أسماء شكر
أحيانا تعجز منا الكلمات عن تسجيل التاريخ لثقل ما شهدناه وعايشناه؛ ولكن مع اقتراب نسائم الربيع العربي وبعد انتهاء العشرية الأولى للثورة المصرية التي تحول مناخها إلى شتاء قارس أهلك وأتعب كل من شارك فيها وكل من ردد هتاف الثورة الموحد “عيش، حرية، كرامة إنسانية”. ومع التأكيد على الحاجة الملحة لاستكمال الثورة المصرية، علينا أن نبرز الدور الوطني الذي قام به أبناء ميدان التحرير، أبناء هذه الثورة المجيدة، رغم كل محاولات التشويه والأزمات التي تعرضوا لها.
فمن الذي يستطيع أن ينسي دعوات الثورة للخروج والزحف إلى ميدان التحرير في 25 يناير 2011؟ من الذي يستطيع أن ينسي أن التحركات كانت تحركات شعبية بحتة نظمتها حركة شباب 6 أبريل وحركة كفاية وشبابُ الإخوان المسلمين وكذلك مجموعات من الشباب المستقلين عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر، والتي كان من أشهرها مجموعة «كلنا خالد سعيد» و«شبكة رصد»، ثم أعلنت بعد ذلك أغلب القوى السياسية المشاركة في التظاهرات حتى تحقيق الأهداف والمطالب.
ولا ننسي المشهد الثوري خارج القاهرة، فقد خرجت الحشود متجمعة في الميادين الكبرى بشتى المحافظات، مثل ساحة مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية وميدان الأربعين بالسويس، وميدان عرابي بالزقازيق، وميداني المنفذ وعمر مكرم في أسيوط وميدان الشونة في المحلة، وميدان الشهداء في بورسعيد، وميدان الثورة بالمنصورة… وغيرها من الميادين.
الخاسر الأول من الثورة
نظرا لعدم اكتمال ثورة يناير حتى الآن، فإن هناك العديد من الخسائر التي تتفاقم مع مرور الوقت؛ ولكني اعتبر شباب الثورة أنفسهم هم الخاسر الأول على قائمة الخسائر للثورة المصرية سواء قبل الانقلاب أو بعد الانقلاب، وهذا ما أكده المشهد السياسي بداية من فترة التحالفات والانتخابات في 2011، حيث اتسعت الفجوة بين كل الأطراف وقتها، بالإضافة إلى أن شباب الثورة لم يأخذوا فرصتهم، فلم يتمكنوا من تكوين أحزاب ولم تتوفر لهم فرص المنافسة العادلة مع الكيانات صاحبة الشعبية آنذاك.
أما بعد الانقلاب فكان الكابوس الأكبر لشباب الثورة الذي صار هدفا سهلا للنظام العسكري في حال رفضه للاستقطاب والتطبيع مع الانقلاب؛ فكان مصير هؤلاء الشباب الهروب سواء داخل مصر أو خارجها، أو القتل والاعتقال والإخفاء القسري، أو الرضوخ والاعتراف بالأمر الواقع؛ بل وصل حال البعض للعمل مع الأجهزة الأمنية التي ثاروا ضدها في ميدان التحرير.
هل كفر شباب الثورة بمطالبهم السابقة؟
لا نستطيع أن نتحدث عن هذه النقطة بشكل تفصيلي خاصة بعدما طرأت العديد من المتغيرات على شريحة شباب الثورة بدءا من لحظة التنحي وحتى اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور، فما حدث خلال السنوات العشر على شباب يناير كان فجاً لأبعد الحدود.
بل الأسوأ أيضاً مما حدث أنه مع كل ذكرى لثورة يناير يبدأ الصراع من جديد بين من أضاع الثورة ومن تعاون مع النظام العسكري ومن طبّع مع النظام للإطاحة بأول حكومة منتخبة؛ ويتحدث كل طرف بأنه صاحب الثورة، “كلٌّ يدّعي وصلا بليلى، وليلى لا تقر لهم بذاك”، وتتجدد الاتهامات الموسمية بلا فائدة.
مازال النظام يدرك عدم تغلبه على الشباب حتى اللحظة. فرغم القبضة الأمنية المفروضة والانتهاكات التي لم تنتهِ، يخشي النظام من العنصر الشبابي حتى من فكرة التجمعات الشبابية وان كانت على المقاهي.
حيث شنت قوات الأمن بعد انقلاب يوليو 2013 بشهرين حملات موسعة لإغلاق مقاهي وسط البلد، بدعوى وقوع مخالفات وعدم وجود تراخيص، الأمر الذي نفاه أصحاب المقاهي آنذاك، وتحولت مقاهي تلك المنطقة عن دورها السياسي والثقافي إلى خوف وسكون حذر بعدما كان لها دور بارز في تشكيل الوعي السياسي للشباب قبل ثورة 2011 وقبيل الانقلاب.
أحلام تراوح مكانها
رغم الإخفاقات والتدخلات الإقليمية والدولية المضادة والتطبيع الهادئ لبعض رفقاء الثورة بين الحاكم والمحكوم والضغوط الاقتصادية وما تبعها من بطالة وتهميش وفقر ومخاوف أمنية وتداعيات اجتماعية غير مسبوقة على المجتمع المصري وقتل واعتقال وهجرة خلال العشر سنوات الأخيرة إلا أن أحلام يناير تراوح مكانها حتى اللحظة.
بل إننا نستطيع القول بأن روح يناير مازالت تسكن في نفوس المصريين وتجوب الشوارع والميادين باحثة عمن يستطيع أن يبعث فيها الأمل من جديد؛ وهذا ما نشاهده في دعوات التظاهر المتكررة على مدار السنوات الماضية؛ فرغم صعوبة وخطورة وعشوائية الدعوات، إلا أننا في كل مره نُفاجأ بإقبال المتظاهرين لاستكمال مطالب ثورة يناير.
مؤشرات ضعف النظام الحاكم في مصر
واجه النظام المصري ثورة يناير وما تبعها من تظاهرات مطالبة بالتغيير منذ اللحظات الأولى بالاعتقالات والمواجهات المباشرة والغير مباشرة رافضا أي احتمالية لفكرة التغيير الاجتماعي والسياسي، مما أنهك البلاد في أزمات اقتصادية وأمنية وحالة واضحة من الوهن السياسي، الأمر الذي دفع النظام المصري للارتماء في أحضان الأنظمة الديكتاتورية الكارهة للثورات، وعلى رأس تلك الأنظمة النظام الإماراتي والنظام السعودي اللذان كان لهما الدور الإقليمي الأبرز في دعم السيسي ونظامه والبطش بالثوار والمعارضين.
الأمر الذي مكّن الإمارات من السيطرة على العديد من المشاريع في مصر؛ ولا ننسي بيع جزيرتي تيران وصنافير للسعودية. لم يكتفي النظام المصري بطلب الدعم السياسي والمادي من تلك الدول، بل سعى مهرولا لتمرير التطبيع مع “إسرائيل” في المنطقة، وذلك لطلب ود أمريكا والغرب بهدف تأمين مظلة حماية خارجية لمنع أي تحولات اجتماعية داخلية من شأنها أن تؤدي إلى تغيير سياسي في نهاية المطاف.
كل هذه السياسات التي اعتمد عليها النظام المصري لمواجهة الاحتجاجات والتظاهرات تسببت في العديد من الأزمات الداخلية في مصر، وكانت سبباً رئيسياً في تدهور المكانة الإقليمية لمصر. فبعد أن كانت القاهرة صاحبة الدور الريادي في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي، تآكل موقع ودور مصر الإقليمي بشكل سريع لصالح دول أخرى، أبرزها دولة الإمارات.
وبعد…
إن الثورات على الأنظمة الديكتاتورية والفساد، هو حق أصيل للشعوب، خاصة إذا ما بلغ الانتقاص من الحقوق والكرامة حداً لا يمكن السكوت عنه كما هو الحال في مصر الآن. وفكرة استكمال مطالب الثورة واقعة لا محالة؛ فهذه قاعدة قديمة، قِدم الإنسان على ظهر الأرض، ولكن الأمر مسألة وقت فقط.
الحل الوحيد للأزمة المصرية هي استكمال مطالب ثورة يناير ولا بديل عن هذه الخطوة حتى ولو بعد عشر سنوات. فقراءة سِيَر الثورات عبر التاريخ تؤكد أن هذه التحديات والصعوبات كانت متكررة؛ فالثورة الفرنسية على سبيل المثال ألهمت أوروبا كلها إلهاماً كبيراً في مجال الحقوق والحريات العامة، رغم التحديات التي عاشتها على مدار سنوات، والتي دفع ثمنها العديد من الأبرياء؛ وأدخلت أيضا الثورة البلشفية عام 1917 روسيا في مرحلة من الحرب الأهلية والاقتتال والاغتيالات، إلى أن نجحت فيما بعد.
فعلى من شاركوا في الثورة المصرية بكل أطيافهم وأعمارهم ومعاناتهم والتحديات التي واجهوها أن لا يسمحوا بكتابة نعي لثورة يناير؛ فالانتفاضات والثورات في مصر قد تتأخر في تحقيق أهدافها، لكنها لا تنهزم أبدا ولن تموت؛ والذين يصنعون أنصاف الثورات لا يفعلون شيئا سوى حفر قبورهم، فأنصاف الثورات مقابر للشعوب!
رابط المصدر: