- يُشكل انتهاء عقد عبور الغاز الروسي عبر أوكرانيا تحولاً مهماً على مستوى الخريطة الجيوسياسية للطاقة في أوروبا، باعتباره يمثل حالياً نصف صادرات الغاز الروسية المتبقية عبر خطوط الأنابيب إلى الاتحاد
- تبدو أوروبا مرة أخرى على شفا أزمة غاز، لن تكون تداعياتها أقل تكلفة من أزمة ما بعد اندلاع حرب روسيا في أوكرانيا، ذلك أن الأزمة الحالية أكثر تعقيداً ومتعددة الأطراف والأوجه
- من المتوقع أن تدخل المؤسسات الأوروبية في نقاشات لتعديل أو تخفيف القواعد المتعلقة بالمناخ والمسؤوليات الاجتماعية والحقوقية، ولاسيما قانون “العناية الواجبة بالاستدامة المؤسسية”
- ستكون مسألة زيادة واردات أوروبا من الغاز الأمريكي بداية تسوية واسعة بين واشنطن وبروكسل بشأن التجارة بين الطرفين، وتعزيز الروابط في مجال الطاقة سيخلق مسار تبعية أوروبية جديد تجاه أمريكا.
رغم التعافي النسبي الذي شهدته أوروبا من مخلفات أزمة الطاقة التي فرضتها الحرب الروسية الأوكرانية في العام 2022، إلا أن معضلة تغذية القارة بالغاز الطبيعي لا تكاد تختفي حتى تعود مرة أخرى، بسبب قيامها على أسس جيوسياسية هشة، في ظل استقطاب أمني وسياسي غير مسبوق تشهده القارة. فما زالت روسيا تمسك بجزء أساسي من مسارات الغاز نحو دول الاتحاد الأوروبي. ومع عودة الرئيس دونالد ترمب إلى السلطة في الولايات المتحدة، أصبحت أسواق الغاز الأمريكية جزءاً من مقايضة استقرار العلاقات عبر الأطلسي، فضلاً عن القيود البيئية التي تحولت إلى عبء ثقيل يهدد استدامة تدفق الغاز نحو القارة.
مؤشرات الأزمة
خلال النصف الأول من ديسمبر تجمعت مؤشرات كثيرة تكشف عن عمق معضلة استدامة تدفق الغاز للاتحاد الأوروبي، وخاصة عن هشاشة الأسس التي بنى عليها الأوروبيون معادلة السيادة الطاقية والخلل البنيوي الذي تعانيه، لاسيما أن الاتحاد يحتاج إلى الحفاظ على تدفق مستمر خلال الفترة الانتقالية وصولاً إلى 2035، الموعد الأقصى للتخلص من الغاز الأحفوري، وفقاً للصفقة الأوروبية الخضراء.
1) برغم وقف أغلب دول الاتحاد الأوروبي توريد الغاز من روسيا عبر الأنابيب، خلال الأيام الأولى من حرب أوكرانيا، إلا أن خمس دول من الكتلة الأوروبية ما زالت تعتمد على واردات الغاز الروسي، وهو استثناء منحته المفوضية الأوروبية للمجر والنمسا وسلوفاكيا وإيطاليا ومولدوفا، بناءً على اتفاقية وُقعت في عام 2019، بين شركة الغاز الروسية غازبروم وأوكرانيا مدتها خمس سنوات لحماية نقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا. وبالتالي فإن هذا الاتفاق ينتهي بنهاية العام الحالي. وبلغت صادرات روسيا من الغاز عبر أوكرانيا في عام 2023 نحو 15 مليار متر مكعب ــ وهو ما يمثل 8% فقط من ذروة تدفقات الغاز الروسي إلى أوروبا عبر طرق مختلفة في عامي 2018 و2019. لكن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي،أعلن عقب اجتماعه مع زعماء الاتحاد الأوروبي في بروكسل، أن بلاده لن تسمح بعد الآن بمرور الغاز الروسي عبر أراضيها بعد نهاية العام الجاري، مشيراً إلى أن الحظر سينطبق على أي تدفق للغاز “قادم من روسيا” لتجنُّب خطر بيع الغاز الروسي إلى أوروبا تحت غطاء الغاز المورد من أذربيجان. في الوقت نفسه أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الاتفاق سوف ينتهي قريباً، ولن يؤثر على شركة الطاقة الروسية.
وأيدت المفوضية الأوروبية وأغلبية الدول الأعضاء في الاتحاد قرار أوكرانيا بعدم تمديد اتفاقها مع روسيا. لكن وراء هذا الصراع الجيوسياسي ربما تواجه الدول التي ما زالت تعتمد على الغاز الروسي أزمةً تختلف حدتها بحجم اعتمادها. وحذرت شركات إمدادات الغاز ومشغلو الشبكات والمستهلكون الصناعيون من المجر وسلوفاكيا والنمسا وإيطاليا، في رسالة إلى رئيس المفوضية الأوروبية، من أن نهاية الاتفاق قد تُعقِّد عمليات قطع تدفق إمدادات الغاز، أو تؤدي إلى انقطاعات في أماكن مختلفة، وكذلك ستؤدي إلى ارتفاع أسعار الغاز للمستهلكين، وبالتالي على النشاط الصناعي. وفي سلوفاكيا، التي تستورد حوالي 65% من احتياجاتها من روسيا، من المرجح أن يكلف قطع الإمدادات أكثر من 220 مليون يورو. كما أنها ستخسر حوالي 1.5 مليار دولار سنوياً من إعادة بيع ونقل الغاز الروسي، بوصفها دولة عبور. وتُدافع كلٌّ من المجر وسلوفاكيا بشدة على مبدأ تجديد الاتفاق. وهو ما دفع رئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو إلى زيارة موسكو، وهي الزيارة الثالثة فقط التي يقوم بها رئيس حكومة في الاتحاد الأوروبي منذ حرب روسيا في أوكرانيا. وقال فيكو إن “الرئيس الروسي فلاديمير بوتن أكد استعداد بلاده لمواصلة توريد الغاز إلى الغرب وسلوفاكيا، وهو أمر مستحيل عملياً بعد الأول من يناير 2025 في ضوء موقف الرئيس الأوكراني”.
2) في يوليو الماضي أقر الاتحاد الأوروبي تشريعاً جديداً يسمى “العناية الواجبة بالاستدامة المؤسسية“، والذي يفرض قواعد جديدة أكثر صرامة على الشركات تتعلق بتحديد ومعالجة الآثار الضارة المحتملة والفعلية على حقوق الإنسان والبيئة في عمليات الشركة نفسها، وفروعها، وفي حالة ارتباطها بسلسلة القيمة الخاصة بشركائها التجاريين. بالإضافة إلى ذلك، يحدد التوجيه التزامًا على الشركات الكبرى بتبني وتنفيذ خطة انتقالية للتخفيف من آثار تغير المناخ تتماشى مع هدف الحياد المناخي لعام 2050 لاتفاقية باريس بالإضافة إلى الأهداف الوسيطة بموجب قانون المناخ الأوروبي. ومن المفترض أن يدخل هذا التشريع حيز التنفيذ بدايةً من عام 2027. وينص التشريع على أن تقوم دول الاتحاد الأوروبي بإدخال صلاحيات لفرض غرامات على عدم الامتثال بحد أقصى لا يقل عن 5 في المائة من الإيرادات العالمية السنوية للشركة. وستكون الشركات من خارج الاتحاد عرضة للعقوبات في حال لم تلتزم بقواعد التوجيه إذا حققت أكثر من 450 مليون يورو من صافي مبيعاتها داخل الاتحاد.
وهذا ما دفع قطر للتلويح بوقف صادراتها من الغاز للاتحاد الأوروبي إذا تم تغريمها بموجب هذا القانون. وانخفضت صادرات قطر من الغاز الطبيعي المسال إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 38.3٪ في الربع الثالث من عام 2024. وعلى الرغم من ذلك، تظل قطر رابع أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في أوروبا. وفي أعقاب الحرب الروسية في أوكرانيا، وقعت شركة قطر للطاقة اتفاقيات طويلة الأجل لتوريد الغاز الطبيعي المسال إلى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا.
3) قبل أسابيع من بداية ولايته رسمياً، قال الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترمب إنه “أخبر الأوروبيين أنه يجب عليهم تعويض عجزهم التجاري الهائل مع الولايات المتحدة من خلال شراء كميات كبيرة من النفط والغاز الأمريكي، وإلا فسوف تكون الرسوم الجمركية هي الحل الوحيد”. ويبلغ العجز التجاري الأمريكي مع أوروبا إلى نحو 107 مليارات دولار سنوياً. ومن المتوقع أن يسجل هذا العجز رقماً قياسياً جديداً في عام 2024 عند نحو 230 مليار دولار. ويريد ترامب فرض رسوم جمركية على الصادرات الأوروبية لأمريكا لخفض هذا العجز أو تصفيره، في مسعى لتحفيز الاقتصاد المحلي وزيادة تنافسية الشركات الأمريكية وخفض التضخم في الولايات المتحدة. خاصة أن التضخم قد شكل عاملاً أساسياً في التصويت له في الانتخابات الأخيرة.
في المقابل زادت أوروبا بشكل كبير من وارداتها من الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة خلال السنوات الثلاث الماضية مع سعي بروكسل إلى تنويع مصادر الإمدادات بعيداً عن روسيا. وبحسب الأرقام الرسمية للاتحاد الأوروبي، كانت الولايات المتحدة المصدر الأكبر للنفط والغاز غير المنقول عبر الأنابيب في الربع الثالث من هذا العام، حيث صدرت أكثر من 15% من النفط ونحو 38% من واردات الغاز الطبيعي المسال إلى الاتحاد. ومن حيث إجمالي واردات الغاز، فقد غطت الصادرات الأمريكية خمس الطلب في الاتحاد الأوروبي العام الماضي، في المرتبة الثانية بعد النرويج المجاورة. ورداً على تهديد ترمب، قال المتحدث الرسمي باسم المفوضية الأوروبية للأمن الاقتصادي والتجارة، أولوف جيل: “إن الاتحاد الأوروبي مستعد لمناقشة مع الرئيس المنتخب دونالد ترمب حول كيف يمكننا تعزيز العلاقة الثنائية، بما في ذلك من خلال مناقشة مصالحنا المشتركة في قطاع الطاقة”.
التداعيات
من خلال تحليل هذه المؤشرات الثلاثة تبدو أوروبا مرة أخرى على شفا أزمة غاز، لن تكون تداعياتها أقل تكلفة من أزمة ما بعد اندلاع حرب روسيا في أوكرانيا، ذلك أن الأزمة الحالية أكثر تعقيداً ومتعددة الأطراف والأوجه.
المعضلة الروسية
يُشكل انتهاء عقد عبور الغاز الروسي عبر أوكرانيا تحولاً مهماً على مستوى الخريطة الجيوسياسية للطاقة في أوروبا، باعتباره يمثل حالياً نصف صادرات الغاز الروسية المتبقية عبر خطوط الأنابيب إلى الاتحاد الأوروبي وثلث إجمالي صادرات الغاز الروسية، بما في ذلك الغاز الطبيعي المسال. وبالتالي فهو خطوة استباقية للخطة الأوروبية الإستراتيجية لوقف جميع واردات الغاز الروسي بحلول عام 2027. لكنه أيضاً يعني خسارة ما يقرب من 7 إلى 8 مليارات دولار سنويًا من عائدات التصدير مقابل 15 مليار متر مكعب من الغاز تعني خسارة 15% من الإيرادات، ما لم تتمكن من إعادة توجيه هذه التدفقات إلى خطوط أنابيب أخرى. كما يعني خسارة لأوكرانيا، حيث تمثل رسوم العبور التي تحصلها كييف من عبور الغاز الروسي حوالي 0.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، فضلاً عن إنهاء دورها الاستراتيجي كشريك في مجال الطاقة لأوروبا. ومن شأنه أن يزيد من حالة عدم اليقين في سوق الغاز في الاتحاد الأوروبي ومن المرجح أن يؤدي إلى انخفاض قصير الأجل في أحجام الغاز المتاحة، وخاصة في بعض بلدان وسط أوروبا.
لكن نهاية اتفاق العبور تعني خروج شبكات نقل الطاقة وإنتاجها داخل أوكرانيا من دائرة الحياد في ظل الحرب، حيث كانت روسيا دائماً ما تتجنَّب قصف أو تدمير هذه الشبكات، لأنها تؤمِّن نقل الغاز الروسي، أما اليوم فقد أصبحت هذه الشبكات ربما من بين بنك أهداف الحرب. أما على المستوى الأوروبي فمن المرجح أن تزيد هذه الأزمة من حجم الانقسام الداخلي بين الدول. حيث بدا واضحاً وجود كتلة من الدول أقرب لروسيا من أوكرانيا، على رأسها المجر وسلوفاكيا والنمسا. وبالتالي ربما يستفيد فلاديمير بوتين من أزمة الغاز لتعزيز موقفه داخل الاتحاد الأوروبي، ولاسيما دول شرق أوروبا، التي اعتبرها دائماً عمقاً استراتيجياً روسياً ورثه عن الاتحاد السوفياتي.
التحدي التشريعي
يشكل التهديد القطري بوقف توريد الغاز لأوروبا، بسبب قانون “العناية الواجبة بالاستدامة المؤسسية”، بداية المتاعب التي يمكن أن يشكلها هذا التشريع بالنسبة للاتحاد الأوروبي في المستقبل. بدايةً ستضطر الدول الأوروبية إما للتضحية بالمورد القطري وبالتالي تعويضه بمورد آخر ضمن شروط جيوسياسية صعبة، أو إجراء تسوية تخفف من صرامة هذا القانون أو تؤجل تنفيذه. وفي كل الحالات يحتاج ذلك إعادة نقاش وتصويت داخل المؤسسات، وربما يؤدي إلى اضعاف مصداقية هذه المؤسسات. فضلاً عن ذلك فإن القانون لا يستهدف المورد القطري فقط، بل جميع الشركات الأوروبية أو التي تتعامل مع السوق الأوروبية وبالتالي ستكون له تداعيات مكلفة على الاتحاد الأوروبي مستقبلاً، حيث من شأن ذلك أن يعقد سلاسل التوريد نحو أوروبا، ويدفع الدول الأخرى إلى فرض قيود وقواعد ضد الصادرات الأوروبية، في ظل توجه عالمي نحو مزيدٍ من الحروب التجارية والحمائية والرسوم الجمركية.
وكانت المفوضية الأوروبية قد أعلنت في نوفمبر الماضي عن عزمها تبسيط القواعد البيئية في الاتحاد بشكل جذري، في محاولة لتحفيز الصناعة المتعثرة في أوروبا والتنافس مع الاقتصادات الأسرع نمواً في آسيا وأمريكا. ومن بين هذه القواعد قانون “توجيه العناية الواجبة بالاستدامة”. ومع ذلك يبقى هذا التحدي قابلاً للإدارة حالياً باعتبار أن هذا القانون لن يدخل حيز التنفيذ إلا في مطلع العام 2027، وبالتالي ما زال أمام الاتحاد الأوروبي وقت للتصرف في إيجاد البدائل أو التخفيف من البيروقراطية التشريعية.
الفرصة الأمريكية
برغم أن المساومة التي قدمها دونالد ترمب للأوروبين لربط مصير الرسوم الجمركية الأمريكية المحتملة بواردات الغاز والنفط، تبدو في لهجة التهديد، إلا أنها تشكل فرصة للأوروبيين للدخول في صفقة أكبر لإنقاذ التجارة الأوروبية من أزمة كارثية في حال فرضت واشنطن رسوماً جمركية تفوق العشرة في المئة.
وتشير تقديرات أوروبية إلى أن تكاليف فرض ترمب رسوماً جمركية في الحد الأدنى بنسبة 10% على الواردات الأوروبية و60% على الواردات الصينية، قد تؤدي إلى انكماش التجارة العالمية بنسبة 2.5%، مع انكماشات أكبر إذا رد الشركاء التجاريون برسوم انتقامية. وقد ينخفض الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي بنسبة تصل إلى 0.5%. في المقابل لن تكون خسائر الاتحاد الأوروبي كبيرة في حال قايض إلغاء الرسوم الجمركية بتوريد المزيد من الغاز الأمريكي، حيت تعتمد أوروبا على الولايات المتحدة – من بين شركاء آخرين – لتعويض الغاز الروسي منذ عام 2022. فمن عام 2018 حتى عام 2021، بلغ متوسط صادرات الغاز الطبيعي المسال الأمريكي إلى أوروبا حوالي 15 مليون طن سنوياً، لكنها قفزت إلى حوالي 55 مليون طن سنويًا في عامي 2022 و2023 مع سعي شركات الطاقة الأوروبية لتعويض الغاز الروسي. وقبل أن يُلوح ترامب بهذا التهديد، كانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين قد اقترحت، في نوفمبر الماضي، أن تشتري أوروبا المزيد من الغاز الطبيعي المسال من أمريكا، لردع الرئيس الأميركي المنتخب عن فرض رسوم جمركية جديدة، مشيرةً إلى أنه “يجب استبدال الواردات الروسية بالغاز الطبيعي المسال الأمريكي”. وهذا النهج الأوروبي في مجال الطاقة من شأنه أن يعزز العلاقات عبر الأطلسي، أو على الأقل أن يخفف التوتر المحتمل مع إدارة ترمب في مجالات أخرى كالدفاع والقواعد المناخية.
التوقعات المستقبلية
أولاً، من المحتمل ألَّا يتم تجديد اتفاق العبور بين روسيا وأوكرانيا، وبالتالي ستكون الدول المستفيدة من الغاز الروسي أمام خيارين. الأول خيار تكثيف الاعتماد على خط الأنابيب ترك ستريم، الذي يمتد من روسيا إلى تركيا عبر البحر الأسود، وصولاً إلى أوروبا. وتستفيد من هذا الخط كلٌّ من بلغاريا والنمسا والمجر، التي تريد التحول إلى مركز للغاز الروسي في القارة الأوروبية، مدفوعةً بعلاقات وطيدة بين رئيس الوزراء فيكتور أوربان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. في المقابل من المحتمل أن تتجه الدول التي لا تستفيد من خط ترك ستريم، وهي سلوفاكيا ومولدوفا، نحو استبدال الكميات التي يتم نقلها حالياً من روسيا بواردات الغاز الطبيعي المسال من بلدان أخرى. وفي حالات الطوارئ المتعلقة بالشتاء الحالي يمكنها أن تعتمد على محطات الغاز الطبيعي المسال في بولندا وألمانيا وليتوانيا وإيطاليا وكرواتيا واليونان، ووحدات تخزين الغاز العائمة الجديدة في ألمانيا وإيطاليا. وقد تؤدي نهاية اتفاق العبور إلى دفع جزء من الدول الأوروبية إلى المطالبة بفرض عقوبات على واردات الغاز الروسي على مستوى الاتحاد الأوروبي، أو فرض ضريبة استيراد وحدود لحجم التوريد.
ثانياً، من المتوقع أن تدخل المؤسسات الأوروبية في نقاشات لتعديل أو تخفيف القواعد المتعلقة بالمناخ والمسؤوليات الاجتماعية والحقوقية، ولاسيما قانون “العناية الواجبة بالاستدامة المؤسسية”، وكذلك وضع استثناءات تتعلق بسلاسل التوريد الحيوية للاتحاد مثل الطاقة والمعادن الحرجة والموارد الطبيعية بصفة عامة. وذلك لدرء أي حروب تجارية أو صدمات بسبب الإجراءات المضادة التي يمكن أن تفرضها الدول من خارج الاتحاد الأوروبي ضد الاتحاد. وفيما يتعلق بالخلاف مع قطر، من المحتمل أن يذهب الطرفان نحو تسوية، ذلك أن الاتحاد الأوروبي يريد خلال الفترة الانتقالية ضمن خطة التحول الطاقي (حتى 2050) تأمين إمدادات طاقة مستقرة، ومن المرجح أن يؤدي خفض التوتر في الشرق الأوسط – لاسيما في سوريا وغزة – إلى تعزيز واردات الاتحاد من الغاز.
ثالثاً، من المرجح أن تكون مسألة زيادة واردات أوروبا من الغاز الأمريكي بداية تسوية واسعة بين واشنطن وبروكسل بشأن التجارة بين الطرفين، تؤدي إلى خفض العجز التجاري الأمريكي تجاه أوروبا، دون أن تتأثر الصادرات الأوروبية إلى أمريكا بالرسوم الجمركية. وفي أقصى الحالات، من المرجح أن تكون الرسوم نسبية وقطاعية وغير شاملة. وبرغم أن ترمب يريد فك الارتباط مع الأوروبيين في المجال الدفاعي، إلا أن تعزيز الروابط في مجال الطاقة من شأنها أن تخلق مسار تبعية أوروبية جديد تجاه أمريكا. وبالتالي تخلق مصالح مشتركة في قطاع استراتيجي بالنسبة للرئيس ترمب. في المقابل سيكون رفع حصة أمريكا من واردات الغاز الأوروبية على حساب شركاء آخرين مثل النرويج وأذربيجان وقطر والجزائر.
خلاصة
يبدو أن أوروبا تتجه مرة أخرى إلى أزمة غاز، شبيهة بالأزمة التي تشكلت في أعقاب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية قبل ثلاث سنوات. فقد تجمعت خلال النصف الأول من ديسمبر مؤشرات كثيرة تكشف عن عمق معضلة استدامة تدفق الغاز للاتحاد الأوروبي، وخاصة عن هشاشة الأسس التي بنى عليها الأوروبيون معادلة السيادة الطاقية والخلل البنيوي الذي تعانيه.
فالمؤشر الأول هو التوقف المحتمل لعبور الغاز الروسي لأوروبا عبر أوكرانيا بسبب رفض كييف تجديد اتفاقية 2019. وهو ما يعني أزمة طاقة في سلوفاكيا ومولدوفا والمجر والنمسا. والثاني تلويح قطر بوقف تصدير الغاز بسبب القيود والغرامات التي يفرضها قانون “العناية الواجبة بالاستدامة المؤسسية الأوروبية. أما الثالث فتهديد ترمب بمقايضة إلغاء الرسوم الجمركية التي يريد فرضها على الصادرات الأوروبية بتوريد المزيد من النفط والغاز الأمريكي.
وبرغم التحديات التي تفرضها هذه المؤشرات في اتجاه حالة عدم اليقين في سوق الغاز في الاتحاد الأوروبي ونحو انخفاض قصير الأجل في أحجام الغاز المتاحة، وخاصة في بعض بلدان وسط أوروبا، وكذلك تحديات البيروقراطية والتشريعات والوقوع في التبعية الطاقية للولايات المتحدة، إلا أنها يمكن أن تمثل فرصة للأوروبيين. أولاً للتخلص من التبعية الطاقية لروسيا نهائياً والمضي في طريق التخلص من الوقود الأحفوري. وثانياً تطوير العلاقات عبر الأطلسية المهددة بعودة ترمب إلى السلطة، ودرء مخاطر فرض رسوم جمركية يمكن أن تقود الصناعات الأوروبية والتجارة إلى كارثة غير مسبوقة.