. لقد آخذ مالك بن نبي على هذه العقيدة الإيديولوجية، التي عرفت خلخلة كبرى بسبب الكساد الكبير لسنة 1929، تغذيتها لاضطرابات اجتماعيّة وانحرافات ثقافيّة، بسبب إباحيتها وإفراطها في الإنتاج، وإفلاسها في إعادة توزيع الثروة[45]. إنّ فروض الاقتصاد الكلاسيكي بنظر مالك بن نبي، تُفسد قواعد المنافسة المشروعة، وتشرعن منطق القوّة. فلا غرابة إذا خلّفت الإباحيّة الرأسمالية مآسي إنسانيّة كبرى، وكرّست نزعةً تقاطبية في المجتمع، بحيث مزّقت المجتمع إلى طبقتين تفصل بينهما هوّة سحيقة. لقد صوّبت الرأسمالية اهتمامها على المادة، وأولت عنايتها بالكم وتركيب الأشياء والأشكال، وأهملت الجوهر الإنساني.
ولئن سعت الاشتراكية لتجاوز انحرافات الرأسماليّة، فإنّها تشكو بدورها من أعطابٍ مزعجةٍ. صحيح أنّ مالك بن نبي أُعجب بالإسهامات الفكريّة الهامّة لماركس[46]، غير أنّه لم يُفتتن، خلافًا للكثيرين، بالماركسية، ولم يتردّد في انتقادها وكشف مظاهر محدوديّتها. إنّ الإديولوجيا الماركسية بإلغائها أو تحديدها للملكية، تعادي الفطرة الإنسانيّة. وبدل أن يهتمّ بالأخلاق مدخلًا لمغالبة العجوزات الاجتماعية التي تسبّبت فيها الرأسمالية، ركّز ماركس اهتمامه على العامل الاقتصادي، وظلّ منغلقًا في سجن حتميّة الصراع الطبقي. ولعلّ أُفول نجم الماركسية، يعكس صحّة ما ذهب إليه مالك بن نبي من أنّ الإديلولوجيا الماركسية، بمعاندتها للعقيدة والفطرة الإنسانية، تجاوزها الزمن[47].
ومثلما كشف أعطاب الإديولوجيات الرأسمالية والاشتراكيّة، رصد مالك بن نبي بعض مواطن محدوديّة فاعليّة مشاريع تياري الإصلاح والتجديد، وانتقد هرولة النّخب والدول الإسلاميّة لتلقف وصفات آدم سميت وكارل ماركس، دون مراعاة المعادلة الاجتماعيّة للمجتمعات الإسلاميّة. فرغم نُبل المشروع النهضوي لجمال الدين الأفغاني، قدر مالك بن نبي أنّ مطالبه الجذريّة بإزالة الأنظمة السياسية القائمة، وبناء حكومة إسلاميّة كبرى، محدودة الأثر في غياب إصلاح الإنسان، أس النهضة[48]. ولئن كان محمد عبده قد راهن على إصلاح الفرد مسلكًا لانتشال الأمّة الإسلاميّة من أحابيل مأساتها، فإنّ مالك بن نبي انتقد منهجه في الإصلاح. فكيف له بتركيزه على إصلاح علم الكلام المنهجس بالجدل والمناظرة، أن يصلح النّفس الإنسانيّة. لقد أخفق باختياره ذاك، في تشخيص المشكلة النفسيّة التي تشكو منها المجتمعات الإسلامية، وحاد عن سبيل التغيير الأنسب. فما ينتشل المجتمع من وضع الخمول، ويشحذ طاقة المسلم، ويحرّضه على البناء، هو«انتفاضة القلب» نتيجة الارتواء من الشعور بوجود الله، وليس إثبات علماء الكلام لوجود الله. وفضلًا عن ذلك، بدا محمد عبده منكفئًا على رؤية تجزيئيّة، مفتقدًا لرؤية شموليّة تلمّ شعث الأجزاء المتناثرة. كما ظلّ منغلقًا على نفسه، نائيًا ببكارة فكره عن مهماز أيّ فكر وافد من الغرب[49]. ومن الأعطاب الشائعة للفاعليّة عند المصلحين أيضًا انغلاقهم في قوقعة الماضي وانتكاس فكرهم إلى الوراء، بحيث أمست ثقافتهم أثرية تحتفي بالماضي. تنضاف إلى ذلك، نقيصة استحكام النزعة الكمية، بحيث كانوا ينبهرون بالكم. وعوض مصارحة الذات بفضح عجزها وكشف نواقصها والسعي لتدراكها، ينزعون إلى التورية وتستعر شهوتهم للتجميل بتوسط الشعر[50]. أما تيّار التجديد، فكان سطحيًّا في رؤيته للحضارة الغربية، وفي ممارساته وحياته، ومفتقدًا لـ«نظريّة محدّدة». وقد خلص مالك، إلى أنّ الحركة الحديثة بإيثارها لمنطق تكديس منتجات الحضارة الغربية، واستعارتها للأذواق المادية فقط، تفصح عن طابعها البدائي وافتقادها لـ«الفاعلية الواقعية»[51]. من جهة أخرى، تواترت مساعي النقل الميكانيكي للفتوحات التقنيّة للحضارة الغربية، والتسليم بحتميّة الاختيار بين آدم سميث وكارل ماركس. لقد عصبت النّخب في العالم الإسلامي أعينها عن نزق السّوق، وعمى الأورتدوكسيّة النيوكلاسيكية، ولا عقلانيتها الأداتيّة، وأشاحت بوجهها عن الأفكار الماركسية الميتة، وأصرت على أن لا مخرج من المشكلات الاقتصادية المزمنة إلا بمحاكاة الرأسمالية أو الاقتباس من الاشتراكية من دون تنقية أو مراجعة. وكانت النتيجة، أنّها فشلت في توفير الشروط المادية، وعجزت عن بلورة إرادة متوثّبة لتحريك المجتمع، ودفعه لتجديد مهمّاته التاريخية والاجتماعية. فكيف لهذه التيّارات التي لم تتّجه صوب أصول الفكرين الإسلامي والغربي، وعجزت منهجيًا عن تغيير الأنفس، وضخّ التّوتّر الإيجابي في شرايين المجتمع لاستنهاض همّته، واستسلمت لنزعة حتميّة الاختيار بين الرأسمالية والاشتراكية، أن تردم الفجوة الحضارية، وتحرّض الأفراد على الإنتاج وتحقيق الإقلاع الاقتصادي؟
وخلافًا لمنزع المذاهب الاقتصادية الغربية، وجهود الاتجاهين الإصلاحي والحديث في العالم الإسلامي، بلور مالك بن نبي منظورًا حضاريًا أصيلًا، يصل العوامل الاقتصادية بالجوانب الثقافية والأخلاقية، متوسلًا بقانون أزلي مضمّن في القرآن، عسر تغيير الأوضاع من دون تغيير النفوس. لقد سعى إلى إبراز السنن التي تضبط حركة التاريخ، والنواميس التي تحكم عملية التغيير، مستهديًا بمعادلة ركّب عناصرها بشكل بديع، الإنسان والتراب والوقت، وبوّأ الإنسان قلبها. فالإنسان المسلّم بنظره «يعدّ السند المحسوس للفكرة الإسلاميّة»[52]. كيف لا وقد كرّمه الله ورفعه إلى مقام أسمى من مقام المواطن في الدساتير الغربية. وبقدر ما يسبل عليه ذلك التكريم الإلاهي قيمة لا تضاهيها القيمة التي تمنحها له النماذج الناسوتية، بالقدر نفسه يلقي بالمسؤوليّة على عاتقه، ويشذب نزعاته السيئة، ويقيه من آفتي العبوديّة والاستعباد[53]، فيكون صالحًا لنفسه وللمجتمع. لم يأل مالك بن نبي إذن جهدًا لتجسيد المنهج في استيعاب القرآن الكريم، ووصل السماء بالأرض متطلّعًا لتخلق بذرة التوتّر المحرضة على الفعالية. وانطلاقًا من ذلك، لا يتصوّر إمكانيّة تحقيق إقلاع اقتصادي، بالتوسّل فقط بأضلاع المال والحرية، بل شدّد على ضرورة تخليق الاقتصاد من خلال التقيد بالضوابط الإسلامية. فالإسلام لا يطلق العنان للمال، ولا يقبل تركز الثروة بيد الأغنياء، ويرفض أن تكون الحرية الفردية سببًا للإضرار بحقوق المجتمع. فبتحريمه لعبادة وثن الأنا والربا والاحتكار والمنافسة غير المشروعة، عقل شهوة الحرية وشره مراكمة الثروة، وحرّر الإنسان والاقتصاد من الاستعباد و«سلطة الدرهم المطلقة»[54]. ويتجلى منهج مالك في تخليق الاقتصاد أيضًا، في دعوته لتغيير الوجهة من خلال التركيز على الإنتاج باعتباره واجبًا ينصرف أثره إلى عموم المجتمع. فأولويّة الإنتاج توفّر فائضًا يجعل المعادلة الاقتصادية إيجابية[55]. ويتقاطع مالك بن نبي في عنايته بالأخلاق في حقل الاقتصاد نسبيًا، بالفيلسوف والاقتصادي الهندي الأميركي أمارتيا صن(Amartya Sen). فقد شدّد هذا الأخير، على وجوب استلهام السياسة الاقتصادية لرؤية تنزع إلى أنسنة الاقتصاد، ودعم الاقتدارات، وتحقيق العدل، وعدم مخاصمة الحقوق والحريات. فمن شأن هذا المنزع، التلطيف من المفاعيل السلبيّة لنزق السوق، والإشاحة بالوجه عن النموذج الذي يركز على الأساس الميكانيكي للاقتصاد والذي لا يكف عن إغداق الفقر. فلا بدّ من استحضار البُعد القيمي، والاستعاضة عن هاجس النّمو بهم التنمية الاقتصادية. فإذا كانت العقلانيّة وفق الليبراليين التقليديين تعني تأويجًا للمنفعة الموجودة، فإنّها بالنسبة له تفيد ضرورة إخضاع الاختيارات لمتطلبات العقل. غير أنّ هذا الأمر لا يستبطن تجاهلًا كليًا لمنطق السّوق. فـ(أمارتيا صن) يعترف بإمكانيّة تحقيق التأويج الذي هو غاية السوق، من خلال الحريات. فإذا كانت السوق ترتبط بشغف المشاركة في التبادل، فإنّ هذا التبادل يهب الحرية. بهذه الطريقة دمج بين الأساسين الميكانيكي والأخلاقي، وزاوج بين إرث الفلسفة السياسية وأنفاس فكر فالراس (Walras). يقتضي هذا الأمر، إذن تكاملًا و توازنًا بين أدوار الدولة و الأداء الوظيفي للسوق.
ومن التعبيرات الأخرى لتميز منهج ومقاربة مالك بن نبي لسؤال التنمية وبشكل عام لمشكلات الحضارة، قدرته على الرفد من تخصّصات معرفيّة متنوّعة، واستثمار طرائق منهجيّة مختلفة في الرصد والكشف عن السنن والتحليل والتفسير والاستشراف، ونحت شبكة مفاهيميّة ثريّة. لقد استفاد من الفكر الإسلامي، وعلم التاريخ، وعلم النفس، وعلم الاقتصاد، والفلسفة، وعلوم الاجتماع، والهندسة، والبيولوجيا، والتفكير الرياضي، وغيرها من التخصّصات. هذا الانفتاح المعرفي، أكسبه القدرة على معرفة سنن الله في الكون والأنفس وفهمها، ودقّة النظر في تشخيص أعراض التخلّف الاقتصادي والانحسار الحضاري وتحديد أسبابهما، ونحت أفق حضاري بديل. وقد نبه مالك بن نبي إلى أنّ الانتهاض الحضاري بما هو عمل شعوري، يتطلّب منهجًا مختلفًا عمّا درج عليه المسلمون. إنّه يقتضي مكابدة يوميّة تستنفر الاستعدادات القلبية والعقلية والفكرية للإنسان. فالتغيير الاقتصادي المنشود، لا يأخذ صيغة رشقة أو دفقة فجائيّة، بقدر ما هو مسلسل وثيق الصلة بالوعي التاريخي، وشرائط الوجود والتطور الإنساني، والاستئناف الحضاري. فلا بدّ من الأخذ بأسباب التمكين الاقتصادي، واستثمار الإمكانات الذاتية للمجتمعات الإسلامية وتراكمات الحضارة الغربية. ووظف مالك بن نبي مناهج الاستقراء، والاستنباط، والقياس، والوصف، والتحليل الكمي، والتفكيك…. كما بلور معادلات اقتصادية مترعة بحس قرآني، وصاغ عدة مفاهيمية دقيقة بحمولة اقتصادية من قبيل التكديس، و الاقتصادانية، والاستثمار الاجتماعي، والاستثمار المالي، وإنسان التنمية، واقتصاد القوت،….
رابعًا: على سبيل الختم
قدم مالك بن نبي رؤيةً شاملةً ومندمجةً لقضايا التخلّف الاقتصادي، وشرّح بشكلٍ منهجيٍّ دقيقٍ معضلات الانطلاق ومعيقاته. وقد زاوج في مجهوده التشخيصي والعلاجي، بين استقراء واقع المسلمين وأحوال الغرب، والإفادة من معين القرآن وأعلام الفكر، وبخاصّة العلامة ابن خلدون. ولئن تعدّدت مداخل التغيير والإصلاح، فإنّ منطق الأشياء والتحليل يقتضيان ملاءمة العلاج مع جوهر الأزمة. وطالما أنّ الأزمة بنظره حضاريّة، فإنّ فعاليّة مسالك التغيير وسبل الانطلاق، تقترن بقدرتها على صنع إنسان الحضارة والتنمية، وبمدى نجاحها في التوسل بالتفكير المنطقي، واختيار منهجيّة البناء، وتعبئة الوسائل الكفيلة بهزم روح الخمول والحالة الانهزامية التي سيطرت على الفرد المسلم وجثمت على المجتمع المسلم، وإذكاء «الانتفاضة القلبية» الميسرة للانبعاث الحضاري. وقد وُفّق مالك بن نبي أيّما توفيق في رسم معالم طريق ذلك الانبعاث، ونسج خيوط منهجيّة تغيير النفس والسلوك، تأهبًا للانطلاق الاقتصادي والارتقاء الحضاري. فانتشال المجتمعات الإسلامية من ربقة التخلف الاقتصادي، واستئناف دورة الحضارة، مشروع متداخل الحلقات، تتعاضد فيه الإرادة والإمكان الحضاريين.
على أنّ مشروع مالك بن نبي الحضاري الذي كان حبيس رفوف المكتبات، ولم تستفد الأمة الإسلامية من نسخه، يحتفظ براهنية كبرى في زمن تواتر فيه تخلف اقتصاديات أغلب المجتمعات الإسلامية، واستحكمت فيه حلقات تخلّفها الحضاري. وعليه، تبدو الحاجة ملحّة اليوم لاستثمار الأبعاد المختلفة لذاك المشروع، من خلال إعادة قراءته ومدارسة جوانبه المختلفة من قبل الباحثين، وأساسًا من خلال تمثّل المسؤولين في كلّ القطاعات لرسالته الحضارية، وترجمتها إلى برامج وإجراءات توقظ المجتمعات الإسلامية من سباتها الحضاري، وتبدّد سديم ركودها الحضاري، وتزرع أمشاج التوتّر الخلّاق في شرايينها الضامرة، وتنعش اقتصاداتها المترهلة. فالرهان الفكري والبيداغوجي والسياسي والأخلاقي، على مشروع سنني بمثل هذا العمق والشموليّة والقابلية للتجسيد، بإمكانه أن يوخز الضمير الفردي، ويضخّ جرعات الفاعلية في أنسجة المجتمع، ويبعث الحياة في بيئات اقتصادية جذيبة، ويجسر الهوة بين الفكرة والسياسة.
من جهة أخرى، تساعد رؤية مالك بن نبي على إعادة ضبط علاقاتنا الاقتصادية والحضاريّة بالغرب على أسس عقلانيّة. فالمسلمون غالبًا ما يتأرجحون بين مقامات التبعيّة والانبهار بالغرب وتقليده، والاحتراز من التعامل معه وشيطنته. والأحرى أن يكون التعامل مع الغرب براغماتيًا. فالغرب ليس كلّه ميتًا أو شرًّا مستطيرا. إنّ ما يُحدّد قدرتنا على الاستفادة المنهجيّة من الحضارة الغربية، هو قابليّة تعلمنا وإرادتنا الحضارية لتجاوز قصورنا لنصير فاعلين في «الحضارة العالمية»، ومشاركين في الأفق الإنساني، مسلحين بضمير إسلامي خلاق. إنّ العناية بالمشروع السُّنني لمالك بن نبي، فهمًا وتطبيقًا، مدخلٌ أساسيٌّ لمجاوزة ذلك القصور، واستئناف مسيرتنا الحضارية.
قائمة المصادر والمراجع:
1- العربية:
المصادر:
– مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، دمشق: دار الفكر، 1960.
– مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دمشق: دار الفكر، 1986.
– مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، الجزء الأول شبكة العلاقات الإجتماعية، ترجمة عبد الصبور شاهين، ط 3. دمشق، الجزائر: دار الفكر، 1986.
– مالك بن نبي، بين الرشاد والتيه، ط 2. الجزائر: دار الفكر، 1988.
– مالك بن نبي، ميلاد مجتمع. شبكة العلاقات الاجتماعية، ترجمة عبد الصبور شاهين. دمشق: دار الفكر، 1989.
– مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة بسام بركة وأحمد شعبو، ط 1. الجزائر : دار الفكر، 1992.
– مالك بن نبي، فكرة كومنويلث إسلامي، ترجمة الطيب الشريف، ط2. دمشق: دار الفكر، 1999.
– مالك بن نبي، المسلم في عالم الاقتصاد، دمش : دار الفكر، 2000.
– مالك بن نبي، القضايا الكبرى، دمشق: دار الفكر، 2000.
– مالك بن نبي، فكرة الأفريقية- الأسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ، ط 8. دمشق: دار الفكر، 2001.
– مالك بن نبي، تأملات، الجزائر: دار الفكر، 2002.
– مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة عبد الصبور شاهين. دمشق: دار الفكر، 2002.
– مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، ط 4. دمشق: دار الفكر، 2006.
الكتب:
– بحيري. قادة، محطات اقتصادية من فكر مالك بن نبي، بيروت: دار الغرب للنشر والتوزيع، 2005.
– بن براهيم الطيب، مواقف وأفكار مشتركة بين مالك بن نبي وابن خلدون، الجزائر: دار مداني للنشر والطباعة، 2008.
– بودقزدام. عمران، التجديد في المشروع الحضاري عند مالك بن نبي. الجزائر: وزارة الثقافة، دار الهدى، 2015.
– جدعان. فهمي، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العلام العربي الحديث، ط 2. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981.
المقالات والدراسات:
– برغوث. عبد العزيز، « من أساسيات المنهاج الحضاري عند مالك بن نبي، وحدة تحليل مشكلات الإنسان من »الحضارة « إلى »الحضارة العالمية « «، بونة للبحوث والدراسات، العدد 3، (حزيران/ يونيو 2005)، ص 27 – 54.
– قلاتي. بشير، «ظاهرة التكديس عند مالك بن نبي. دراسة في الفقه الحضاري»، المجلة الثقافية، العدد 70 (2007)، ص 140 – 146.
– ميهوب. العابد، « مفهوم التنمية في فكر مالك بن نبي»، مجلة علوم الإنسان والمجتمع، العدد 2 (يونيو 2012)، ص141- 176.
مسقاوي. عمر، «شروط النهضة والبناء الجديد في فكر مالك بن نبي»، بونة للبحوث والدراسات، العدد 3 (حزيران / يونيو 2005)، ص 91 -110.
——————————–
[1]*ـ باحث وأستاذ العلوم السياسية ـ جامعة ابن طفيل ـ المملكة المغربية.
[2] – مالك بن نبي: المسلم في عالم الاقتصاد، لا ط، دمشق، دار الفكر، 2000، ص61.
[3] – عمران بودقزدام: التجديد في المشروع الحضاري عند مالك بن نبي، لا ط، الجزائر، وزارة الثقافة، دار الهدى، 2015، ص 201.
[4] – مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي، ترجمة: عبد الصبور شاهين، لا ط، دمشق، دار الفكر، 2002، ص 95.
[5]– مالك بن نبي: ميلاد مجتمع. شبكة العلاقات الاجتماعية، ترجمة: عبد الصبور شاهين، لاط، دمشق، دار الفكر، 1989، ص 42.
[6]– م.ن، ص 45.
[7] – مالك بن نبي: شروط النهضة، ترجمة: عبد الصبور شاهين، لا ط، دمشق، دار الفكر، 1986، ص 28.
[8] – يقصد مالك بن نبي بالأفكار الميتة، تلك التي انسلخت عن الثقافة الأصيلة للأمة، فأمست بمثابة جراثيم تنقل العدوى. أما الأفكار المميتة فعنى بها تلك التي «فقدت هويتها وقيمتها الثقافية بعدما فقدت جذورها التي بقيت في مكانها في عالمها الثقافي الأصيلـ«.
راجع: مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة: بسام بركة وأحمد شعبو، لا ط، الجزائر، دار الفكر، 1992، ص 153 و ص 158.
[9] – مالك بن نبي: تأملات، ط 5، الجزائر، دار الفكر، 1991، ص 158.
[10]– مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، م.س، ص 148 و ص 152.
[11]– مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، م.س، ص83 وما بعدها.
[12] – سورة آل عمران، الآية 144.
[13] – مالك بن نبي، تأملات، م.س، ص 166.
[14] – مالك بن نبي: فكرة الأفريقية- الأسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ، ط 8، دمشق، دار الفكر، 2001، ص 84.
