منذ سنة بالتمام والكمال شُرِّفت بكتابة افتتاحية هذه المجلة الرصينة في كانون الأول/ديسمبر 2023 بعنوان «غزة تكتب التاريخ وتبهر العالم»، وها هي غزة تواصل، بعد مرور 14 شهرًا على عملية «طوفان الأقصى» المجيدة، تصديها لأبشع عدوان ترتكبه إسرائيل بمشاركة مباشرة ودعم كامل من الإدارة الأمريكية لولاه لما صمدت إسرائيل في حربها الوحشية على غزة، ولقد حظيت المقاومة منذ أول وهلة على إسنادٍ من فصائل مقاومة أصيلة على رأسها «حزب الله» في لبنان، وها هي إسرائيل تكرر على أرضه جريمتها في غزة انتقامًا من الضربات الموجعة التي وجهتها المقاومة لها، فضلًا عن الاعتداء الإسرائيلي على اليمن، والتقارير التي تتحدث عن اعتداء وشيك على العراق. ولا بد من الاعتراف بأن إسرائيل قد تمكنت في الآونة الأخيرة من توجيه ضربات مؤلمة للمقاومة في لبنان بدءًا بتفجير أجهزة الاتصال الشخصية لآلاف من مقاتلي «حزب الله»، وانتهاءً باغتيال قياداته وعلى رأسها السيد الشهيد حسن نصر الله، كذلك لا شك أن استشهاد يحيى السنوار مثل خسارة فادحة للمقاومة، فضلًا عن استمرار إسرائيل في ارتكاب مذابحها في غزة.
في هذا السياق وجد خصوم المقاومة بيننا أن الفرصة سانحة لتصفية الحسابات معها، ومن المعروف أن هؤلاء لم يتركوا فرصة منذ بداية «طوفان الأقصى» إلا وانتهزوها للنيل من المقاومة، كما سبق لي وأن أوضحت في افتتاحية كانون الأول/ديسمبر 2023، فمن اتهامها بالحماقة لقيامها بخطوات غير محسوبة، مع أن حركات التحرر الوطني كافة يمكن أن تُوَجَّه إليها هذه التهمة، ومع ذلك فقد انتصرت في النهاية، إلى اتهامها بالقيام بتمثيلية بالتواطؤ مع العدو لتبرير تدمير غزة وطرد أهلها، ويا لها من تمثيلية ألحقت بالعدو خسائر فادحة، واستُشْهِد فيها خيرة قادتها ومناضليها، إلى انتقاد «حماس» لانتمائها إلى جماعة «الإخوان المسلمين»، صاحبة الخلافات مع عدد من الأنظمة العربية الحاكمة، وانتقاد «حزب الله» لعلاقته بإيران، وكأنه لا يوجد شيء اسمه تناقض رئيسي مع العدو ينبغي أن تتوارى أمامه كل التناقضات الثانوية الأخرى، إلى انتقاد فصائل المقاومة كافة بأنها السبب في الخسائر المادية والبشرية الهائلة التي لحقت بفلسطين ولبنان، وكأن آلة الحرب الإسرائيلية لا تُعْمِل فينا القتل والتدمير الممنهجين منذ نشأتها وحتى الآن بالمقاومة أو من دونها.
غير أن هؤلاء الخصوم تصوروا أن الضربات المؤلمة الأخيرة للمقاومة قد قدمت إليهم فرصة الإجهاز عليها على طبق من ذهب، فانطلقوا يكررون فكرتهم الخاطئة بأن خيار المقاومة خيار فاشل وعقيم أصلًا، ويسخرون منها على أساس أنها تلقت من الضربات ما يكفيها لإعلان استسلامها، والتوقف عن إدعاء القدرة على التصدي للعدو وهزيمته، بل استخدم أحدهم تعبير «انتهى الدرس يا غبي»، مع أن الأغبياء هم الذين ما زالوا عاجزين عن فهم منطق التاريخ، ويكررون أعمالهم العدوانية الإجرامية نفسها التي لم تمكنهم من إخضاع الشعبين الفلسطيني واللبناني، بل كل الشعوب العربية التي نالها يومًا شيء من سلوك إسرائيل العدواني، كما أخذ هؤلاء يبشرون بأن شرق نتنياهو الأوسط في طريقه ليكون النظام الجديد للشرق الأوسط.
ولهذه الأصوات التي يمكن ببساطة شديدة وصفها بالانهزامية، بل بالعمالة أيضًا، أسجِّل الملاحظات التالية:
أولًا، أن خيار المقاومة الذي يطالبون بإسقاطه ليس خيارًا، يقرره الأكاديميون والخبراء لمن احتُلَّت أرضه وسُلِبَت حقوقه وامتُهِنَت كرامته، ولكنه قدر بالنسبة إلى المظلومين تحمل رايته نخبة منهم تُحْتَضُن من جانبهم، وتناضل عنهم حتى استرداد الحقوق مهما طال الزمن، ويتفاخر العدو الآن ويسعد باغتيال قادة المقاومة وعلى رأسهم السيد الشهيد حسن نصر الله والمناضل الشهيد يحيى السنوار، ولو أنهم راجعوا سياسات الاغتيال والقتل عبر التاريخ، وتحديدًا في تاريخ فلسطين ولبنان لوجدوا أن قتلهم عز الدين القسام قد أثمر كتائب تحمل اسمه بعد نصف قرن، وتكيل لإسرائيل الضربات منذ عقود، وأن اغتيالهم قادة «حماس» تباعًا، بدءًا بالشيخ أحمد ياسين وانتهاء بإسماعيل هنية، لم ولن يمكنهم من القضاء على المقاومة، ولينتظروا كتائب السنوار التي ستظهر يومًا بعد مدة قد تطول وقد تقصر، وتُنْزِل بهم ضربات أشد بما لا يُقارن بحماس اليوم، حتى يتحقق النصر مهما طال الزمن، فهذا هو قانون التاريخ ومنطقه وحكمته.
ثانيًا، أن الضربات المؤلمة الأخيرة للمقاومة التي أسعدت خصومها وأعداء الأمة لم تفقدها توازنها، فما زالت الجولة مستمرة في فلسطين ولبنان، وما زال أداء المقاومة على أرضهما متماسكًا، وقادرًا على إلحاق الضرر بالعدو العاجز عن تحقيق أهدافه الاستراتيجية، ومع أن ميزان القوى المادية يميل بحسم لمصلحة الكيان العنصري وحُماته فإن الإيمان بالقضية وصمود الحاضنة الشعبية للمقاومة وصمود المقاتلين وعزمهم الذي لا يلين ما زال يبقي احتمال انتهاء هذه الجولة لغير مصلحة العدو قائمًا، ولنتذكر إنجازات المقاومة في غزة مذ أُجبرت إسرائيل على الانسحاب منها عام 2005 وتفكيك المستوطنات القريبة منها، وفي لبنان بإفشال عدوان 1982 وإسقاط الاتفاق الذي تصورت إسرائيل أن فرضه على الشعب اللبناني ممكن، وإجبار القوات الإسرائيلية على الفرار من الشريط الجنوبي المحتل عام 2000، وملحمة الصمود بوجه عدوان عام 2006، وليعلم خصوم المقاومة والأمة أن خسارة المقاومة لهذه الجولة لا قدَّر الله لن يعني هزيمتها في صراعها مع عدوها، فقد عرفت حركات التحرُّر الوطني انكسارات مؤقتة كانت تنهض بعدها ولو بعد حين، لتواصل نضالها على نحو أشد وأكثر فاعلية وقد استفادت من دروس مواجهاتها مع العدو، ومن يراجع تاريخ النضال التحرري الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، الذي امتد لقرن وثلث القرن، أو نضال شعب جنوب أفريقيا ضد الاستعمار الاستيطاني الأبيض الذي بدأ ازدهاره في القرن التاسع عشر، سوف يجد أن النضال التحرري يتوقف أحيانًا لمدد قد تطول، لكنه يعود دائمًا أقوى مما كان، ولا ينتهي إلا بالاستقلال واستعادة الحقوق.
ثالثًا، أما المبشرون بشرق نتنياهو الأوسط الجديد الذي تصبح اليد العليا فيه لإسرائيل فلهم مني دعوة إلى قراءة ولو عابرة لتاريخ المنطقة وموقع الشرق الأوسطية من هذا التاريخ، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية بدأ التحالف الغربي يروج للفكرة الشرق الأوسطية، ويترجمها إلى خطوات عملية، إذ لا تروق الفكرة العربية لهذا التحالف، فاستنادًا إليها وانطلاقًا منها أدى العرب في مراحل تاريخية معينة دورًا مؤثرًا في النظام الدولي هدد المصالح الغربية، وكانت تجربة المد القومي العربي في خمسينيات القرن الماضي وستينياته بزعامة جمال عبد الناصر، والتحالف العربي في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، هي آخر تجارب الغرب مع هذا التحالف، وعليه فقد كان الإطار الشرق الأوسطي لتنظيم المنطقة التي نعيش عليها هو الإطار الأمثل بالنسبة إلى الغرب، وعليه توالت مشاريعه الشرق الأوسطية ابتداءً من مشروع قيادة الشرق الأوسط عام 1951 وحتى أحاديث «الناتو العربي» في السنوات الأخيرة. واللافت للنظر أن المشاريع الشرق الأوسطية كافة قد هُزمت من دون استثناء، ففي مرحلة المد القومي تكفّل جمال عبد الناصر مستندًا إلى الجماهير العربية بهزيمة هذه المشاريع، فلم تقم لحلف بغداد ومشروع أيزنهاور قائمة بسبب قوة حركة المد القومي آنذاك، لكن الغريب أنه حتى في حالة الانحسار التي أعقبت هزيمة عام 1967 لم تتمكن الأفكار الشرق الأوسطية من الانتشار، وظل حلم إسرائيل في معادلة المال الخليجي والعمالة من الدول العربية الكثيفة السكان والتكنولوجيا الإسرائيلية يراوح مكانه حتى بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 التي أزالت الحرج عن أي طرف عربي يريد التعاون مع إسرائيل، فعقب هذه الاتفاقية عُقِدت سلسلة من المؤتمرات الاقتصادية الدولية بغرض تطبيق فكرة دمج إسرائيل في المنطقة، ورغم ما اتُّخذ من قرارات في هذه المؤتمرات فإن شيئًا ذا بال لم يحدث في شأن فكرة دمج إسرائيل في المنطقة، ومع أن قمة الرياض الأمريكية-العربية-الإسلامية عام 2017 نصت على إنشاء تحالف شرق أوسطي فإن هذا التحالف لم يُترجم في أي وقت إلى حقيقة على أرض الواقع، وكانت فكرة «الناتو العربي» هي آخر التجليات في هذا الصدد؛ ومع ذلك، لم يجرؤ الرئيس الأمريكي على طرح هذه الفكرة على قمة جدة في تموز/يوليو 2022، وبخاصة أن وزراء خارجية مشاركين في القمة لهم وزنهم أدلوا قبل المؤتمر وأثناءه وبعده بتصريحات تعارض إنشاء أي حلف في المنطقة.
ليحلم نتنياهو إذن كما يريد بشرق أوسط جديد تكون لإسرائيل اليد العليا فيه، وهو على أي حال يردد منذ أكثر من سنة أوهامه عن تغييره للشرق الأوسط بينما لم ينجح طوال هذه المدة إلا في إثبات قدرته على القتل والتدمير، وفي المقابل تأكدت حدود القوة الإسرائيلية رغم أنها مدعومة بالكامل من القوة الأولى في العالم، فبعد أكثر من سنة ما زالت هذه القوة الغاشمة عاجزة عن تحقيق أهدافها من الحرب، وعلينا أن نثق بدروس التاريخ ومنطقه وحكمته، وأن نكون للمقاومة خير سند، وأن نفضح التهم والأكاذيب التي تهدف إلى تقويضها، وأن نتجاوز خلافاتنا الأيديولوجية والسياسية والدينية والطائفية لمصلحة إدارة التناقض الرئيسي مع الكيان الصهيوني العنصري على النحو الذي يحقق لنا النصر بإذن الله.