لماذا يتفوّق العرب في الألعاب البارالمبية أكثر من الأولمبياد؟

في عام حاصرت خلاله الحروب والمآسي العالم من كل اتجاه، كان صيف 2024 في باريس بمثابة هدية يقدمها عالم الرياضة لتستعيد بها البشرية شيئا من توازنها بعيدا عن الصراعات السياسية ومناطق الحروب. فالحلقات الأولمبية التي زينت برج إيفل في قلب العاصمة الفرنسية لأسابيع احتفالا بالألعاب الأولمبية ومن بعدها البارالمبية، أظلت تحتها إرثا من القصص لأبطال وبطلات بذلوا قصارى جهدهم في ميادين المنافسة بحثا عن ميدالية تخلدهم في التاريخ. مثلما طرحت أسئلة حول عوامل تفوق يمتلكها البعض وتغيب عن الآخرين في المنافسات المختلفة، وكانت فرصة لتكوين انطباع عن مدى تنافسية الرياضيين العرب في التظاهرة الأكبر دوليا.

كان الصيف الأولمبي كريما على الرياضة العربية، ليس فقط على مستوى عدد الميداليات- وهو الأكبر في تاريخ البعثات العربية في دورة أولمبية واحدة بـ17 ميدالية متنوعة- ولكن تحديدا على مستوى القصص التي أنتجتها أغلب تلك الميداليات. بداية بـ كيليا نمور التي تركت منتخب فرنسا لتمثل الجزائر متحدّية بالفوز بالميدالية الذهبية في الجمباز من قلب صالة باريس، مرورا بالقطري الطائر معتز برشم الذي تحدّى الجاذبية والتقدم في العمر ليصبح أول لاعب في رياضة الوثب العالي يفوز بميدالية في أربع دورات أولمبية متتالية، ونهاية بإيمان خليف التي وقفت في وجه ضجة إعلامية متبوعة بجدل افتراضي وضعها في دائرة ضوء لم تنجح سوى في إبراز تتويجها بذهبية الملاكمة التي استحقتها بجدارة. لكن الألعاب البارالمبية التي اختتمت قبل أيام في باريس أيضا كانت أكرم بميدالياتها وقصص أبطالها مع الرياضيين العرب من نظيرتها الأولمبية، على نحو يدفع للتساؤل عن منشأ التباين في النتائج بين البعثتين.

اختتم العرب منافسات باريس البارالمبية بحصيلة وصلت إلى 55 ميدالية متنوعة. وهي حصيلة وإن كانت أقل مما حققه العرب في بارالمبياد طوكيو السابقة بميداليتين، فإنها تتجاوز أفضل مشاركة أولمبية عربية تاريخيا بـ38 ميدالية كاملة. الفارق الكبير في عدد التتويجات بين البعثتين يبدو أنه لا يخلو من المفارقة خاصة بالمقارنة – على الأقل من ناحية المتابعة الجماهيرية- مع اهتمام أكبر يحظى به الرياضيون الأولمبيون. لكنه فارق له ما يبرره من عوامل تجعل الألعاب البارالمبية فرصة هامة للدول العربية لتقديم وجه رياضي مميز، حتى في ظل غياب الإمكانيات التي تقدمها الدول العظمى لرياضييها.

قد يكون من البديهي الاعتقاد بأن زيادة الميداليات العربية في الألعاب البارالمبية مقارنة بنظيرتها الأولمبية نتيجة منطقية للفارق بين عدد المنافسات في الدورتين. فبينما شهدت الألعاب الأولمبية في باريس إقامة 329 منافسة على ميداليات، كانت نظيرتها البارالمبية في المكان ذاته شاهدة على 549 منافسة. لكن هذه الزيادة في المنافسات البارالمبية لم تنعكس مثلا على حصيلة ميداليات الولايات المتحدة التي تأخرت بأكثر من 100 ميدالية عن الصين متصدرة الترتيب العام في باريس، ولا يمكن لكثرة عدد المنافسات وحدها تبرير التفوق البارالمبي العربي مقارنة بالأداء في الألعاب الأولمبية، خاصة أن عدد رياضيي البعثة العربية في الألعاب الأولمبية يتجاوز على نحو ملحوظ نظيره في الدورة البارالمبية.

 

طبيعة الرياضة البارالمبية تمنح الرياضيين فرصة للمشاركة في عدد أكبر من الدورات، مما يكسبهم خبرة المشاركة والاعتياد على مواقف المنافسة عالية المستوى

 

 

وبالتأكيد يمكن القول إن الفارق في الاستثمار الذي تقدّمه الدول الغنية للرياضيين الأولمبيين مقارنة بالبارالمبيين- بريطانيا مثلا مولت بعثتها لأولمبياد طوكيو بـ265 مليون جنيه إسترليني مقابل 70 مليونا فقط للبعثة البارالمبية- يمنح الرياضيين العرب فرصة في منافسة متكافئة بدرجة أكبر من الأولمبياد.

لكن هناك أيضا من خصائص البعثات البارالمبية العربية ما يؤهلها للفوز بالميداليات بعدد أكبر من نظيراتها الأولمبية، بغض النظر عن بيئة المنافسة وهي حقيقة أن منافسات الألعاب البارالمبية تجري بين قاعدة أكثر محدودية من الرياضيين.

أ.ف.ب أ.ف.ب

التخصص في رياضات معينة يقدم واحدة من الإجابات عن هذا السؤال، ولعل تونس تفرض نفسها كأهم الأمثلة على قيمة التخصص في خلق مدرسة تنافسية يمكنها اللعب من أجل الميداليات جيلا تلو الآخر. يكفي ذكر أن تونس شاركت في هذه النسخة من الألعاب البارالمبية بـ30 رياضيا بينهم 25 في ألعاب القوى، التي شهدت تتويج تونس بحصيلتها الكاملة المكونة من 11 ميدالية متنوعة. الدهشة من هذا الرقم قياسا بتعداد البعثة الصغير تخفت حدتها عندما نعود للتاريخ الذي يسجل لتونس فوزها بـ114 ميدالية في تاريخ الدورات البارالمبية كلها جاءت في منافسات ألعاب القوى. لكن التطور والإيمان بالتخصص نقل البعثة التونسية من المشاركة برياضي واحد هو منعم العابد في ألعاب سيول البارالمبية عام 1988 إلى امتلاك أبطال بات حصولهم على الميداليات أمرا شبه مؤكد، أبرزهم الظاهرة روعة التليلي، التي تواصل حصد الميداليات في مسابقتي دفع الجلة ورمي القرص في خمس دورات متتالية دون انقطاع منذ بارالمبياد بكين عام 2008 وحتى الفوز بذهبيتين في باريس. التخصص أيضا منح البعثة المصرية أغلب ميدالياتها.

فمن بين 7 ميداليات فاز بها المصريون في ألعاب باريس البارالمبية كانت 6 منها من نصيب لاعبي منتخب رفع الأثقال، وهو امتداد لمدرسة مصرية في هذه الرياضة فازت لهذا البلد بميداليات أولمبية وبارالمبية أكثر من غيرها من الرياضات على مر التاريخ.

كما أن طبيعة الرياضة البارالمبية ومحدودية القاعدة التي يتم الاختيار منها تمنح الرياضيين فرصة للمشاركة في عدد أكبر من الدورات، مما يكسبهم خبرة المشاركة والاعتياد على مواقف المنافسة عالية المستوى، بعكس اللاعبين الأولمبيين العرب الذين يندر بينهم من تمكنوا من الفوز بميداليات في أكثر من دورة أولمبية واحدة. العداء المغربي أمين الشنتوف مثال حي على ذلك، وهو الذي شارك في الدورة البارالمبية الرابعة على التوالي في باريس محرزا ميداليته الخامسة.

الكسر الذي عانى منه أمين في الكيلومترات الأخيرة لسباق الماراثون لضعاف البصر لم يحرمه من الاعتماد على خبراته السابقة للتتويج بالميدالية البرونزية التي تضاف لذهبيات وفضيات حصل عليها في النسخ السابقة بداية من دورة لندن 2012. ويبدو أن التقدم في السن لا يحمل في الرياضة البارالمبية  الأثر نفسه الذي يحمله على تنافسية رياضيي الألعاب الأولمبية. ولعل البطلة المصرية في رفع الأثقال نادية فكري يمكنها أن تدلل بقصتها أكثر من غيرها على هذا الأمر. ففي سن الخمسين عادت نادية بعد 16 عاما من الغياب عن منصات التتويج لتثبت أن العمر لا يعني شيئا أمام الإرادة، وتفوز ببرونزية مسابقة وزن 86 كيلوغراما في ألعاب باريس البارالمبية وهي ميداليتها الرابعة في تاريخها مع تلك الدورات.

 

الأمل في أن يكون الاحتفاء الذي ناله أبطال البارالمبياد العرب بإنجازاتهم في باريس مقدمة لكي يتحول الاهتمام بهم إلى أصل ثابت في الرياضة العربية

 

 

جماليات قصة نادية مع البرونزية في باريس لا تكتمل دون أن يضاف إليها البعد المؤثر المتمثل في تضحية زوجها بالمشاركة مع منتخب مصر للكرة الطائرة للجالسين في الدورة نفسها، من أجل أن تحقق زوجته حلمها بالعودة لمنصات التتويج بينما يبقى هو في مصر لرعاية أبنائهما، دون أي ندم على برونزية فاز بها في غيابه فريقه في باريس.

لكن وبين كل التحليلات المرتكزة على عوامل رياضية ومادية يبقى للألعاب البارالمبية السحر الإنساني الذي يصعب حصره في مقومات المكسب والخسارة الاعتيادية في عالم الرياضة. استخدام الرياضيين للرياضة كجزء من إعادة تأهيلهم بعد الإعاقة وتوحدهم معها لتصبح عالمهم بأسره وليس مجرد رياضة يجيدونها قد يكون السر التي تستند عليه نجاحات كثير من الأبطال البارالمبيين العرب عالميا. فالقنبلة التي انفجرت في جسد الطفلة العراقية نجلة عماد عام 2008 في ظل ظرف أمني كارثي كانت تمر به بلادها، لتطيح بقدميها وذراعها اليمنى وهي في الثالثة من عمرها، لم تمنعها من أن تصنع معجزتها الخاصة في تنس الطاولة وهي ابنة العشرين متجاوزة منافساتها في باريس الواحدة تلو الأخرى، لتمنح بلادها ما قد يبدو نظريا ذهبية في الألعاب البارالمبية، لكنه عمليا تجسيد للعراق الذي يتوق إلى العودة إلى الحياة بعد سنين المعاناة.

والأمل في أن يكون الاحتفاء الذي نالته نجلة وغيرها من أبطال البارالمبياد العرب بإنجازاتهم في باريس مقدمة لكي يتحول الاهتمام برياضة ذوي الإعاقة إلى أصل ثابت في الرياضة العربية، بدلا من أن يطل كل أربع سنوات كظاهرة موسمية يلتفت إليها المسؤولون عن الرياضة للتغطية على إخفاقات من ينالون نصيب الأسد من الأضواء والميزانيات دون أن يحققوا نتائج تستحق الذكر.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M