محمد علي جواد تقي
لا أعلم الاسباب الحقيقية وراء إذكاء الروح الطائفية مرة أخرى في العراق بالدعوة للحفاظ على “الفرصة الأخيرة والتاريخية” للشيعة في العراق، والحذر من مغبة خسران الحكم بعد طول انتظار!
فاذا كان الامر يتعلق بتعيين المحسوبين على النظام البائد، او ممن ينتمون الى حزب البعث المنحل في مؤسسات الدولة، فان المتابع لما جرى ويجري، يعرف أن هذه ليست الصفقة الاولى منذ دخول ابناء المنطقة الغربية والموصل في العملية السياسية في انتخابات عام 2006، وإلا لما تمكنت الاحزاب السياسية الشيعية من الحصول على المكاسب والمغانم لولا تصويت النواب من الكتل الاخرى بعد الاطمئنان على عودة رجالها الى الدوائر الحكومية، والمؤسسة العسكرية والامنية، وحتى الى الكادر التدريسي في الجامعات.
وما يعزز الاستفهام؛ الحرص الغريب من البعض على الربط بين الانتماء لحزب البعث، والانتماء للطائفة السنية في العراق، ورسم صورة نمطية من وحي الخيال بأن كل من يتبع المذهب السنّي هو بالضرورة أحد رجال النظام البائد، ولابد أن يكون مسؤولاً عن جريمة من الجرائم التي ارتكبها ذلك النظام طيلة الاربعين عاماً من وجود البعث العراقي في الحكم، في حين المطلّع على أدبيات هذا الحزب يجد عدم ايمانه مطلقاً بالقيم المعنوية والمفاهيم الاخلاقية والالتزامات بالاحكام الدينية كمنهج لحياة الانسان، وقالها صدام في اجتماع لانتخاب اعضاء القيادة القطرية للحزب بأننا “لا يهمنا إن كانت صفة هذا الانسان او ذاك حميدة أو ذميمة، بقدر ما يهمنا ايمانه الخالص بأفكار الحزب وقدرته على التغيير”.
تضحيات الشيعة من أجل الدين أم السياسة؟
منذ الايام الاولى للمواجهة الدامية بين شيعة العراق ونظام حزب البعث لم يكن يفكر من اعتقل وعُذّب وقطعت أوصاله ثم مات تحت التعذيب او بأشكال مريعة اخرى، أنه يواجه فكر البعث بفكر سياسي آخر، كما كان الحال بالنسبة للشيوعيين –مثلاً- بقدر ما كانوا مؤمنين بقيم سماوية يريدوها منهجاً في حياتهم.
إقامة المآتم والمشاركة في المواكب الحسينية، وايضاً إقامة الشعائر الحسينية، وقراءة كتاب نهج البلاغة وكتب الفكر والعقائد، وحتى الصلاة في المساجد، بل وإطلاق اللحى، والحجاب وغيرها كثير من المظاهر والالتزامات الدينية، كانت تشكل مادة التقارير لمن كانوا يسمون بـ “بوكلاء الأمن”، وتؤدي باصحابها الى الموت والمقابر الجماعية، علماً أن قوافل الشهداء من الرجال والنساء من مختلف الاعمار من خيرة المجتمع العراقي، لم يبغوا من قراءة نهج البلاغة، ولا الاستماع او قراءة تفاصيل واقعة عاشوراء حتى يكون أحدهم مديراً عاماً في دائرة حكومية، او ان يحصل الى امتياز وتخويل لشراء ملايين الدولارات من العملة الصعبة بأسعار متدنية، او يتبوأ مناصب حكومية وعسكرية له أو لابناءه بعد الاطاحة بنظام صدام، ولكن؛ ما مضامين عاشوراء ونهج البلاغة وتراث أهل البيت، عليهم السلام، كان صدام ومستشاريه يقرأونها على أنها وثائق إدانة مباشرة وتهديد لكل سياسي يحكم بالحديد والنار، ويمارس الدجل والنفاق في بلد مسلم.
نقل أحد الاصدقاء أنه تفاجأ بوجود أحد أبرز كوادر الحركة الاسلامية الشيعية جالساً في حرم الإمام الحسين، عليه السلام قبالة الضريح، وذلك بعد أيام من اعتقاله عام 1979، وقد أحاط به رجال الأمن، ثم تبين أن الأخ الشهيد كان وعد رجال التحقيق بأن يدلهم على من يرتبط بهم اذا ما أخذوه الى ضريح الإمام الحسين، فهناك الملتقى! بيد أن الحقيقة الكبرى بانت عندما عرف الجميع أن الشهيد أراد من هذه الخطة الذكية الوصول الى ضريح الإمام الحسين، عليه السلام، وأداء الزيارة وتجديد الولاء والعهد بالسير على نهجه حتى الرمق الأخير.
حتى الخلايا التنظيمية للحركة الاسلامية في ستينات وسبعينات القرن الماضي، كانت تبني القواعد الفكرية لافرادها من خلال محافل القرآن الكريم والمحاضرات الدينية، وايضاً بالاستفادة من وهج النهضة الحسينية وما تضمه من دروس وعبر، مع ذلك؛ فان التصفيات الدموية طالت كل من يمتّ بصلة الى المنتمين لهذه الحركة بصداقة او قاربة او جيرة، او حتى صاحب دار مؤجّر، علماً أن هذه الخلايا التنظيمية كانت محدودة على شريحة الطلاب والمثقفين فقط.
استمرت هذه الجذوة المتقدة في النفوس حتى احداث حرب تحرير الكويت عام 1991، واندلاع الانتفاضة الجماهيرية المسلحة في الوسط والجنوب، وبغض النظر عن ملابسات وخلفيات الاحداث آنذاك، فان الجماهير المنتفضة آنذاك، إنما كان يحركها ويدفعها للتضحية بارواحها، هي حرارة النهضة الحسينية التي تصاعدت من جديد، ولعل المقاومة البطولية والمشهودة لأهالي كربلاء المقدسة لاسبوعين متواصلين تحت نيران الصواريخ والقذائف وزحف الحرس الجمهوري، يكون دليلاً ساطعاً على حقيقة الدوافع الجماهيرية من المواجهة مع نظام صدام.
وبذلك؛ بقي شيعة العراق يدافعون بكل شجاعة وبطولة عن قيمهم ومبادئهم، فيما كان نظام صدام يدافع مستميتاً عن كرسي الحكم، ويسعى بكل الطرق والاساليب لإطالة فترة وجوده في الحكم.
ويبدو أن شيعة العراق كانوا على موعد آخر لتضحيات جسام لم تكن بالحسبان، لانها حرب مفروضة ودفاعية أمام مد تكفيري وارهابي مدعوم اقليمياً ودولياً، فكانت الهبّة العظيمة والمذهلة لشباب الوسط والجنوب لايقاف عناصر داعش في حدهم عام 2014، ثم الاستعداد الكامل فيما بعد لتحرير كل شبر دنسته هذه العناصر ومعظمها اراض تابعة لأهل السنة في محافظات الانبار وصلاح الدين والموصل وديالى، فتحت رايات “ياحسين” قدم الآلاف من الشباب الشيعي أرواحهم استجابة لفتوى المرجعية الدينية التي اعلنت الجهاد الكفائي لدحر قوى التكفير والارهاب، وهي النقطة الجوهرية التي تبلورت للعالم مرة أخرى بحقيقة الانتماء الشيعي والبواعث على هذا الاندفاع المذهل والتطوع بالآلاف نحو جبهات القتال.
ثمار التضحيات الى اين؟
في إحدى اجتماعات المعارضة العراقية في المهجر، دعا أحدهم الى النظام الفيدرالي لنمط الحكم المرتقب في العراق، وحينما سمع الاعتراض بأن هذا ربما يكون مقدمة لتقسيم البلاد على أساس طائفي وعرقي، أجاب بالحرف الواحد: “إن الشيعي في العراق طوال حياته لم يحصل على وظيفة حكومية أكثر من شرطي او كنّاس او معلم”!
هذا النمط الفكري السابق لصياغة نمط الحكم هو الذي يبحث عما يغذي الايديولوجيا بالدماء والتضحيات لتكون سنداً وتوثيقاً للنضال السياسي والمطالبة “بالحقوق المشروعة”، كما فعلت الاقليات العرقية والدينية في العالم مثل الأرمن بعد انهيار الدولة العثمانية، وسكان جنوب السودان ذات الاغلبية المسيحية التي اقتطعت جزءاً من دولة السودان عنوةً واعلنت لها دولة مستقلة معترف بها دولياً.
إن تضحيات الشيعة في العراق لا يمكن مقارنتها بأي تضحيات أخرى في العالم لما تحمله من مضامين ودلالات عميقة ذات ابعاد حضارية، وهو ما اكتشفه العلماء والباحثين في أمر ديمومة المذهب الشيعي، بل واكتسابه المزيد من القوة والنمو والانتشار منذ قرون تخللتها تصفيات دموية وتحديات جمّة.
وهذه التضحيات التي كانت لعلماء وأدباء ومثقفين، بل وعموم افراد المجتمع الشيعي ربما تكون وراء دعوة المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي للتسامح والعفو في فترة بناء نظام الحكم الجديد في العراق، ففي كتابه “السبيل الى إنهاض المسلمين”، دعا سماحته –رحمه الله- ابناء الحركة الاسلامية بأن “يتصفوا بالسلام تفكيراً وقولاً وعملاً مع الاعداء والاصدقاء فان السلام أحمد عاقبة وأسرع للوصول الى الهدف”، و”ان الانتقام يسبب تأخر الوصول الى الهدف”.
وبعد فترة، في سني الثمانينات أكدت سماحته ثانية على هذا المبدأ في كتابه “اذا قام الاسلام في العراق”، وهو الذي قاد حركة إصلاحية وتغييرية كبرى في العراق كلفت تضحيات جسام من علماء وخطباء وطلاب جامعة ومختلف شرائح المجتمع، والهدف الذي يشير اليه سماحته ليس هو المناصب الحكومية والامتيازات التي نرى اللهاث عليها والتنافس المحموم وغير الشريف، وانما هي الاهداف السامية والاستراتيجية في مسيرة النضال الشيعي منذ بدايته قبل اربعة عشر قرناً، وهي تكريس القيم والمبادئ في نفوس المجتمع الشيعي، ونشر الرسالة المحمدية في اوساط الأمة وفي العالم بأسره، وهو ما صرح به عدة مرات بأنه يطمح الى “توحيد المجتمع الشيعي، ثم إرشاد المسلمين الى التشيع، ثم إرشاد العالم الى الاسلام”.
ولعل من مفارقات الزمن الرديء أن نجد نفس أولئك الذين انتقدوا الامام الشيرازي في حياته على هذه الفكرة تحديداً، واصفين إياه نوعاً من التنازل للمجرمين، يعقدون الصفقات بعد مماته مع من كان يدعو للسلام معهم في العراق، وفيما بعد يتباكون على دماء الشيعة التي تراق هنا وهناك، ويطالبون “بقتل عشرة من السنة مقابل عشرة من الشيعة”!
إن تسييس التضحيات الشيعية وتوظيفها لخدمة مصالح خاصة ودنيئة له عواقب خطيرة في الوقت الحاضر وعلى صعيد المستقبل، أهمها:
1- حدوث تصدعات في الذهنية الشيعية إزاء مفاهيم كبرى مثل؛ التضحية، والقيادة، مع تراكم المعطيات السلبية و الترويج “لحقائق صادمة” بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ربما تتبلور استنتاجات مؤلمة بعدم جدوائية التضحية في ظل شعارات تسوقها تيارات وأشخاص همها المكاسب والمناصب فقط.
2- صهر ما تبقى من القوة الشيعية في بوتقة سياسية واحدة لسهولة القيادة والتوجيه بذريعة “التنظيم” لتكون في الساحة قوة سياسية شيعية واحدة، وليس قوى شيعية متعددة ومتكاملة فيما بينها، من مؤسسات ثقافية، وخيرية، ودينية، واصحاب رؤوس أموال، واكاديميين، وتجار السوق، وهذا ينسجم –بشكل او بآخر- مع التطلعات الاقليمية والدولية إزاء الوضع الاجتماعي والسياسي في العراق لحاضره ومستقبله.