د. علي مهدي
ان تعديل الدستور من الموضوعات القانونية والسياسية التي تحظى بأهمية فائقة، حيث دائما ما يكون احد المطالب الأساسية للمحتجين والمنتفضين، وكذلك هو مطلب الكثير من المعنيين بالعمل السياسي والشأن العام، ويجدون في الدستور النافذ السبب فيما آلت اليه الأوضاع الصعبة التي تمر بها البلاد وفي استمرار القوى المهيمنة على فرض اجندتها بالخلاف لما تطالب به جماهير الشعب المنتفضة، باستئصال هذه القوى التي تحاول ان توظف هذا الدستور من اجل إدامة بقائها رغم المأزق الكبير الذي وضعت به البلاد مما سببته من استفحال الفساد وضعف الخدمات وسيطرة العصابات المنظمة وضعف هيبة الدولة وضياع فرص كانت مواتية للتطور والانطلاق بعد سقوط الديكتاتورية والنظام الشمولي عام 2003.
ومن اجل المساهمة والتثقيف في قضية التعديل الدستوري والنقاش الجاري حوله، وخاصة بعد تشكيل اللجنة المعنية بذلك من قبل مجلس النواب.
فقد تم اعداد هذه المقالة التي ستكون في حلقتين: الأولى منها للضوابط التي لابد من التقييد بها عند الشروع بالتعديل وفي الحلقة الأخرى يتم التطرق الى الموضوعات التي تتطلب التعديل واقتراح البديل عنها.
الدستور هو الوثيقة الأساسية التي تبين شكل النظام وأسسه وتنظم عمل السلطات العامة واختصاصاتها وتتضمن الحقوق والحريات للأفراد، ومن الجدير بالذكر ان الدساتير تصدر من خلال جمعية تأسيسية منتخبة.
ويوجد نوعان من الدساتير: الدساتير المرنة والدساتير الجامدة:
الدساتير المرنة: هي الدساتير التي يمكن تعديلها بنفس الإجراءات التي يعدل بها القانون العادي، ومن أشهر الأمثلة للدساتير المرنة هو الدستور البريطاني حيث يملك البرلمان البريطاني أن يغير أو يعدل أو يلغي القواعد الدستورية سواء كانت عرفية أو مكتوبة بمجرد صدور قانون عادي حيث يستطيع البرلمان البريطاني أن يلغي النظام الملكي، وأن يحل محله النظام الجمهوري نظريا بنفس القواعد والإجراءات التي يعدل بها قانون المرور، ومن الدساتير المرنة الدستوران الفرنسيان لسنتي 1814، 1830 وكذلك الدستور الإيطالي لسنة 1848 والذي سمحت مرونته لموسوليني ان يغيره جذرياً من التنظيم الدستوري الى الديكتاتورية الفاشستية بواسطة قوانين عادية.
الدساتير الجامدة: فهي التي تتطلب لتعديلها إجراءات وشروط اكثر شدة وأكثر صعوبة من الإجراءات التي يعدل بها القانون العادي، وظهرت الدساتير الجامدة مع اول دستور مكتوب وهو دستور الولايات المتحدة لسنة 1789 والذي عُدل 26 مرة، وكذلك الدستور الفرنسي لسنة 1791 الذي انتقلت منه موجة كتابة الدساتير الى أوربا والعالم وقد جاء في متنه: ان حق الامة لا يسقط بالتقادم في تغيير دستورها، وهو ما أكده اعلان حقوق الانسان والمواطن الفرنسي الصادر سنة 1793: ان الشعب دائم الحق في ان يعدل وان يغير دستوره لان جيلا معينا لا يستطيع ان يلزم الأجيال التالية بقوانينه وأنظمته الدستورية.
وعادة ما تتميز إجراءات تعديل الدستور بطولها النسبي بالمقارنة مع تعديل القانون وكذلك ان السلطة المختصة بالتعديل تختلف عن السلطة التشريعية العادية في تشكيلها العادي، فهي تسمى بالسلطة التأسيسية المنشأة وهي من الناحية الشكلية اعلى مرتبة من السلطة التشريعية العادية التي تقر القوانين، فتعديل الدستور حتى لو تم بواسطة السلطة التشريعية إلا انه يتطلب الى اغلبية مشددة لإقراره بالأكثرية المطلقة لأعضاء السلطة التشريعية، أو ثلاثة اخماسها أو ثلثي الأصوات، وقد يتطلب أيضا الى استفتاء الشعب لغرض إقرار التعديل كما هو في الدستور العراقي لسنة 2005، والدستور المصري لسنة 2014. الهدف من ذلك هو لضمان نوع من الثبات لأحكامه.
ويجب القول ان معظم دساتير الدول المعاصرة هي دساتير جامدة.
وعلى ذلك سار الدستور العراقي الأول (القانون الأساسي) لسنة 1925 الذي خُصص مادتين لتعديله وهما (118)، (119) وهو اول الدساتير العربية التي أُجري فيها تعديل وقد عُدل ثلاث مرات، كان الأول بعد أربعة اشهر من صدوره، والثاني في سنة 1943، اما التعديل الثالث فكان قبيل سقوطه بعدة اشهر سنة 1958.
وقد اخذ المشرع العراقي عند صياغة دستور 2005 النافذ بالدساتير الجامدة، وتضمن مادتين لإجراءات تعديله وهما: المادة (126) للظروف الاعتيادية، والمادة (142) كحالة استثنائية، التي صيغت عشية التصويت عليه، لضمان مشاركة المحافظات الغربية، بعد مقاطعة القسم الكبير منها عند مناقشات اعداد المسودة الدستورية.
أنواع الحظر على التعديل الدستوري:
لغرض ايجاد الموازنة بين الحفاظ على الدستور كوثيقة تتميز بالعلوية والسمو وعدم العبث بها، وبين التطور الدائم لحركة الواقع السياسي، تفرض بعض الدساتير مجموعة من القيود، وهي تمثل آليات تحظر سلطة التعديل، للحفاظ على الفلسفة الاساسية للدستور وهما: الحظر الزمني والحظر الموضوعي:
الدساتير التي تحظر تعديلها لفترة زمنية (الحظر الزمني):
ان بعض الدساتير ينص فيها عدم جواز اقتراح تعديلها إلا بعد مضي فترة معينة (بعد مضي عشر سنوات مثلا من تاريخ صدور الدستور) اي ضمان نفاذ احكام الدستور كلها او بعضها فترة تكفي لتثبيتها ونيلها قسط من الاحترام، قبل ان يسمح باقتراح تعديلها، وهذا نجده في الدساتير التي تهدف الى وضع أنظمة جديدة مغايرة بشكل كبير عما سبقها، ومن الدساتير التي اخذت بهذا الحظر دستور الولايات المتحدة لسنة 1789 والذي حظر تعديل بعض احكامه قبل سنة 1808، خوفا من انفراط عقد الاتحاد ما بين الولايات، أي ما يقارب العشر سنوات، والدستور الفرنسي لسنة 1791 الذي حظر تعديل احكامه على دورتين انتخابيتين متعاقبتين أي لمدة اربع سنوات، حيث كانت كل دورة انتخابية اجلها سنتين، وكذلك الدستور الفرنسي لسنة 1946 الذي حظر تعديله طالما ان قوات اجنبية كانت تحتل إقليم الدولة او جزءا منه، وأيضا الدستور الكويتي لسنة 1962 الذي لم يجز النظر في تعديل احكامه قبل مضي خمس سنوات على العمل به.
تطبيقات الحظر الزمني في الدستور العراقي لسنة 2005:
1- المادة (126): فقد نصت على الحظر الزمني المؤقت للبابين الأول والثاني ولمدة دورتين انتخابيتين أي مدة الحظر ثماني سنوات، وهذا ما جاء في نص المادة (126/ثانيا): لا يجوز تعديل المبادئ الأساسية الواردة في الباب الأول، والحقوق والحريات الواردة في الباب الثاني، إلا بعد دورتين انتخابيتين متعاقبتين….
لم يتم الاخذ بتطبيق المادة (126) التي وضعت للحالة الاعتيادية، ومن المفروض العمل وفق المادة (142) التي اصبح لها الاسبقية عند الشروع بتعديل الدستور، حيث جاء في نص الفقرة الخامسة من المادة (142): يستثنى ما ورد في هذه المادة من احكام المادة (126) المتعلقة بتعديل الدستور، الى حين الانتهاء من البت في التعديلات المنصوص عليها في هذه المادة.
2- المادة (142): لم يرد في هذه المادة أي حظر زمني لتعديل الدستور. حيث كان من المفترض ان يشكل مجلس النواب في دورته الأولى (2006- 2010) لجنة من أعضائه تقوم بتقديم تقرير يتضمن توصية بالتعديلات الضرورية التي يمكن إجراؤها، وان هذه اللجنة غير مقيدة بأي حظر زمني على أي نص من نصوص الدستور، وهذا لم يحدث بالرغم من انقضاء اعمال ثلاث دورات انتخابية.
الدساتير التي تحظر تعديل بعض نصوصها (الحظر الموضوعي)
ومعنى ذلك ان الدستور يتضمن نصاً يحظر بمقتضاه اجراء اية تعديلات تتعلق ببعض نصوص الدستور وليس كلها، ويتقرر هذا الحظر عادة بالنسبة للأحكام الجوهرية في الدستور ولا سيما ما يتصل منها بنظام الحكم المُقرر.
ومن الدساتير التي أخذت بهذا الحظر الدستور الفرنسي لسنة 1946 الذي حرم تعديل الشكل الجمهوري للدولة، وهو ما نص عليه أيضا الدستور الفرنسي لسنة 1958، وكذلك الدستور الإيطالي لسنة 1947 الذي حرم تعديل النظام الجمهوري، وأيضا القانون الأساسي الألماني لسنة 1949 الذي حظر أي تعديل يمس كرامة الانسان وحقوقه، وكذلك النظام الجمهوري الاتحادي الديمقراطي الاجتماعي وأيضا المساس بحقوق الولايات.
تطبيقات الحظر الموضوعي في الدستور العراقي لسنة 2005:
1- المادة 126: لقد جاء في المادة بهذا الخصوص وفي الفقرة رابعاً: (انه لا يجوز إجراء أي تعديل على مواد الدستور من شأنه ان ينتقص من صلاحية الأقاليم التي لا تكون داخلة ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية إلا بموافقة السلطة التشريعية في الإقليم المعني وموافقة اغلبية سكانه باستفتاء عام).
أي ان المشرع العراقي حظر أي تعديل ينتقص من صلاحيات الأقاليم دون موافقتها، وهو حظر مقيد بشروط، وقد تم ايراده بمثابة وسيلة دستورية تضمن للأقاليم حماية صلاحيتها وخصوصيتها الإدارية والسياسية والثقافية الواردة في الدستور، ويوضع مثل هذا القيد في النظم الدستورية الاتحادية، وتوجد تطبيقات مماثله له في دستور الولايات المتحدة (المادة 5) الذي يتعلق بعدم حرمان اية ولاية من حقها في التصويت المتساوي في مجلس الشيوخ دون موافقتها، وكذلك في الدستور الأسترالي لسنة 1901 المادة 128، الفقرة الأخيرة، حيث جاء فيها (ليس لأي تعديل ينتقص من تمثيل الولايات في أي من مجلسي البرلمان، او ينتقص الحد الأدنى لممثلي ولاية ما في مجلس النواب او يزيد حدود الولايات او ينقصها او يغيرها بأي شكل اخر أو يؤثر بأي طريقة ما في نصوص الدستور المتعلقة بما سبق، إلا اذا وافقت اغلبية الناخبين الذين لهم حق التصويت في تلك الولاية على مثل هذا المشروع، ومثال ذلك ما ورد في القانون الأساسي الألماني لسنة 1949 المادة 79 الفقرة 3 التي نصت: (لا يجوز إجراء تعديلات على هذا القانون الأساسي من شأنها المساس بتقسيم الاتحاد الى ولايات او بالمشاركة لمبدئية للولايات في عملية التشريع،….)
2- المادة (142): من خلال قراءة هذه المادة، لم يرد فيها أي حظر موضوعي لتعديل الدستور، إضافة الى عدم وجود أي حظر زمني.
القيود الإجرائية لتعديل الدستور العراقي وفق المادة 142:
تتميز المادة 142 بوجود إجراءات وضوابط وشروط مشددة نسبيا حالها حال الإجراءات الخاصة لتعديل الكثير من الدساتير الجامدة، ويمكن تقسيم المراحل التي يمر بها التعديل الدستوري وفق هذه المادة الى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: اقتراح التعديل الدستوري:
جاء بخصوص هذه المرحلة في هذه المادة الآتي: يشكل مجلس النواب في بداية عمله لجنة من أعضائه تكون ممثلة للمكونات الرئيسة من المجتمع العراقي، مهمتها تقديم تقرير الى مجلس النواب خلال مدة لا تتجاوز أربعة أشهر، يتضمن توصية بالتعديلات الضرورية التي يمكن إجراؤها على الدستور وتحل اللجنة بعد البت في مقترحاتها.
ومن هذا النص ان المقترح بالتعديل يصدر من لجنة مشكلة من داخل مجلس النواب واشترط ان يكون هناك تمثيل للمكونات ويقصد من ذلك التجمعات السكانية على أساس التمييز القومي او الديني او المذهبي، ويلاحظ في هذا النص غياب الطريقة والضوابط عند التشكيل، وعند صياغة النظام الداخلي لمجلس النواب للدورة الأولى حددت المادة 68 بعض من هذه الضوابط.
لقد تم تحديد مهلة زمنية لعمل هذه اللجنة وهي أربعة أشهر. ويمكن من اللجنة الاستفادة من تقرير اللجنة التي تشكلت ابان الدورة النيابية الأولى.
ومن الممكن ان تستعين اللجنة المشكلة بفريق من مختلف الاطياف الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية، وكذلك الخبرة المتراكمة والغنية لدى الأمم المتحدة وتأخذ بنظر الاعتبار اهم الملاحظات والمقترحات المستوحاة من التجربة التي دامت اكثر ثلاث عشرة سنة.
المرحلة الثانية: إقرار التعديلات الدستورية:
تعرض التعديلات المقترحة من قبل اللجنة دفعة واحدة على مجلس النواب للتصويت عليها، وتُعد مقرةً بموافقة الأغلبية المطلقة لعدد أعضاء المجلس.
من خلال هذه الفقرة ان السلطة المختصة بإقرار مقترح التعديلات هو مجلس النواب واشترطت ان يكون إقرار المقترحات دفعةً واحدة وبالأغلبية المطلقة لعدد أعضاء المجلس أي اكثر من 166 صوتا اذا كان عدد أعضاء مجلس النواب 329، وهي اغلبية سهلة واقل من ما تم تحديده في المادة 126 التي كانت بموافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب.
المرحلة الثالثة: الموافقة النهائية على التعديلات الدستورية:
بعض الدساتير تعطي حق الموافقة النهائية للتعديل الدستوري للشعب نفسه عن طريق الاستفتاء، مثل الدستور السويسري لسنة 1874، والدستور المصري لسنة 2014، وهذا ما سار عليه الدستور العراقي لسنة 2005 وفي المادتين 126، 142، حيث الإقرار النهائي للتعديلات لابد ان تمر عبر الشعب من خلال استفتاء عام.
وهذا ما جاء في المادة 142 البند ثالثاً: (تطرح المواد المعدلة من قبل مجلس النواب وفقاً لما ورد في البند(ثانياً) من هذه المادة على الشعب للاستفتاء عليها، خلال مدة لا تزيد على شهرين من تاريخ التعديل في مجلس النواب). وقد اشترطت هذه المادة الشهرين ما بين إقرار التعديلات من قبل مجلس النواب وموعد يوم الاستفتاء لتكون فرصة مناسبة للتثقيف بمسودة الدستور.
ونصت المادة 142 للقبول النهائي للتعديلات، الحصول على موافقة اغلبية المصوتين في الاستفتاء، ولم تحدد المادة نسبة المشاركة في التصويت، واشترطت هذه المادة لنفاذ التعديلات الدستورية: (اذا لم يرفضه ثلثا المصوتين في ثلاث محافظات أو اكثر). وهذا يشكل بمثابة فيتو الأقلية ضد الأغلبية وهو نص اخذه المشرع الدستوري من قانون إدارة الدول للمرحلة الانتقالية لسنة 2004 المادة (61/ الفقرة/ ج).
ويعتبر هذا الشرط هو أحد الضمانات لصالح المكونين الرئيسين للمجتمع العراقي اللذين لهما الأغلبية في ثلاث محافظات لكل منهما من أي اضرار قد تلحق بهما التعديلات الدستورية، وقد اطلق عليه احد الباحثين في الفقه الدستوري بالحظر الجغرافي، والجدير بالذكر لم تتطرق المادة 142 الى مصادقة رئيس الجمهورية عند نجاح الاستفتاء، بعكس ما جاء في المادة 126، ما دام الدستور سكت عن ذلك؛ فان نفاذ تعديل الدستور من تاريخ الإعلان عن قبول الشعب بالاستفتاء كما هو في الدستور المصري لسنة 2014.
اقتراحات للقيود الإجرائية لتعديل الدستور:
1- إن وجود دستور دائم يتضمن ضوابط موضوعية وإجرائية لتعديله، تتطلب الالتزام الدقيق بها والعمل بمقتضاها وعدم التهاون مع أي حالة خرق وانتهاك لمواد الدستور المتعلقة بها.
2- من الضروري إيجاد حل مناسب لحالة الخرق الدستوري، بعدم إجراء التعديل وفق ما جاء في المادة (142)، وأن مجلس النواب في دوراته السابقة هو الذي يتحمل مسؤولية ذلك باعتباره السلطة المختصة بالتعديل.
3- ان يكون لمجلس الاتحاد الذي يشكل وفق المادة (65) من الدستور دور مهم في المشاركة بالتعديل الدستوري، من خلال المساهمة في كل مراحل التعديل الدستوري (تقديم الاقتراح، المساهمة في إعداد ومناقشة مشروع الدستور، الإقرار) أسوة بمجلس النواب، باعتبار المجلسين يمثلان جناحي السلطة التشريعية في الدولة.
3- أخذ موافقة الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم عند إجراء تعديل الدستور من خلال المجلس الاتحادي إذا كان هناك أي انتقاص أو زيادة للسلطات أو عند الإضرار بالمصالح.
رابط المصدر: