- شكَّلت تداعيات رسوم ترمب على الاقتصاد الصيني أهم دوافع موافقة بيجين الدخول في مفاوضات عاجلة مع الولايات المتحدة في جنيف، إلى جانب رغبة الإدارة الأمريكية في حسم هذا الملف.
- يُمثِّل اتفاق الصين والولايات المتحدة الأخير بشأن الرسوم الجمركية خفضاً للتصعيد، وليس اتفاق سلام تجارياً طويل المدى بعد؛ إذ سيتطلَّب التوصل إلى سلام تجاري دائم مفاوضات طويلة وشاقة.
- لا يُرجح أن يكون أي اتفاق تجاري محتمل بين الجانبين الأمريكي والصيني نقطة تحول فارِقَة في علاقاتهما التجارية والاقتصادية، بل سيستمر التنافس الاستراتيجي في كونه المحدِّد الرئيس للعلاقات الثنائية على المدى البعيد.
- يُعَدّ الاتفاق التجاري المبدئي بين الصين والولايات المتحدة فرصة مهمة لدول الخليج لتقييم السياسات التجارية العالمية وتداعياتها على الأسواق الخليجية، سلباً وإيجاباً.
تَوصَّلت الولايات المتحدة والصين إلى اتفاق مفاجئ لتعليق الرسوم الجمركية المتبادلة بينهما لمدة 90 يوماً، ابتداء من 14 مايو، بعد مباحثات خاطفة في جنيف. ينص الاتفاق على خفض كلا الطرفين الرسوم المفروضة على الطرف الآخر، منذ إطلاق الرئيس الأمريكي دونالد ترمب حرب “يوم التحرير” التجارية في 2 أبريل الماضي، بمقدار 115%. وبذلك تتراجع رسوم الولايات المتحدة على الصين من 145% إلى 30%، بينما تتراجع رسوم الصين على الولايات المتحدة من 125% إلى 10%. ويكمن عنصر المفاجأة النسبية في هذا الاتفاق في الصلابة التي أبدتها بيجين بعد فرض ترمب للرسوم الجديد، وتعهُّدها بأنها “لن تركع“، وتراجُع احتمالات تقديمها تنازلات كبيرة. لكن سرعة التوصل لهذا الاتفاق المؤقت تُسلَّط الضوء على ضرورة فهم دوافع الصين لاستعجال هذه الخطوة، ومدى تأثيرها المتوقع على أداء الاقتصاد الصيني، ومن ثمَّ المستثمرين الأجانب في هذا السوق أو المتعاملين معه، وعلى رأسهم المستثمرين الخليجيين، وهو ما تُركِّز عليه هذه الورقة.
دوافع الصين لتوقيع الاتفاق
يمكن وصف اتفاق جنيف بأنه خفض للتصعيد بين الجانبين، وليس اتفاق سلام طويل المدى بعد. سيتطلب التوصل إلى سلام تجاري دائم مفاوضات طويلة وشاقة، وهو ما يتوقع أن يجري في خلال الثلاثة أشهر المقترحة لخفض الرسوم. وواضح أن تداعيات رسوم ترمب على الاقتصاد الصيني أهم الدوافع وراء موافقة بيجين الدخول في مفاوضات عاجلة مع الولايات المتحدة، إلى جانب رغبة الإدارة الأمريكية في حسم هذا الملف.
وانكمش نشاط المصانع في الصين بأسرع وتيرة له في خلال 16 شهراً في أبريل، وفقاً لبيانات المكتب الوطني للإحصاء، مع قيام المُصدِّرين بتحميل الشحنات المخصصة للتصدير مُقدَّماً لتجنُّب الرسوم الجمركية. وانخفض مؤشر مديري المشتريات الرسمي في الصين إلى 49 نقطة في أبريل مقابل 50.5 نقطة في مارس، وهو أدنى مستوى له منذ ديسمبر 2023، وأقل من متوسط التوقعات الذي بلغ 49.8 نقطة. وانخفض مؤشر مديري المشتريات غير الصناعي إلى 50.4 نقطة من 50.8 نقطة. ويعكس ذلك الرؤية المستقبلية السلبية بين المصنعين. وظهرت هذه الرؤية في بيانات الصادرات أيضاً، مع تباطؤ الطلب على البضائع الصينية، حيث انخفضت الطلبات بأسرع وتيرة لها منذ يوليو 2023.
وكشف مسؤول صيني لوكالة رويترز أن أحد الدوافع المهمة لقبول الصين بالتفاوض هو تأثير الرسوم المحتمل على الوظائف، وتخارج بعض المصانع من السوق والإضرابات العمالية المحتملة. وقال المسؤول إن بعض القطاعات التي تأثرت بشكل مباشر هي قطاعات صناعة الأثاث والألعاب والمنسوجات. ولاستيعاب الصدمة في هذه القطاعات، بدأت الحكومات المحلية الصينية في تبني تدابير لتشجيع الشركات على بيع منتجاتها المخصصة للتصدير في السوق المحلي مع وضع تخفيضات عليها. ووصف شن تشيوبنغ، نائب وزير التجارة، السوق الصيني بأنه “منطقة عازلة حاسمة” لحماية المنتجين الصينيين من الصدمات الخارجية، في انعكاس لتعويل الحكومة على السوق المحلي. لكن ثمة إدراك للتداعيات السلبية والتأثيرات الجانبية لمثل هذه السياسة. أحد أهم هذه التداعيات حرب الأسعار التي قد تندلع بين الشركات مع دخولها في تنافس على خفضها لتوسيع حصصها السوقية. وكتأثير طبيعي، قد يؤدي ذلك إلى تراجع هامش الربح لدى الشركات، ومن ثم ظهور تداعيات على قدرتها على التوظيف والاحتفاظ بالأيدي العاملة لديها بالفعل. واتضح قلق القيادة الصينية الكبير تجاه تأثير الرسوم على نسبة البطالة التي تؤدي دوراً كبيراً (إلى جانب تراجع الأجور) في استمرار الضغط على مستويات الاستهلاك المحلي، من طريق إعلان الحكومة، في 28 ابريل، تبني سياسات داعمة للتوظيف.
إضافة إلى هذه التداعيات، هناك مخاوف من أن تؤدي إعادة توجيه البضائع للسوق المحلي إلى إدخال الصين في موجة انكماش سعري طويلة المدى. ويعاني الاقتصاد الصيني بالفعل من انكماش لم تنجح محاولات الحكومة، منذ كوفيد 19، في وضع حدٍّ له. فقد تراجع مؤشر أسعار المستهلك في شهري فبراير ومارس إلى سالب نزولاً من مستوى أعلى من الصفر بقليل، وهو مستوى حافظ عليه طوال عامي 2023 و2024. فضلاً عن ذلك، فإنّ التعطُّل في سلاسل التوريد الناجم عن الرسوم قد يُقوِّض قدرة القاعدة الصناعية الصينية على التكيف بسرعة معه مما يُرجِّح تفاقُم معضلة “فائض القدرة الإنتاجية” في بعض الصناعات، ومن ثم تفريغ الفائض عبر إغراق أسواق المستوردين الآخرين الذين لم يفرضوا رسوماً على المنتجات الصينية.
لكن التهديد الكبير بالنسبة للصين، والذي كان دافعاً أساسياً للقبول بالتفاوض، هو القلق بشأن معدل النمو (شكل 1). وقد حقق الاقتصاد الصيني في الربع الأول من العام الحالي نمواً قدره 5.4%، مدفوعاً باستمرار قوة إصدار السندات الحكومية، وبرامج الاستبدال وتحديث السلع، وتحديث التكنولوجيا، وارتفاع الطلبات الجديدة من الخارج في الربع الأول.
شكل 1: مساهمة الصادرات في إجمالي معدل النمو الصيني
لكن بعد فرض الرسوم، هناك توافق بين المؤسسات المالية والمستثمرين على خفض توقعات النمو بالنسبة للاقتصاد الصيني. يعني ذلك عدم قدرة الحكومة الصينية على تحقيق نسبة النمو المتوقعة، والبالغة 5% هذا العام. وقال صندوق النقد الدولي إن الرسوم الأمريكية على البضائع الصينية ستخفض الناتج المحلي الإجمالي الصيني بمعدل 0.6 نقطة مئوية، بينما خفَّض غولدمان ساكس توقعات النمو الصيني بمقدار 2.2 نقطة في 2025، وتوقع جي بي مورغان التراجع بمقدار 0.7 نقطة، وخفض توقعاته لمعدل النمو السنوي عند 4.4%. وإذا حدث ذلك فقد يضع الحكومة الصينية، التي تعتبر وضع نسب نمو عالية وثابتة وتحقيقها أولوية اقتصادية وسياسية قصوى، في مأزق سياسي.
التوقعات المستقبلية
يبدو أن الحكومة الصينية تتوقع أن يظهر تأثير الدومينو للرسوم في بيانات الربعين الثاني والثالث. يتبين ذلك من السياسات الوقائية التي تتبناها الحكومة منذ فرض الرسوم مطلع أبريل.
إلى جانب تعليق الرسوم على الواردات الأمريكية، فإن سلسلة من السياسات، على رأسها سياسات التحفيز المالي والنقدي، قد تتخذها الحكومة أو تستكملها لتحصين المصنعين والمصدرين وتخفيف التداعيات على الاقتصاد الصيني ككل. وزادت الحكومة هدفها لعجز الموازنة إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي، ارتفاعاً من 3% في العام السابق، ضمن إجراءات تهدف لخلق 12 مليون فرصة عمل وتعزيز الاستثمار من خلال إصدار سندات خزانة ذات أغراض خاصة وطويلة الأجل. ووفقاً لجي بي مورغان، من المتوقع تخصيص ما بين 400 و600 مليار يوان، أو ما يعادل 0.3% إلى 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي، لدعم الاستهلاك المحلي، بما يشمل دعم مقايضة السلع الاستهلاكية، وزيادة المعاش التقاعدي الأساسي، ودعم الرعاية الطبية، وحوافز لتشجيع الإنجاب.
إضافة إلى ذلك، خفَّضت البنوك الصينية أسعار الفائدة على القروض الشخصية إلى مستويات قياسية، عقب توجيهات الحكومة للبنوك بتوسيع إصدار القروض، وتخفيف حدود الائتمان وأسعار الفائدة. ففي 7 مايو، أعلن البنك المركزي خفْض سعر إعادة الشراء العكسي الرئيس لأجل سبعة أيام بمقدار 10 نقاط أساس، وخفض نسبة الاحتياطي الإلزامي بمقدار 50 نقطة أساس، ليصل بذلك مستواهما إلى 1.4% و9% على التوالي (شكل 2). وبشكل خاص، يُرجح أن يضخ خفض نسبة الاحتياطي الإلزامي حوالي تريليون يوان من السيولة إلى السوق.
شكل 2: أسعار الفائدة بعد قرارات البنك المركزي الصيني بالخفض
وأعلن البنك أيضاً عن إجراءات خاصة إضافية لدعم الاستهلاك وقطاع التكنولوجيا. وشملت هذه الإجراءات: إنشاء برنامج لإعادة الإقراض بقيمة 500 مليار يوان مخصص للاستهلاك والرعاية الاجتماعية، وتوسيع صندوق إعادة الإقراض التكنولوجي الحالي بمقدار 300 مليار يوان. ويأتي ذلك لدعم خطط الحكومة في التوسع المالي التي أعلن عنها في نوفمبر 2024 عقب فوز ترمب في الانتخابات الرئاسية. شملت هذه الخطط زيادة حصة السندات المحلية الخاصة بمقدار 6 تريليونات يوان في خلال السنوات الثلاث المقبلة. وسيتم تخصيص تريليوني يوان سنوياً، من عام 2024 إلى عام 2026، لدعم الحكومات المحلية في استبدال ديونها الخفية. وأُعيد تخصيص 4 تريليونات يوان أخرى من ميزانيات الحكومات المحلية لاستبدال ديونها الخفية على مدى خمس سنوات، مع تخصيص 800 مليار يوان سنوياً حتى عام 2028.
وكان واضحاً أن توقيت الإعلان عن هذه الإجراءات يرتبط بشكل مباشر بقرب المفاوضات مع الولايات المتحدة، حيث يسعى صناع القرار الصينيون إلى بناء نفوذ على نظرائهم الأمريكيين في خلال المباحثات. ويهدف التوقيت أيضاً إلى تجنُّب تفسير هذه القرارات في الداخل باعتبارها استجابة انفعالية للتطورات الأخيرة في ملف الرسوم الجمركية. ويعكس ذلك التدرُّج في المقاربة الصينية، إذ تحتفظ الصين بأوراق يُدفَع بها تدريجياً وفقاً لمستوى التهديد القادم من الولايات المتحدة.
أحد أهم محفزات هذه الإجراءات هدوء حدة الضغوط الناجمة عن تراجع قيمة اليوان، حيث أتاح التعافي النسبي للعملة خلال الفترة الماضية فرصة للبنك المركزي لاتخاذ قرار بتخفيض سعر الفائدة، مع الالتزام في الوقت ذاته بهدف استقرار سعر الصرف. ويُرجح أن تؤدي هذه الإجراءات إلى انخفاض في أسعار الفائدة قصيرة الأجل، الأمر الذي قد يؤدي بدوره إلى ارتفاع محدود في سعر صرف اليوان مقابل الدولار، لكن ليس بنسب كبيرة.
وبعد هذه التخفيضات، لا يزال هناك مجال لمزيد من تخفيف السياسات النقدية إذا اقتضت الضرورة، نظراً للضغوط الانكماشية وخطر تباطؤ النمو. ومن المحتمل حدوث خَفْض آخر في أسعار الفائدة بمقدار 20 نقطة أساس، وخفض آخر في نسبة الاحتياطي الإلزامي بمقدار 50 نقطة أساس هذا العام. لكن يُرجَّح ألا تُتَّخذ هذه الخطوات الإضافية إلا بعد بدء مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في خفض أسعار الفائدة.
ويرجح جي بي مورغان خفضاً آخر في نسبة الاحتياطي الإلزامي بمقدار 50 نقطة أساس، وخفضاً آخر في أسعار الفائدة بمقدار 10 نقاط أساس في النصف الثاني من العام. ويتوقع أيضاً الإعلان عن إصدار سندات حكومية إضافية بقيمة تريليون يوان خلال الربع الثالث لتعزيز الطلب المحلي وتخفيف الضغوط على النمو الاقتصادي، خصوصاً مع الأخذ في الاعتبار أن قيمة هذه السندات تمثل 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي.
قد تُمثِّل هذه الإجراءات تحسُّناً طفيفاً في توقعات نمو الاقتصاد الصيني خلال 2025 في حال تم الحفاظ على خفض التصعيد. والأهم من ذلك، أن هذا الاتفاق المؤقت قد يُقلل من الضغوط على أداء الأسواق المالية.
على جانب التصدير، يُرجح سعي الحكومة الصينية إلى تعميق علاقاتها مع شركائها التجاريين الآخرين. ينعكس ذلك في نشاط الرئيس شي جينبنغ، حيث عَقَد اجتماعاً في 11 ابريل مع رئيس الوزراء الاسباني بدرو سانشيز في بيجين، وقام بجولة دول جنوب شرق آسيا في منتصف الشهر، وتوقعات باجتماعه المحتمل مع قادة الاتحاد الأوروبي، عقب رفع العقوبات عن أعضاء في البرلمان الأوروبي في 30 أبريل. وعلى رغم ذلك، قد يتطلب تعميق العلاقات التجارية مع الاتحاد الأوروبي جهوداً أكبر تشمل خفض الحواجز التجارية المتبادلة، وزيادة الواردات من أوروبا، وخفض مستوى الصادرات التي قد تعيق سوق الاتحاد الأوروبي، وهي قضايا سيكون التفاوض حولها صعباً.
ويُتوقع أيضاً أن تضغط الولايات المتحدة خلال المفاوضات للتوصل إلى اتفاق يضمن عودة الصين للالتزام باتفاق “المرحلة الأولى” الموقع عام 2020، والذي يتضمن زيادة الصين وارداتها من الولايات المتحدة (خصوصاً المنتجات الزراعية) بمقدار 200 مليار دولار مقارنة بمستويات عام 2017، ورفع الصين القيود على صادراتها من المعادن النادرة، والتوصل إلى اتفاق حول صادرات مخدر الفنتانيل. لكن لن يكون ذلك كافياً بالنسبة للإدارة الجديدة، إذ يرجح أن تطلب أن يتضمن الاتفاق آلية تسمح للمُصنّعين الصينيين بالاستثمار في الولايات المتحدة لتحقيق وعد ترمب الانتخابي بإحياء القاعدة الصناعية الأمريكية، وأن ترفع بيجين القيود على المستثمرين الأمريكيين للوصول إلى السوق الصيني. في المقابل، سيكون في قلب مطالب الصين رفع واشنطن القيود على صادرات التكنولوجيا الفائقة وخفض الرسوم على صادرات السيارات الكهربائية التي تصل إلى 100%.
لكن هناك تحديات هيكلية وطويلة المدى أمام نجاح أي اتفاق قد يتوصل إليه الطرفان، أهمها استبعاد تخلّي الصين عن سياسة “الاعتماد الذاتي” في مجال التكنولوجيا الفائقة، أو الموافقة على إعادة هيكلة محركات النمو الاقتصادي بعيداً عن التصدير والتصنيع. في المقابل، لن يكون هناك مجال لحدوث تغيير جذري في النزعة العدائية بين الجمهوريين والديمقراطيين تجاه الصين، أو تخلِّي واشنطن عن سياسة “خفض المخاطر” وتقويض قطاع التكنولوجيا الصيني أو التراجع عن دعم تايوان. ومِن ثمَّ، فإن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو توصُّل الطرفين إلى اتفاق يضمن خفض التصعيد في الحرب التجارية على المدى القصير، دون أن يُطبق بكامله (كما اتفاق المرحلة الأولى) أو دون أن يُغير من الأبعاد الإستراتيجية الحاكمة للعلاقات الثنائية، وعلى رأسها تصاعد التنافس الاستراتيجي بينهما.
التداعيات على دول الخليج
جاءت دول الخليج العربية في قلب التكهنات حول مستقبل التنافس الاستراتيجي الأمريكي-الصيني في خلال زيارة الرئيس دونالد ترمب الأسبوع الماضي إلى السعودية وقطر ودولة الإمارات. وتم توقيع اتفاقات تجارية واستثمارية وشراكات في الدول الثلاث تفوق 750 مليار دولار مع النية لزيادتها في خلال العقد المقبل إلى حوالي 3.6 تريليون دولار.
على المدى القصير، يُمثِّل الاتفاق التجاري المبدئي بين الصين والولايات المتحدة فرصة مهمة لدول الخليج لتقييم السياسات التجارية العالمية وتداعياتها على الأسواق الخليجية.
أهم الفرص التي تُحصِّن أسواق الخليج نسبياً تراجُع حجم التبادل التجاري نسبياً مع الولايات المتحدة مقارنةً بالتبادل التجاري مع الصين. فقد بلغ التبادل التجاري بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون في 2023 حوالي 180مليار دولار، بينما بلغ حجم التبادل التجاري مع الصين في العام نفسه حوالي 280 مليار دولار. يرجع ذلك بالأساس إلى تراجُع الطلب الأمريكي على النفط الخليجي، بينما تؤدي صادرات النفط الخليجية دوراً مهماً في الرفع من مستوى بيانات التبادل التجاري مع الصين. فقد بلغ إجمالي واردات النفط الصيني من الدول الأعضاء في منظمة أوبك في الشرق الأوسط (باستثناء إيران) حوالي 35% من إجمالي واردات الصين النفطية في 2024. يعني ذلك إمكانية عدم تأثر القطاعات الاستراتيجية في التجارة الخليجية، وعلى رأسها قطاع الطاقة، على المدى القصير.
وتكمُن الفرصة الثانية في أن التوصُّل لاتفاق بين الصين والولايات المتحدة، إلى جانب الرسوم المنخفضة نسبياً التي فرضتها إدارة ترمب على دول مجلس التعاون (10%)، تسمح للأسواق الخليجية بالاستمرار بالقيام بدورها كمراكز تجارية ولوجستية عالمية تسمح بإعادة تصدير المنتجات الآسيوية عموماً إلى أسواق أخرى دون الخشية من إجراءات أمريكية مضادة.
يعني ذلك أيضاً أن البيئة قد تكون مُمهِّدة أمام استمرار برامج التنويع الاقتصادي والتجاري الخليجية واتفاقات الشراكة مع أسواق أخرى فرضت واشنطن عليها مستويات رسوم مرتفعة، بالنظر إلى المحادثات الجارية مع الإدارة الأمريكية للتوصل إلى اتفاقات مشابهة، على غرار الاتفاق الذي وقعته أخيراً مع المملكة المتحدة.
لكن هناك تحديات أيضاً تكمُن في المقام الأول في استبعاد أن تؤدي المفاوضات، أو أي اتفاق ناجم عنها، إلى تغيير بنيوي في العلاقات الاقتصادية الأمريكية-الصينية خارج إطار التنافس و”خفض المخاطر” بين الجانبين. يعني ذلك ترجمة التوترات التجارية والقيود التكنولوجية المتبادلة إلى تراجع في معدلات نمو الاقتصاد العالمي، واستمرار الركود في الطلب المحلي الصيني، ومن ثم تراجُع الطلب على النفط في السوق الصيني، وتراجُع مزمن في الأسعار. وقد ظهرت مؤشرات عدة على ذلك، ففي ديسمبر 2024، عدّلت شركة سينوبك (شركة البترول والكيماويات الصينية) توقعاتها للطلب الصيني المستقبلي على النفط، متوقعةً بلوغ ذروته بحلول عام 2027 عند 800 مليون طن متري، أي ما يعادل 16 مليون برميل يومياً. وتتوافق توقعات أخرى تشير إلى اقتراب زيادة الطلب من نهايتها مع توقعات وكالة الطاقة الدولية بأن الطلب العالمي سيبلغ ذروته بحلول عام 2030.
وقد تتسبب التوترات التجارية بين واشنطن وبيجين في اشتعال حرب الأسعار في السوق الصينية، نتيجة إعادة توجيه المصنِّعين لبضائعهم للسوق الداخلي بالتزامن مع القيود التجارية الخارجية. قد يزيد ذلك كلفة المستثمرين الخليجيين وشركائهم في الصين، وتقلّص من هامش الربح المتوقع. ولا يُرجح أن تنبع هذه القيود من الحرب التجارية مع الولايات المتحدة فحسب، بل سيكون التأثير الأكبر لها على الصين حاضراً في حال توصّلت عدة دول أخرى مع الولايات المتحدة إلى اتفاقات تستثني الصين تجارياً. وقد انتقدت الصين بالفعل اتفاق التجارة الأمريكي مع بريطانيا باعتباره يستهدف عزل الصين عن سلاسل التوريد البريطانية. يرجع ذلك إلى أن اعتماد المصدرين الصينيين على السوق الأمريكي ضئيل مقارنة باعتماد السوق الأمريكي على الصادرات الصينية. فقد بلغت الواردات من الصين حوالي 14% من إجمالي واردات الولايات المتحدة في 2024، بينما بلغت الواردات من السوق الأمريكي حوالي 5.6% من إجمالي الواردات الصينية في العام نفسه.
ولن يتوقف التأثير المحتمل للحرب التجارية طويلة المدى على التداعيات الداخلية في الصين فحسب، بل يُتوقع أن يتسبب التباطؤ العالمي في تراجع حركة التجارة عبر منطقة الخليج أيضاً نحو أوروبا وأفريقيا وآسيا.
ولا يُرجَّح أيضاً أيّ تراجُع في حدة التنافس التكنولوجي في أي وقت قريب، نظراً لقلق واشنطن الاستراتيجي تجاه قدرات الصين التكنولوجية المتنامية في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية والبيوتيك، وتداعيات كل ذلك على تنامي قدراتها في مجال التكنولوجيا العسكرية وإمكانات قاعدتها الصناعية. ويعني ذلك أن تداعيات التنافس التكنولوجي، المتمثلة في ضغوط الولايات المتحدة على شركائها الدوليين بشأن تعاونهم التكنولوجي مع الصين، ستستمر في التصاعد خلال المدى المنظور.