[15] – بشير قلاتي: «ظاهرة التكديس عند مالك بن نبي. دراسة في الفقه الحضاري»، المجلة الثقافية، العدد 70 (2007)، ص 143.
[16] – حذر المفكر البريطاني مجتمعه من ذلك الداء الذي اعتبره «أحد أوهام العقلـ«.
راجع: العابد ميهوب: « مفهوم التنمية في فكر مالك بن نبي»، مجلة علوم الإنسان والمجتمع، العدد 2 (يونيو 2012)، ص 145.
[17] – مالك بن نبي: ميلاد مجتمع، الجزء الأول شبكة العلاقات الاجتماعية، ترجمة: عبد الصبور شاهين، ط 3، دمشق، الجزائر، دار الفكر، 1986، ص105.
[18] – مالك بن نبي: فكرة كومنويلث إسلامي، ترجمة: الطيب الشريف، ط2، دمشق، دار الفكر، 1999، ص 22.
[19] – مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، م.س، ص97.
[20] – مالك بن نبي: الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، لا ط، دمشق، دار الفكر، 1960، ص27.
[21] – مالك بن نبي، تأملات، م.س، ص30- 31.
[22] -عمر مسقاوي: «شروط النهضة والبناء الجديد في فكر مالك بن نبي»، بونة للبحوث والدراسات، العدد 3 (حزيران / يونيو 2005)، ص 105.
[23] – مالك بن نبي: مشكلة الثقافة، ترجمة: عبد الصبور شاهين، ط 4، دمشق، دار الفكر، 2006، ص 75.
[24] – مالك بن نبي، تأملات، م.س، ص 163.
[25] – مالك بن نبي، تأملات، م.س، ص 129.
[26] – مالك بن نبي، المسلم في عالم الاقتصاد، م.س، ص 59.
[27] – بن براهيم، الطيب: مواقف وأفكار مشتركة بين مالك بن نبي وابن خلدون، لا ط، الجزائر، دار مداني للنشر والطباعة، 2008، ص 114.
[28] – مالك بن نبي، شروط النهضة، م.س، ص 78.
[29] – مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، م.س، ص 80 – 81.
[30] – مالك بن نبي، المسلم في عالم الاقتصاد، م.س، ص 89.
[31] – م.ن، ص 40.
[32] – مالك بن نبي، بين الرشاد والتيه، ط 2، الجزائر، دار الفكر، 1988، ص 183.
[33] – مالك بن نبي، المسلم في عالم الاقتصاد، م.س، ص 32.
[34] – مالك بن نبي، فكرة الأفريقية- الأسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ، م.س، ص 128.
[35] – مالك بن نبي ميلاد مجتمع، م.س، ص 104.
[36] – عمران بودقزدام، التجديد في المشروع الحضاري عند مالك بن نبي، م.س، ص 231.
[37] – مالك بن نبي، شروط النهضة، م.س، ص 96.
[38] – مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، م.س، ص 106.
[39] – م.ن، ص 100.
[40] – مالك بن نبي، المسلم في عالم الاقتصاد، م.س، ص 83.
[41] – م.ن، ص 62.
[42] – مالك بن نبي، شروط النهضة، م.س، ص 73.
[43] – فهمي جدعان: أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العلام العربي الحديث، ط 2، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981، ص 410.
[44] – عبد العزيز برغوث: من أساسيات المنهاج الحضاري عند مالك بن نبي، وحدة تحليل مشكلات الإنسان من الحضارة إلى الحضارة العالمية، بونة للبحوث والدراسات، العدد 3، (حزيران/ يونيو 2005)، ص 27.
[45] – مالك بن نبي، المسلم في عالم الاقتصاد، م.س، ص 43.
[46] – قادة بحيري: محطات اقتصادية من فكر مالك بن نبي، لا ط، بيروت، دار الغرب للنشر والتوزيع، 2005، ص79.
[47] – مالك بن نبي، المسلم في عالم الاقتصاد، م.س، ص45.
[48] – مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، م.س، ص50 – 52.
[49] – مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، م.س، ص 53 – 55.
[50] – م.ن، ص 60.
[51] – مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، م.س، ص 68 – 69 وص 71.
[52] – مالك بن نبي، شروط النهضة، م.س، ص 84.
[53] – مالك بن نبي، تأملات، م.س، ص 77.
[54] – مالك بن نبي، المسلم في عالم الاقتصاد، م.س، ص 89.
[55] – م.ن، ص 88 – 89.
رابط المصدر: