مقدمة:
شهدت العلاقات السودانية المصرية في الفترة الأخيرة تطورًا إيجابيًا في مجالات متعدّدة، تسارعت وتيرتها خلال الزيارات الرسمية المتبادلة بين البلدين، خصوصًا في شهر آذار/ مارس الماضي، حين استقبلت القاهرة وزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق التي أكدت – عقب اجتماعها مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي – على ضرورة تعزيز علاقة بلادها مع مصر في عدد من القضايا والملفات، واستمرار التشاور وتوحيد الرؤى في المواقف المشتركة.
تُوّجت هذه الجهود بزيارة الرئيس المصري في نفس الشهر للخرطوم، حيث اجتمع مع رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو، ورئيس مجلس الوزراء عبد الله حمدوك لمناقشة مسار العلاقات[1]. وشكّلت هذه الزيارة منعطفًا مهمًا في مسار التعاون بين البلدين؛ لأنها جاءت تتويجًا لتحركات دبلوماسية وسياسية مشتركة بذلها الطرفان على مدار أكثر من عامين؛ بهدف تحقيق التقارب المنشود.
اللافت للنظر أنّ هذه الجهود الثنائية التي نتج عنها توقيع سلسلة من الاتفاقيات على صُعد أمنية وعسكرية واقتصادية وتنموية، إلى جانب تنفيذ مناورات عسكرية مشتركة تحت اسم “نسور النيل”[2] جاءت في وقت تشهد فيه قارة أفريقيا تحولات متسارعة، منها داخلية تمثلت في حدوث تغييرات على مستوى الحكومات في ليبيا والسودان ومالي وتشاد، وأخرى خارجية تركّزت في زيادة الاهتمام والتنافس الدولي على عموم المنطقة؛ خاصةً بين ضفتي البحر الأحمر، الذي شهد مؤخرًا حضورًا للسفن الروسية والأمريكية؛ وهو الأمر الذي دعا مصر والسودان إلى استشعار حجم المخاطر والمهددات على أمنهما القومي والمائي المرهون بمصير موارد مياه النيل.
كذلك لا يمكن النظر إلى الانفتاح الإيجابي في العلاقات المصرية السودانية بمعزل عن أزمة سد النهضة المرتبطة بالجار الإثيوبي، فما زالت قضية السد عصيّة على الحل برغم مضي عشر سنوات على المفاوضات، وآخرها جولة مباحثات كينشاسا في آذار/ مارس الماضي، التي جاءت على خلفية احتجاج الخرطوم والقاهرة على الإصرار الإثيوبي على تنفيذ عملية الملء الثاني للسد في تموز/ يوليو المقبل حتى بدون الوصول إلى اتفاق مُلزم مع بقية الأطراف.[3]
ويعد هذا الملف أحد أهم محددات العلاقة بين البلدين؛ كونه شهد محطات تباعد بينهما في فترات زمنية سابقة،[4] لكن التحولات السياسية التي طرأت عليهما خلال السنوات العشر الماضية دفعتهما إلى توحيد مواقفهما؛ ليس فقط في مسائل المياه، بل تخطّت إلى مجالات أخرى؛ كمحاربة الإرهاب، وتأمين الحدود، وإنعاش عجلة الاقتصاد. وهو الأمر الذي أثار جدلًا عند بعض المراقبين والمتتبعين لمسار العلاقات المصرية السودانية، حيث أثيرت العديد من الأسئلة عن ماهية هذا التقارب ودوافعه، لا سيما أنه ليس الأول من نوعه بين الجارين.
كما اختلفت التقديرات والطروحات حول محددات وحدود التقارب؛ بسبب ملاحظة بعض المراقبين تميّزه بتحييد الجانبين للمسائل الخلافية التاريخية التي تجمعهما؛ كقضية النزاع السيادي على حلايب وشلاتين. فهل تُسهم الأجواء الإيجابية في تقريب وجهات النظر في جميع المسائل العالقة بينهما، وتدفع بعجلة التقارب إلى مستوى التكامل والتحالف الاستراتيجي، أم أنّ ما يحدث هو تقارب الضرورة والمصلحة المشتركة في ظل الظروف والسياقات المحلية والدولية التي طرأت عليهما مؤخرًا؟
تُناقش الورقة محددات العلاقة ومسارها وتطورها بين مصر والسودان، ودوافع التقارب الأخير، وانعكاسه على دول الجوار.
أولًا: تأصيل نظري عن محددات العلاقة المشتركة:
يمثل السودان العمق الاستراتيجي لمصر في الجنوب الشرقي، بالمقابل مصر هي عمق استراتيجي للسودان في الشمال الشرقي، ويشترك البلدان في حدود يبلغ طولها 1.276 كم[5]، ويخضع الجزء الشرقي من الحدود عند مثلث حلايب لنزاع إقليمي بين الدولتين.
ويُنظر للعلاقة التاريخية بين الطرفين من عدة محددات، أهمها:
- الأمن القومي:
مصر كانت ولا تزال مهتمّة بتأمين جبهتها الجنوبية من تهديدات الحركات المسلحة المنتشرة في الحدود المشتركة مع السودان، حيث ازدادت المخاطر بعد عملية انفصال الجنوب عن الشمال السوداني عام 2011، وبدأت ارتدادات فوضى الحدود تُشكّل تهديدًا على أمن مصر الحدودي. وسعت القاهرة سابقًا عبر جهودها السياسية إلى منع هذا الانفصال، لكنها فشلت بعد ازدياد الفاعلية الدولية في هذا الملف، ما دفعها إلى تبنّي مقاربة جديدة؛ وذلك لأنّ الانفصال أفرز تداعيات سلبية على القاهرة كوجود حصة جديدة من مياه النيل لجنوب السودان قد تؤثر سلبًا على حصة مصر المائية، إلى جانب انتشار الفوضى في دارفور؛ خاصة في حقبة الرئيس المعزول عمر البشير؛ إذ تميّز عهده بشبكة تحالفات معقّدة ذات توجهات أيديولوجية متعدّدة انعكست سلبًا على مسار العلاقة بين الطرفين.[6]
وبالمقابل فإنّ الأمن القومي السوداني ينظر إليه أصحابه من منظور مماثل؛ فالحدود المشتركة مع إثيوبيا وليبيا كانت منذ عقود خاضعة لتأثير الجماعات المسلحة التي شكّلت تهديدًا للأمن القومي السوداني، ولعل النموذج الليبي في مفتتح الألفية الحالية كان مثالًا حاضرًا في الذهنية السودانية، حيث نتج عن توجهات الرئيس المعزول عمر البشير تجاه ليبيا – بعد سقوط معمر القذافي – فوضى عارمة في الحدود المشتركة، وانتشار مكثف للمليشيات في الحدود المشتركة مع السودان[7]؛ لذا يبدو أنّ الحكومة السودانية اليوم تعمل من خلال توثيق علاقاتها مع مصر على إعادة الاعتبار لأمنها القومي وتلافي كافة الأخطاء التي ظهرت سابقًا.
- الأمن المائي:
لا ينفصل الأمن المائي لأي دولة عن أمنها القومي، ويمثل نهر النيل للمصريين والسودانيين مصدر أمنهما المائي؛ فكلاهما يعتبر مياه النيل مصدرًا حيويًا وشريانًا رئيسًا للبقاء، حيث يعتمد السودان على النهر في توفير 77% من احتياجاته المائية، ومصر بنسبة 97%، وبالتالي تعتبر هذه القضية من ثوابت الأمن لكليهما مهما تغيّرت سياسات البلدين وتعاقبت الحكومات. وبرغم دخول هذا الملف في دائرة الملفات الخلافية التاريخية بينهما، إلّا أن المحددات الرئيسية والثوابت المشتركة بينهما بقيت محل اهتمام دائم وحرص متبادل من خلال التالي:
- تأمين منابع النيل وضمان استمرار التدفّق الطبيعي لمياهه؛ بهدف الحفاظ على استمرار التنمية الاقتصادية؛ سواء في المشاريع الأحادية أو المشتركة.
- تأمين مصادر الطاقة على مجرى النيل لضمان تأمين التنمية الزراعية والصناعية.
- التنسيق الدائم مع دول حوض النيل في المشروعات التي يتم تدشينها، مما قد تؤثر على تدفّق المياه ومنسوبها، على اعتبار أن السودان ومصر هما دولتا مصب.
- ضمان استقرار أمن السودان؛ كونه يقع في قلب الدائرة العربية الأفريقية، ولقربه جغرافيًا من مصر، وهو ما يُفسر أنّ أي ضرر يصيب السودان من شأنه أن يؤثر على أمن مصر المائي.[8]
- محددات أمنية اقتصادية واجتماعية:
لا يُنظر لمحددات العلاقة بين مصر والسودان من منظور قومي ومائي فقط، بل يشترك البلدان في أسس عرقية ولغوية ودينية وقبلية، بالإضافة إلى التداخل الاقتصادي والتعاون المشترك في حل الخلافات، لا سيما تلك التي عانى منها السودان لعقود طويلة واستهلكت موارده. كما عمل الجانبان في مراحل زمنية متقطّعة على تحقيق تكامل استراتيجي بينهما عبر حزم مشاريع للتنمية وتوليد الطاقة الكهربائية، وتشييد البُنى التحتية والتبادل التجاري وحرية التنقل الحدودي الذي نال اهتمامًا خاصًا في عام 2004 بتوقيع اتفاقية الحريات الأربع.[9]
كما لا تغيب قضية أمن البحر الأحمر عن دائرة اهتمام البلدين، وهي إحدى أهم محددات العلاقة التاريخية بينهما، حيث يُمثل البحر الأحمر إحدى خاصرتي الأمن القومي بالنسبة للقاهرة والخرطوم. ومؤخرًا شغلت هذه القضية أولوية مصرية قصوى؛ بسبب تنامي التنافس الدولي على المنطقة، مما يعني ظهور تهديد متزايد على أمن مصر المائي في قناة السويس التي خضعت لدائرة ابتزاز دولي بعد ظهور مشاريع بديلة/ تنافسية مستقبلية (مشروع روسي – مشروع إسرائيلي خط إيلات/ عسقلان)،[10] لذلك رأت مصر في تقاربها مع السودان ضرورة استراتيجية بحضورها الدائم في البحر الأحمر لمراقبة التطورات السياسية والأمنية ولضمان التأمين الدائم لقناة السويس.
ثانيًا: مسار العلاقة وتطورها:
تعدّدت الرؤى في توصيف وتقييم العلاقات المصرية السودانية من قبل المراقبين؛ بسبب شهودها موجات صعود وهبوط متفاوتة منذ عقود، حيث تدهورت بشكل ملحوظ بنهاية حكم جعفر النميري التي رشح عنها إنهاء السودان من جانب أحادي ميثاق التكامل الاقتصادي واتفاقية الدفاع المشترك المبرمة مع مصر عام 1974.[11]
وفي منتصف التسعينيات بلغ التوتّر بين الطرفين ذروته على خلفية اتهام الخرطوم بالضلوع في محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا، لكن ما لبث أن خفّ التوتر بعد إطاحة عمر البشير بشريكه في الحكم حسن الترابي عام 1999،[12] واستطاع الطرفان إدارة علاقات ظلّت في حدها الأدنى؛ بسبب بقاء حالة عدم اليقين والتوجّس حاضرة من دخول العلاقة في منعطف جديد، وبالفعل حدث ذلك في نفس حقبة الرئيسين المخلوعين حسني مبارك وعمر البشير حيث استمرت العلاقات بين شد وجذب؛ بسبب ارتكازها على إثارة القضايا الخلافية وتبادل الاتهامات في مسائل الحدود والمياه وقضية حلايب.
ومع ذلك فقد عادت العلاقات لتشهد صعودًا إيجابيًا بعد وصول الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي لسدة الحكم عام 2014، فخلال تلك الفترة أجرى السودان استدارة كاملة نحو مصر؛ بسبب حاجة الرئيس المعزول عمر البشير حينها للدعم المصري في مختلف المجالات؛ بهدف تخفيف وطأة عزلة السودان الدولية، وتقليص تداعيات أزمات الاقتصاد التي كان السودان قابعًا فيها، وعلى إثرها توصّل الطرفان لسلسلة من التفاهمات المشتركة تقضي بتفعيل كافة الاتفاقيات المُجمدة سابقًا،[13] بالإضافة إلى افتتاح معبر “أشكيت قسطل”[14] الحدودي بين مصر والسودان، وملفات أخرى متعلّقة بتحقيق التكامل وتوحيد الرؤى تجاه أزمات الجوار كالأزمة الليبية.
لكن في العامين الأخيرين من ولاية الرئيس المعزول عمر البشير دخلت العلاقات في مرحلة جمود جديدة على خلفية اتهام الخرطوم لمصر بدعم الجماعات المسلحة في إقليم دارفور،[15] واستمر هذا الفتور حتى قيام مكونات من داخل السودان من عسكريين ومدنيين بعزل عمر البشير في ظل تظاهرات صاخبة ضده، وعلى إثر ذلك أولت القاهرة أهمية قصوى للسودان، ودخلت العلاقات بينهما مرحلة جديدة نُعتت بـ “العلاقات الاستراتيجية الأخوية”[16]، وأدرجت مصر السودان في سلّم أولوياتها، وتوالت الزيارات السياسية والدبلوماسية بين الجانبين على أعلى مستوى، وفي آب/ أغسطس- 2020 أجرى رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي زيارة إلى الخرطوم دشّن فيها أواصر العلاقة مع الخرطوم، وعكست الزيارة رغبة الطرفين في تطوير العلاقات المشتركة، وبناء المواقف السياسية بما يتناسب مع مصالحهما.[17]
في سياق ذلك قدّمت مصر دعمًا للخرطوم في مختلف المجالات؛ بهدف احتواء الأوضاع الداخلية في السودان، ومنعها من الخروج عن السيطرة، وتعزيز العملية الانتقالية في البلاد. كما دعمت القاهرة جهود السودان في تشكيل الحكومة الانتقالية التي تُوجت بتوقيع اتفاق جوبا للسلام في آب/ أغسطس- 2020، حيث كانت مصر حاضرة بصفة شاهد على الاتفاق، ولعبت دورًا في تقريب وجهات النظر بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة في جنوب السودان.[18]
علاوةً على ذلك ساندت القاهرة جهود السودان في رفع اسمه من قوائم الإرهاب، وهو ما حدث في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في إطار جهود تطبيع العلاقات السودانية الإسرائيلية.[19]
وبالنسبة للسودان، وبعد استلام المجلس السيادي إدارة البلاد، بدأ بتحديد ملامح سياسته الخارجية بشكل مختلف جذريًا عن توجّهات الرئيس المعزول عمر البشير، فاختار القاهرة وجهةً أولى له في زياراته الخارجية عام 2019، وأعلن وقوفه وتأييده للموقف العربي والمصري والسعودي ضد سياسات إيران العدائية في المنطقة، وعلى رأسها ملف اليمن وأمن بحر العرب والخليج.[20]
ومن خلال هذه الاستدارة استطاع السودان الحصول على دعم كبير من دول المحور العربي والخليج؛ بهدف إنقاذه من أزماته السياسية والاقتصادية، وكان لمصر دور محوري في ذلك، مما أسهم أكثر في تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين ودخولها لاحقًا في مرحلة تقارب غير مسبوق ظهرت مؤشراته في العديد من المستويات.
ثالثًا: محددات التقارب الأخير:
على وقع تصاعد الأزمات في القارة الأفريقية، وتنامي الخلافات السودانية الإثيوبية، والإثيوبية المصرية، إلى جانب تزايد التدافع الدولي على دول حوض النيل والبحر الأحمر، دخلت العلاقات المصرية السودانية في أعلى مستويات التنسيق والتقارب في مجالات عدّة يمكن الحديث عنها كما يلي:
- التقارب في ملف سد النهضة:
شهد هذا الملف تقاربًا في الموقفين المصري والسوداني على خلفية التعثّر في مسار المباحثات المستمرة منذ 10 سنوات، وإعلان إثيوبيا المضي قدمًا في عملية الملء الثاني للسد في تموز/ يوليو 2021. ويبدو أنّ الإصرار الإثيوبي دفع الطرفين إلى توحيد مواقفهما بشكل تام، حيث أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال زيارته التي أجراها للخرطوم في 6 من آذار/ مارس الماضي على تطابق موقف القاهرة مع الخرطوم، وأكد البلدان رفض أي تصرفات أحادية في ملف النيل من طرف إثيوبيا؛ وأصرا على ضرورة الوصول لاتفاق ملزم بين الأطراف الثلاثة.[21]
كما دعمت القاهرة التحرّك السوداني مؤخرًا في مطالبته وساطة رباعية دولية تتكون من الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ بهدف إيجاد صيغة مناسبة لحل الأزمة تُرضي جميع الأطراف. لكن هذا المطلب رفضه الطرف الإثيوبي الذي أصر على حصر الوساطة في الاتحاد الأفريقي. هذا التباين في المواقف هو الذي أدى إلى فشل جولة المباحثات الأخيرة التي عُقدت بمشاركة مختلف الأطراف المعنية في عاصمة الكونغو (كينشاسا) مطلع نيسان/ أبريل الفائت.[22]
وقد لا يتسع المجال في هذه الورقة لتوضيح كامل حيثيات أزمة سد النهضة، لكن من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنّ أداء الحكومة المصرية وأجهزتها السيادية – سواءً الدفاع أو الاستخبارات أو غيرها – في إدارة هذا الملف كان مترددًا وضعيفًا في التنسيق مع السودان – مع أنه المتضرر الأكبر – وكذلك في الرد على الحكومة الإثيوبية التي تجاوزت كامل الأعراف والقوانيين الدولية في المشاريع المائية التي تشترك في أضرارها أو فوائدها عدة دول، وبالتالي سمح الموقف المصري بشكل أو بآخر في تعزيز موقف الحكومة الإثيوبية في بناء وتشغيل المنشأة المائية المسماة بـسد النهضة.
- تقارب عسكري:
شهد التعاون العسكري بين مصر والسودان هو الآخر نقلة نوعية في مسيرة التقارب الراهن؛ فبعد رفع اسم السودان من قوائم الإرهاب بدأت التدريبات العسكرية المشتركة بين الجانبين، وتُوجت في آذار/ مارس- 2020 بتوقيع اتفاقية عسكرية في الخرطوم على مستوى هيئتي أركان البلدين، عقبها تم تنفيذ مناورات عسكرية جوية مشتركة “نسور النيل” في تشرين الثاني/ نوفمبر- 2020.
وفي مطلع آذار/ مارس- 2021 وقّع الطرفان اتفاقية عسكرية شاملة غطّت مجالات التدريب وتأمين الحدود، جاءت على هامش الزيارة التي قام بها رئيس أركان الجيش المصري محمد فريد للخرطوم، وبحسب فريد فإنّ القاهرة تسعى لترسيخ الروابط والعلاقات مع الخرطوم في كل المجالات، بما فيها العسكرية والأمنية، لافتًا إلى أنّ البلدين يواجهان تحديات مشتركة، وأن هناك تهديدات متعدّدة تواجه الأمن القومي في الدولتين.[23]
واللافت للنظر هنا أنّ التنسيق العسكري على وجه الخصوص جاء في ظل خوض الجيش السوداني حربًا برية في حدوده الشرقية مع إثيوبيا بهدف فرض السيادة على أراضي الفشقة المتنازع عليها، وهو ما يعني أن النوايا المصرية السودانية تهدف إلى تشكيل جبهة تحالف موحدة ضد إثيوبيا.
- تقارب اقتصادي تنموي:
تكملة لمسيرة التقارب الشامل سعت مصر إلى التنسيق مع السودان في عدة مشاريع؛ كمشروع الربط الكهربائي المُنطلق في 2020، كذلك يجري العمل على مشروع خط سكك حديدي يمتد بطول 900 كم من أسوان حتى وادي حلفا في السودان، ناهيك عن التعاون في مجالات النقل والري والصحة والتعليم والتبادل التجاري الذي بلغ في عام 2019 نحو 648 مليون دولار بزيادة قدرها 6% عن العام 2018.[24]
رابعًا: دوافع التقارب:
على مرّ تاريخهما الحديث دخل البلدان في مراحل تقارب عديدة كان لها دوافع وسياقات خاصة بها، كذلك التقارب الراهن يأتي في سياق اعتبارات وحسابات داخلية وخارجية خاصة بالطرفين، وهو ما يظهر فيما يلي:
- دوافع مصر:
توجد عدة دوافع ربما كانت سببًا وراء توجّه مصر نحو تعزيز علاقاتها مع السودان، وهي:
- مصر في ظل وجود الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي أصبحت مهتمّة بتحسين علاقاتها مع دول حوض النيل حسب الممكن؛ بهدف استعادة المكانة والدور المصري الأفريقي الذي شهد انحسارًا في السنوات السابقة. وهذا يدخل أيضًا في صلب حالة التنافس المصرية الإثيوبية على زعامة المنطقة، وقد نجحت مصر إلى حدّ ما في هذا الدور خلال فترة ترؤسها الاتحاد الأفريقي، حيث عملت على تفعيل دورها التقليدي، وصولًا إلى تقاربها مع السودان الذي يعتبر بوابتها لعمق القارة الأفريقية، وتهتم مصر بالوصول إليه بهدف فتح أسواق تجارية واقتصادية وتنموية مع العديد من الدول.
- انطلاقًا من محددات العلاقة الاستراتيجية بين الطرفين تهتم مصر بأمن واستقرار السودان شماله وجنوبه؛ لمنع انتشار الفوضى المسلحة؛ خاصة في إقليم دافور، وبهدف قطع الطريق على بعض الدول التي تسعى لإثارة النعرات في تلك المنطقة لاستخدامها وسيلةَ ضغط على الأمن القومي السوداني وما يُشكل من تهديد على مصر. لأجل ذلك لعبت مصر دورًا فعالًا في اتفاق جوبا للسلام بين الحكومة السودانية والفصائل المسلحة، وكان من أهم أهداف القاهرة في هذا الملف تحقيق توازن في علاقاتها مع مكونات السلطة في السودان، لا سيما مع المكون المدني؛ إذ من شأن ذلك أن يحقق لها حالة مواءمة مع التوجّهات الدولية لإدارة بايدن والاتحاد الأوروبي المهتمين – ولو شكليًا – بقضايا تعزيز حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وأفريقيا.
- كذلك أصبحت القاهرة على وجه الخصوص تهتم بتعزيز علاقاتها مع السودان بعد دخوله في مسار تقاربي مع إسرائيل؛ إذ تخشى مصر من أن يُمهد التقارب السوداني الإسرائيلي إلى تمدد النفوذ العسكري الإسرائيلي في الجنوب المصري، وهو ما يعني تهديدًا لأمنها القومي والمائي ووضعها في دائرة الابتزاز؛ خاصةً في قناة السويس التي تسعى إسرائيل إلى تهميشها وتقليل أهميتها عبر مشروعها الجديد (إيلات- عسقلان).
- في السياق نفسه تُراقب مصر عن كثب حالة التدافع والتنافس الدولية على إنشاء قواعد عسكرية في البحر الأحمر (بورتسودان)، وفي مقدمة الساعين إلى هذا روسيا وأمريكا، وتتخوف القاهرة من تزايد احتمالات وجود قوى أجنبية بالقرب من مياهها الإقليمية بما قد يُشكّل تهديدًا مُحتملاً لها في المستقبل. وربما يفسر هذا إقدام الجانب المصري إلى الإعلان في مطلع عام 2020 عن تدشين أكبر قاعدة عسكرية بالبحر الأحمر وأفريقيا في منطقة برنيس القريبة من حدوده مع السودان.[25]
- وأخيرًا فإن الدافع الأهم حاليًا بالنسبة لمصر إلى توثيق علاقاتها مع الجار السوداني متعلّق بأزمة سد النهضة كما سبق، فهو أحد أهم دوافعها للتقارب مع السودان، وتهدف من ورائه إلى إضعاف الموقف الإثيوبي، وقطع الطريق عليه من استجرار السودان لصالحه كما حدث سابقًا في عهد الرئيس المعزول عمر البشير، وبالتالي يمكن القول: إنّ شهر آذار/مارس- 2021 كان بداية تشكيل التحالفات في شرق أفريقيا متمثلةً في المعسكر المصري السوداني، ضد التحالف الإثيوبي الإريتري الصومالي. ومن المحتمل أن تستمر جميع الأطراف في استقطاب المزيد من الدول لتحسين موقفها وموقعها التفاوضي في هذا الملف.
- دوافع السودان:
تنحصر دوافع السودان التقاربية مع مصر في ثلاث ركائز رئيسة كما يلي:
- في ظل توتّر علاقة السودان مع نظيره الإثيوبي في ملفات الحدود وسد النهضة، فإن العلاقات مع مصر تصبح للسودان على درجة عالية من الأهمية؛ كون مصر تمتلك أوراق ضغط وتأثير على المعادلة الداخلية السودانية، إلى جانب ثقلها السياسي بين دول حوض النيل، وبالتالي اهتم السودان بالحصول على دعم مصر لتقوية موقفه في مواجهة إثيوبيا. وهذا ما يفسر مشاركة السودان في مناورات “نسور النيل” التي جاءت بناءً على طلب من رئيس الوزراء المصري. كما يطمح السودان إلى الاستفادة من الخبرات العسكرية المصرية لتأهيل وتدريب الجيش السوداني وتقوية شرعيته داخل السودان على حساب المكون المدني.
- يطمح السودان إلى الاستفادة من خبرات مصر في المجال الاقتصادي والتجاري؛ بهدف إنعاش حركة الاقتصاد السوداني، وإخراج البلاد من أزماته التي لطالما سببت موجات احتجاجات وانقسامات بين مكونات وحاضنات الحكومة، فحتى وقت قريب شهدت عدة محافظات سودانية موجات احتجاج بسبب تردّي الأوضاع المعيشية وتعويم العملة المحلية أمام الدولار، وبإمكان مصر تقديم العديد من الدعم كما سبق في مجالات توليد الطاقة والربط الكهربائي ورفع التبادل التجاري من خلال المعابر الحدودية بشكل يتيح توفير السلع الضرورية للسودان كالخبز والدواء.
- على صعيد استراتيجي تتركّز حسابات السودان – من وراء تقاربه مع مصر – في الاستفادة من توسيع انفتاحه مع العالم الخارجي واندماجه مع المجتمع الدولي، بعد العزلة الدولية التي عانى منها طيلة عقود، فضلًا عن سعيه إلى تحقيق سياسات متوازنة مع جميع الدول.
خامسًا: تداعيات التقارب على بعض ملفات دول الجوار:
لا شك أن التقارب المصري السوداني في الوقت الحالي من الممكن أن ينعكس إيجابًا على بعض الملفات ذات الصلة بدول الجوار؛ فالطرفان يجمعها أولًا اهتمام مشترك بتطورات الملف الليبي، فبعد حدوث نقلة نوعية داخل ليبيا على المستوي السياسي، فمن المتوقع أن يعزز التعاون الإيجابي العسكري والأمني بين الجانبين في مجال مكافحة الإرهاب وضبط الحدود عبر محددين رئيسين: ضبط الحركة التجارية ومنع التهريب، ومنع تسلل المليشيات عبر الحدود مع ليبيا.
كذلك يُتوقع أن يسهم التقارب في تعزيز التعاون الأمني والعسكري في ملف البحر الأحمر، حيث تُولي مصر أهمية عليا لأمنها المائي، وتسعى على الدوام للتواجد هناك، ومراقبة التطورات السياسية والأمنية التي أخذت بعدًا دوليًا بعد تنامي الفاعلية الدولية.
إن التعاون السوداني المصري في ملف سد النهضة من الممكن أن يُشكّل خصوصية مصرية سودانية بعيدًا عن أجندات الدول الفاعلة والمؤثرة في سد النهضة، وهو ما يعني تحقيق أهداف وطنية ذاتية تظل محصورة في مصالح مصر والسودان؛ الدولتين المعنيتين بشكل مباشر بحصص ماء النيل باعتبارهما دولتي مصب.
خاتمة:
بناءً على ما سبق يمكننا القول: إنّ التقارب المصري السوداني هو ضرورة حالية لكليهما معًا في ظل تنامي المهددات والأزمات لأمنهما القومي والمائي، وهو أيضًا مصلحة استراتيجية مشتركة نابعة من محددات العلاقات التاريخية التي يشترك بها الطرفان من روابط اجتماعية وثقافية ودينية واقتصادية.
وكما أشرنا أعلاه فإنّ موقعهما الحيوي والاستراتيجي يُحتّم عليهما التنسيق والتقارب الدائم، انطلاقًا من شراكة الحدود وشريان الحياة المتمثل في نهر النيل وصولًا إلى خصوصية البحر الأحمر. ولا شك أنه في حال استمرار تعزيز العلاقات – حتى وإن كانت حاليًا في إطار تكتيكي – فهي ستنعكس إيجابًا على مصالح الدولتين، وستُعزز من فرص مسار التنمية في جوارهما الحيوي، وتُخفف حدة الأزمات، سواء في الملف الليبي أو في منطقة البحر الأحمر، وصولًا إلى العمق الأفريقي الذي تمّ إدراجه في دائرة الاهتمامات المشتركة عبر تفعيل مسارات التنمية وتحقيق الاستقرار وتخفيف النزاعات.
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2021
السيسي في السودان لأول مرة منذ الإطاحة بالبشير، عربي بوست، 6-3 2021.
اختتام مناورات “نسور النيل” المصرية السودانية، الحرة، 4- أبريل 2021.
مصر والسودان تعلنان المشاركة في مباحثات كينشاسا حول سد “النهضة”، الأناضول، 2-4 2021.
أخطر خمس سنوات في تاريخ الصراع بحوض النيل، المركز العربي الديمقراطي، 28- يوليو 2020.
الحدود المصرية – السودانية: قصة وعد لم يتحقق، كارنيغي، 27- يناير 2021.
العلاقات المصرية السوداني في عهد مبارك، الجزيرة للدراسات، 8- أغسطس 2011.
تدفق مرتزقة السودان إلى ليبيا يثير مخاوف إطالة أمد الحرب هناك، الشروق، 30- ديسمبر 2019.
العلاقات المصرية – السودانية في الفترة “2011- 2015، المركز العربي الديمقراطي، 28- يوليو- 2016.
اتفاقية الحريات الأربع والعلاقات المصرية – السودانية، مركز الأهرام للدراسات، 1-4- 2018.
أزمة “إيفرجيفن” تفتح باب البحث عن بدائل لـ “قناة السويس، الأناضول، 30-3- 2021.
السودان: السعودية تراجعت عن اتفاقية 1974 وسودانية حلايب، الأناضول، 4-12- 2017.
آفاق العلاقات المصرية السودانية بعد ثورة 25 يناير، الجزيرة للدراسات، 3- أبريل2011.
بالتواريخ.. أبرز وأهم الاتفاقات الموقعة بين مصر والسودان، الدستور، 6- مارس 2021.
وزير النقل يفتتح “منفذ قسطل ويتفقد الطريق الدولي “قسطل – وادي حلفا” بين مصر والسودان، الأهرام، 27-8-2014.
دعم متمردي دارفور عنوان أزمة بين مصر والسودان، الجزيرة نت، 19-6- 2017.
العلاقات المصرية السودانية مصالح متبادلة وملفات مشتركة، الوطن، 6- مارس 2021.
البيان المشترك في ختام زيارة رئيس الوزراء المصري للسودان، وكالة السودان للأنباء، 15-8- 2020.
أماني الطويل، الدعم المصري لاتفاق جوبا، الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، 14-12- 2020.
ترامب يزيل السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، صحيفة الخليج، 23- أكتوبر- 2020.
المجلس العسكري السوداني يضبط بوصلته الخارجية تجاه مصر والسعودية وميراث “البشير، اندبندنت، 26- مايو- 2019.
أزمة سد النهضة: الرئيس المصري يؤكد من الخرطوم على ضرورة التوصل إلى اتفاق قضائي ملزم لكافة الأطراف، فرانس 24، 6-3- 2021.
سد النهضة: فشل مفاوضات “الفرصة الأخيرة” بين مصر والسودان، BBC، 6- أبريل 2021.
ما أبعاد الاتفاق العسكري السوداني المصري، اندبندنت، 4- مارس 2021.
العلاقات الاستراتيجية بين مصر والسودان هكذا كانت وبهذا الشكل تطورت، مرسال.
مصر تدشّن أكبر قاعدة عسكرية في البحر الأحمر، الشرق الأوسط، 16- يناير- 2020.
رابط المصدر:
https://barq-rs.com/%d9%85%d8%b5%d8%b1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%af%d8%a7%d9%86/