- يَعكِس انتخاب جوزاف عون رئيساً للجمهورية، ونجاح نواف سلام في تشكيل الحكومة، التحولات الجذرية التي طرأت على موازين القوى السياسية اللبنانية، بعد التراجع الكبير في هيمنة حزب الله على قرار البلاد.
- تتلخص رؤية الرئيس عون الأمنية للبنان في ثلاث نقاط: احتكار المسؤوليات الأمنية في الداخل بيد الدولة اللبنانية؛ والسعي إلى تعيين ضباط أمن موالين له؛ وبناء شراكات أمنية أجنبية تضمن له الغطاء والشرعية الدولية لكل خطواته، لاسيما تلك التي تكون في وجه حزب الله.
- سيتركز الصراع الداخلي في لبنان، في المرحلة المقبلة، على إعادة هيكلة المؤسسات اللبنانية، وتوزيع المناصب الأمنية والإدارية، لاسيما مع سعي الرئيس عون إلى استعادة السيطرة على الأجهزة الأمنية وتهميش حزب الله.
- أكد كلٌّ من الرئيسين عون وسلام التزامهما بإعادة إعمار المناطق التي دمرتها الحرب الأخيرة، وكان لافتاً ربط سلام ملف إعادة الإعمار بالتنفيذ الجاد للقرار 1701 وجميع بنود اتفاق الهدنة. وفي هذا الإطار، يواجه حزب الله تحدياً أساسياً بسبب ربط عملية إعادة الإعمار بالمساعدات الخارجية.
- يُدرِك حزب الله أن استمرار أزمته المالية، وتفاقُم الأوضاع الاقتصادية في لبنان سيُضعِفان من قاعدته الشعبية، ومن نفوذه داخل الدولة، ما يجعله مُضطرًا للتكيُّف مع التغييرات السياسية الجديدة.
قَدَّم الرئيس اللبناني الجديد، جوزاف عون، رؤيته الشاملة للدولة اللبنانية، في خطاب القسم الدستوري الذي ألقاه بعيد انتخابه، في 9 يناير 2025، متناولًا مختلف الجوانب الأساسية، من السياسة والأمن إلى الاقتصاد والإدارة. وشدَّد رئيس الحكومة اللبنانية الجديدة، نواف سلام، على التزام حكومته بإصلاح اتفاق الطائف والمضي قدماً في الإصلاحات المالية والاقتصادية، مع التأكيد على أهمية استعادة الثقة بين لبنان ومحيطه العربي والمجتمع الدولي.
تستعرض هذه الورقة أبرز محاور برنامج عمل رئيس الجمهورية والحكومة الجديدة في لبنان، مع التركيز على الترتيبات الأمنية وملف إعادة الإعمار.
تركيبة الحكومة اللبنانية الجديدة ودلالاتها
نجحت اللجنة الخماسية في الضغط باتجاه انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية اللبنانية. أتى انتخاب عون رئيساً بإجماع الكتل الكبيرة كافة في البرلمان اللبناني، لكن فوزه ما كان ليحصل لولا الضغوط الأمريكية والسعودية على وجه التحديد. سعى “الثنائي الشيعي”، حزب الله وحركة أمل، إلى خلق انطباع باستمرار دورهما المحوري في تشكيل السلطة في لبنان، فأجَّلا إعلان انتخاب عون إلى الدورة الثانية في رسالة بأنه لا يمكن انتخاب رئيس من دون الاتفاق معهما. لكن هذا الانطباع تبدد كلياً خلال الاستشارات النيابية الملزمة، وتكليف القاضي نواف سلام تشكيل الحكومة من دون أي صوت شيعي. مثَّل تكليف سلام إعلاناً بانتهاء هيمنة حزب الله على السياسة اللبنانية وفقدانه السيطرة على تحالفاته التقليدية، بالأخص مع “التيار الوطني الحر”.
ونجح نواف سلام بتشكيل حكومته من دون الالتزام بالمعايير التي وضعها الثنائي الشيعي منذ اتفاق الدوحة، من قبيل الثُّلث المعطل. تنظر جميع القوى السياسية في لبنان إلى حكومة نواف سلام من منظارين أساسيين: الأول، استراتيجي يتمثل في كونها حكومة تأسيسية لمرحلة سياسية مقبلة، ستضع قواعد جديدة للحكم في لبنان تتضمن توزيع مراكز السلطة من جديد. والثاني، مرحلي يتمثل في أن هذه الحكومة ستشرف على تنظيم الانتخابات النيابية المقبلة المفترض إجراؤها في مايو 2026.
وانطلاقاً من هذين المنظورين، يمكن فهم حرص غالبية القوى اللبنانية على أن تكون ممثلة داخل الحكومة. بالنظر إلى تشكيلة حكومة سلام، يتضح أن الرئيسين عون وسلام حققا ما أراداه منذ البداية، إذ جاءت وزارتا الدفاع والداخلية من نصيب عون، بينما ضمن سلام لنفسه تسمية وزراء الحصة السُّنية في الحكومة. إلى جانب نجاح كلا الرئيسين في منع أي طرف لبناني، تحديداً حزب الله وحركة أمل، من أن يكون لهما “الثلث المعطل” الذي يسمح لهما تعطيل أي قرار للحكومة لا يناسب مصالحهم، وبهذا يكون لبنان قد طوى صفحة “اتفاق الدوحة” عام 2008 الذي رسَّخ عُرف “الثلث المعطل” داخل الحكومات اللبنانية.
على مستوى الأحزاب، نجحت القوات اللبنانية في تسمية 4 وزراء، بينما حافظت حركة “أمل” على سيطرتها على وزارة المالية، بينما لم ينجح “الثنائي الشيعي”، حزب الله وحركة أمل، في تثبيت حصرية التمثيل الشيعي داخل الحكومة بهما، بعد إصرار سلام على تسمية الوزير الشيعي الخامس بنفسه، ما أفقد الثنائي ورقة الميثاقية. أما الخاسر الأكبر فهو التيار الوطني الحر الذي بقي خارج الحكومة، بالإضافة إلى الكتل السُّنية في البرلمان اللبناني التي أيضاً لم يكن لها أي تمثيل داخل هذه الحكومة.
قضايا محورية على أجندة الحكومة الجديدة
بعد تشكيل الحكومة اللبنانية، تنتظر عون وسلام قضايا مهمة تجب معالجتها في خلال المرحلة المقبلة، يتمثل أهمها في الآتي:
أولاً، ترتيب الوضع الأمني في لبنان
سيركز عون على إعادة ترتيب الأوضاع الأمنية في لبنان، بعد انتهاء حقبة السيطرة الأمنية لحزب الله. تبوأ الحزب مكانة الضامن الأمني في لبنان خلال السنوات الماضية، وعمل على تهميش المؤسسات الأمنية وتقليص قدراتها وتعطيلها عبر إشاعة الفراغ في مناصبها القيادية العليا. سيكون على عون إعادة الانتظام إلى عمل المؤسسات الأمنية، وتعيين المناصب الشاغرة داخلها. يحتل الملف الأمني أولوية بالنسبة إلى عون نظراً إلى حجم التحديات الأمنية التي تواجه الدولة اللبنانية جراء توسع الخروقات الإسرائيلية لاتفاق الهدنة، وعدم انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان بعد انتهاء مهلة الستين يوماً، بالإضافة إلى الاشتباكات المتقطعة بين الجيش اللبناني وعصابات تهريب سورية على الحدود اللبنانية السورية.
وتحرَّى عون الدقة في خطاب القسم، لدى بسط مقاربته الأمنية، فأشار إلى حق الدولة في احتكار السلاح، وضبط الحدود وتثبيتها جنوباً (أي مع إسرائيل)، وشرقاً وشمالاً (مع سورية) وبحراً، وتطبيق القرارات الدولية واتفاق الهدنة، وأن يكون للدولة وحدها حق إزالة الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية. كما طعَّم عون فريقه الرئاسي بمساعدين من المؤسسة العسكرية بما يؤكد اهتمامه بالوضع الأمني.
من أجل تحقيق رؤيته الأمنية، سيستغل الرئيس عون زخم الاهتمام الدولي بمشروعه، ودعم الدول الغربية والعربية له ولو على حساب الأحزاب السياسية
علاوة على ذلك، نجح جوزاف عون في أن تكون وزارة الدفاع في الحكومة الجديدة من حصته. تنبع أهمية وزارة الدفاع، من أن لوزيرها صلاحيات المشاركة في تسمية قائد الجيش اللبناني المقبل، ومدراء الأجهزة الأمنية، والموافقة على الهبات والمساعدات الأجنبية المقدمة للجيش اللبناني. ويُتوقع أن يشهد عهد جوزاف عون تزايداً في نشاط الأجهزة الأمنية اللبنانية، في تجربة قد تشابه عهد الرئيس فؤاد شهاب في القرن الماضي. وتميزت فترة حكم شهاب، الذي دخل قصر بعبدا وتقلد الرئاسة بعد سنوات من قيادته للجيش اللبناني، بتعاظم نفوذ الأجهزة الأمنية، لاسيما استخبارات الجيش اللبناني (والتي كانت تعرف باسم المكتب الثاني)، فقد أدى المكتب الثاني في حينه أدواراً سياسية إلى جانب دوره الأمني.
ومن أجل تحقيق رؤيته الأمنية، سيستغل عون زخم الاهتمام الدولي بمشروعه، ودعم الدول الغربية والعربية للرئيس ولو على حساب الأحزاب السياسية، وتحديداً حزب الله وحركة أمل. كما أن ممثلي الطائفة السُّنية، سيدعمون العهد، نظراً لأن مصلحتهم بأن يتولى عون تحجيم الدور الأمني للشيعة في لبنان عبر تقليص عدد الضباط الشيعة في المراكز الأمنية الأساسية، وتفكيك منظومة حزب الله الأمنية.
وشكّلت حادثة الهجوم على ضباط قوات اليونيفيل على طريق مطار بيروت، إلى جانب اعتصام دعا إليه حزب الله احتجاجاً على منع طائرة ركاب إيرانية من الهبوط في المطار، اختباراً مبكراً للرئيسين ميشال عون ونواف سلام، ولأداء الجيش اللبناني في مواجهة نفوذ الحزب. وتعاملت حركة “أمل” بشكل مختلف عن “حزب الله”، وأصدرت بياناً دانت فيه “قطع الطرقات في أي مكان” واصفةً إياه بـ “الطعنة للسلم الأهلي”. في المقابل، أظهر حزب الله استعداده لتوظيف الشارع أداةَ ضغطٍ سياسيٍّ، بينما سعى الجيش، مدعوماً بتوجيهات عون، إلى فرض هيبة الدولة ومنع أي محاولة لزعزعة الاستقرار. تُرجم ذلك عملياً عبر اعتقال العشرات على خلفية الحادثة وفتح طريق المطار بالقوة، وتفريق الاعتصام، ما عكس توجهاً أكثر صرامة من القيادة الجديدة في التعامل مع تحديات أمنية مرتبطة بالحزب، في ظل توازنات داخلية دقيقة.
وعكَس اختبار القوة بين الدولة اللبنانية وحزب الله رجحان ميزان القوى الداخلي لصالح عون وسلام، خصوصاً في ضوء تراجع حركة “أمل” خطوة إلى الخلف، من جهة، وتقلُّص النفوذ الإيراني في لبنان، من جهة أخرى. وفي المحصلة، قدّم تعامل السلطات اللبنانية مع مسألة الطائرة الإيرانية دليلاً إضافياً على عزم عون وسلام تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار من دون أخذ اعتراضات الحزب بعين الاعتبار. لكن مقاربة عون الأمنية، وقدرته على تحقيق رؤيته لإعادة انتظام الأجهزة الأمنية، قد تواجه عدة تحديات، أهمها الآتي:
- تراجُع صلاحيات الرئاسة بموجب اتفاق الطائف، والتوازنات الطائفية الحالية، إلى جانب تنوع الأجهزة الأمنية الفاعلة في المشهد اللبناني. فمع صعود النفوذ السُّني بقيادة رفيق الحريري، ومن ثمّ نجله سعد الحريري، تطور دور قوى الأمن الداخلي، وبالأخص “شعبة المعلومات” التابعة لها والتي تأسست عام 1993، لتصبح أداة أمنية أساسية للطائفة السنية داخل الدولة اللبنانية. وفي المقابل، تمكن “الثنائي الشيعي”، حركة أمل وحزب الله، من إحكام السيطرة على جهاز الأمن العام، الذي أدى دوراً بارزاً في خلال الأزمة السورية. إضافة إلى ذلك، برزت أجهزة حزب الله الأمنية والعسكرية لاعباً رئيساً في ضبط الأوضاع الأمنية في الجنوب اللبناني والبقاع وأجزاء من الحدود اللبنانية-السورية.
- لن تتنازل الطوائف الإسلامية، بسهولة، عن حصصها بتعيين قادة الأجهزة الأمينة، واختيار قائد جديد للجيش اللبناني، لاسيما أنها تخشى توجه العهد الجديد إلى حل الميليشيات التابعة للطوائف، وبالتالي تفقد تلك الطوائف أداة حمايتها الذاتية.
مع تراجُع قدرات حزب الله الأمنية والعسكرية بعد هزيمته الأخيرة، سيكون مُجبراً على قبول سيطرة الدولة اللبنانية العسكرية والأمنية على الحدود
ثانياً، انتشار الجيش اللبناني على الحدود مع سورية
في خلال السنوات الماضية مَدَّ حزب الله سيطرته على الحدود اللبنانية-السورية، وضمنها “المعابر غير الرسمية“، التي استخدمها لأغراض عسكرية واقتصادية. مع تراجُع قدراته الأمنية والعسكرية بعد هزيمته الأخيرة، سيكون الحزب مُجبراً على قبول سيطرة الدولة اللبنانية العسكرية والأمنية على الحدود، خصوصاً في المناطق السُّنية اللبنانية أو المطلة على القرى السُّنية في الجانب السوري. قد لا يتخلى حزب الله عن السيطرة الأمنية على المناطق المطلة على القرى الشيعية في الريفين الغربي لحمص والجنوبي لطرطوس السوريين، إلى حين حلّ مسألة سلاح حزب الله وتنظيمه الأمني بشكل كامل.
وكان عون واضحاً في رؤيته حول استعادة الدولة اللبنانية سيادتها على المعابر والحدود مع سورية. ولتحقيق ذلك أمام عون مجموعة من الأدوات. سيعتمد عون على الجيش اللبناني والاستخبارات التابعة له، الجهاز الأقوى والأكثر نفوذاً مقارنةً ببقية الأجهزة الأمنية، جراء الدعم الأمريكي الكبير. وقد يتوسع في عقد شراكات أمنية مع جهات دولية للمساعدة في ضبط الحدود مع سورية. ففي 20 يناير 2025، وقَّع وزير الأشغال العامة والنقل اللبناني اتفاقية شراكة مع شركة “Thales” الفرنسية المتخصصة في أنظمة إدارة الحدود والأمن. ومنذ العام 2013، أنشأت بريطانيا 12 برج مراقبة على الحدود اللبنانية-السورية لمنع تسلل عناصر من تنظيم داعش إلى لبنان. وكانت لندن قد عرضت على الدولة اللبنانية إنشاء أبراج مراقبة أخرى على طول الحدود اللبنانية-السورية لمساعدة الجيش اللبناني في ضبط الحدود ومكافحة عمليات التهريب. ومع التطورات الناتجة عن سقوط نظام الأسد وتراجُع نفوذ حزب الله، من المرجح أن يُعاد إحياء الطلب البريطاني من جديد.
ومثَّلت الاشتباكات بين قوات الجيش السوري التابع للإدارة الجديدة والعشائر اللبنانية الموالية لحزب الله في منطقة القصير السورية، التي كانت معقل الحزب الأبرز في سورية قبل سقوط نظام الأسد، نموذجاً لكيفية إعادة تشكيل المشهد الأمني على الحدود اللبنانية-السورية، وتجسيداً كاملاً لرؤية عون لدور الجيش في الداخل اللبناني. أظهرت هذه المواجهات تراجُع نفوذ الحزب في مناطق كان يسيطر عليها أمنياً وعسكرياً لسنوات، حيث باتت دمشق، تحت قيادتها الجديدة، تتعامل معه بصفته طرفاً غير مرغوب فيه، وتسعى إلى فرض سلطتها على المناطق الحدودية التي كانت سابقاً تحت نفوذه المطلق.
وازن عون بين نشر الجيش لحماية الأراضي اللبنانية والسكان اللبنانيين، فاتحاً الباب أمام التنسيق العسكري مع الجيش السوري ورئيس المرحلة الانتقالية في سورية، أحمد الشرع، لمنع حصول حوادث بين الجانبين، لكنَّه امتنع عن مؤازرة مقاتلي العشائر اللبنانيين الذين يقطنون أراضي سورية، وهو ما كانت تريده العشائر ضمناً، وقطع التواصل بينها وبين عمقها اللبناني. نأى الجيش اللبناني بنفسه عن الاشتباكات داخل الأراضي السورية، مؤكداً في بيانه الرسمي أن قواته سترد فقط على أي إطلاق نار يستهدف الأراضي اللبنانية. وجاء انتشار الجيش اللبناني على الحدود بين سورية ولبنان الفاصلة بين المناطق الشيعية في ريف حمص السوري ومنطقة الهرمل اللبنانية باعتباره مؤشراً جديداً على انكفاء حزب الله، وقطع تمدده داخل منطقة القصير السورية الاستراتيجية المشرفة على طريق حمص-دمشق. ومع تولي الجيش اللبناني المسؤولية الأمنية على هذه الحدود ستتراجع قدرة حزب الله على المناورة بين جانبي الحدود، كما ستتقلص مداخيله من تهريب السلع والبضائع بين سورية ولبنان، خصوصاً تجارة الكبتاغون والحشيش. وأبرز التحديات التي تواجه عون والدولة اللبنانية في هذه المسألة تتمثل بالآتي:
- مقاومة حزب الله لإعادة هيكلة السيطرة الأمنية؛ فعلى رغم تراجُعه العسكري لا يزال حزب الله يمتلك نفوذاً سياسياً وأمنياً كبيراً في لبنان، ومن غير المتوقع أن يتخلى بسهولة عن سيطرته على المعابر الحدودية، لاسيما تلك المطلة على القرى الشيعية داخل سورية، خاصة في ظل التشديد على منع هبوط الطائرات الإيرانية في مطار بيروت.
- ضعف القدرات اللوجستية للجيش اللبناني؛ فعلى رغم الدعم الأمريكي والبريطاني، يواجه الجيش اللبناني تحديات كبيرة في تطوير منظومة مراقبة الحدود، سواء بسبب ضعف التمويل أو بسبب تعقيدات التضاريس الجغرافية. إن تنفيذ اتفاقيات مثل تلك الموقعة مع Thales الفرنسية، أو توسيع نشر أبراج المراقبة البريطانية، سيحتاجان إلى وقت وإرادة سياسية قوية لضمان التنفيذ الفعلي.
- الوضع السوري غير المستقر، فالإدارة السورية الجديدة تسعى إلى فرض سيطرتها على الحدود، ولكن مدى قدرتها على ذلك يظل غير مؤكد. واستمرار الاشتباكات بين القوات السورية والعشائر اللبنانية قد يؤدي إلى فوضى أمنية تخلق بيئة غير مستقرة على الحدود، ما قد يُعيق جهود الجيش اللبناني لفرض سيطرته الكاملة.
- ملف التهريب والاقتصاد الموازي؛ فلطالما كانت المعابر غير الرسمية جزءاً من اقتصاد التهريب الذي يغذي أطرافاً مختلفة داخل لبنان وسورية، من تجار محليين إلى شبكات نفوذ مرتبطة بحزب الله والنظام السوري السابق. وأيّ محاولة لضبط الحدود ستواجه مقاومة من هذه الأطراف، وقد تؤدي إلى اضطرابات اجتماعية واقتصادية في المناطق الحدودية التي تعتمد بشكل أساسي على هذا النشاط غير الرسمي.
وبناء على ما سبق، يمكن تلخيص رؤية عون الأمنية للبنان في ثلاث نقاط: الأولى، احتكار المسؤوليات الأمنية في الداخل بيد الدولة اللبنانية ومؤسساتها العسكرية؛ والثانية، سعيه إلى تعيين ضباط أمن يوالونه محلياً؛ وتتمثل الثالثة في بناء شراكات أمنية أجنبية تضمن له الغطاء والشرعية الدولية لكل خطواته، لاسيما تلك التي تكون في وجه حزب الله.
يواجه الجيش اللبناني تحديات كبيرة في تطوير منظومة مراقبة الحدود، سواء بسبب ضعف التمويل أو بسبب تعقيدات التضاريس الجغرافية
ثالثاً، سلاح حزب الله وتطبيق اتفاق الهدنة والقرار 1701
في خلال خطاب القسم، كان جوزاف عون، المتحدر من بلدة العيشية جنوب لبنان، واضحاً وجازماً لناحية تعهُّده بتطبيق القرارات الدولية واتفاق الهدنة على الأراضي اللبنانية، وأن الدولة اللبنانية “وحدها” المسؤولة عن إزالة الاحتلال الإسرائيلي ورد عدوانه عن الأراضي اللبنانية كافة. وتشير رؤية عون إلى أن الدولة اللبنانية ستكون هي المسؤولة عن الوضع في الجنوب، بعد عقود من تولي حزب الله هذه المسؤولية، بذريعة تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة قبل عام 2000، وتحرير مزارع شبعا بعد ذاك العام، وحماية القرى اللبنانية من الهجمات الإسرائيلية. لذلك، بنى الحزب ما يرقى أن يكون جبهة عسكرية على طول الحدود مع إسرائيل.
على أهمية موقف رئيس الجمهورية لناحية أنه يُعبِّر عن رؤية الحكم الجديد في لبنان، غير أن الوقائع الميدانية لا تشير إلى أن تطبيق اتفاق الهدنة والقرارات الدولية ستكون مسألة سهلة؛ فللمرة الخامسة على التوالي، أكد حزب الله على لسان أمينه العام نعيم قاسم تفسيره لاتفاق الهدنة والقرار 1701 بأنه معني فقط بسحب السلاح وتفكيك المواقع العسكرية التابعة للحزب “جنوب نهر الليطاني”. من جهة أخرى، لم يتوقف الجيش الإسرائيلي، منذ توقيع اتفاق الهدنة، عن خرقه سواء عبر تنفيذ غارات جوية استهدفت مواقع عسكرية تابعة لحزب الله “شمال نهر الليطاني“، أو التوغل البري داخل القرى جنوب النهر. تعطي هذه الخروقات ذرائع لحزب الله للتمسُّك بموقفه الرافض تسليم سلاحه، سواء شمال الليطاني أو جنوب الليطاني، على اعتبار أن الاحتلال الإسرائيلي لا يزال قائماً، وأن جزءاً كبيراً من أهالي جنوب لبنان لم يعودوا إلى قراهم بعد.
وفي مؤشر جديد على رؤية عون، حرص الرئيس اللبناني على التفاوض مع واشنطن حول تأجيل انسحاب الجيش الإسرائيلي الذي كان مقرراً يوم 27 يناير فوافق على تأخيره إلى 18 فبراير فقط، لكن إسرائيل طلبت تأجيله مجدداً، وهو ما ترفضه واشنطن. بهذا سحب عون من يد الثنائي الشيعي ملف التفاوض حول تنفيذ وقف إطلاق النار. وأمام هذه المعطيات نكون أمام احتمالين للوضع الراهن:
الاحتمال الأول، أن يقتصر انسحاب حزب الله وتفكيك منظوماته العسكرية جنوب نهر الليطاني كمرحلة أولى من تطبيق الاتفاق على أن يتم البحث والتفاوض على السلاح الموجود في باقي المناطق اللبنانية في مرحلة لاحقة. وتتمثل مُرجِّحات هذا الاحتمال في أن اتفاق الهدنة ينص بشكل واضح غير قابل للتأويل على هذا الأمر، إلى جانب إعلان حزب الله بشكل قاطع استعداده تطبيق ذلك، علاوة على عدم قدرة الحزب على تحمُّل كلفة عدم الانسحاب من جنوب النهر، وإصرار إسرائيل والدول الراعية لاتفاق الهدنة على تنفيذ ذلك. أما المعوقات فتتمثل في استمرار الخروقات الإسرائيلية للاتفاق ورفض الجيش الإسرائيلي الانسحاب من الأراضي اللبنانية التي احتلها خلال الحرب الأخيرة.
الاحتمال الثاني، انهيار الاتفاق والعودة إلى الحرب. وتتمثَّل مُرجحات هذا الاحتمال في أن الاتفاق تم التوصل إليه قبل سقوط نظام الأسد في سورية وخسارة حزب الله لعمقه الجغرافي. قد تجد إسرائيل في الواقع السوري الجديد فرصة لضرب حزب الله بشكل كامل، وأن تفرض عليه اتفاقاً جديداً يقضي بنزع سلاحه كاملاً ولمرة واحدة وأخيرة. أما معوقاته فتتمثل في موقف الإدارة الأمريكية الجديدة الرافضة لمنطق الحرب عموماً، بالإضافة إلى أن الاستقالات الأخيرة من مناصب عسكرية وأمنية رفيعة داخل إسرائيل قد تُعرقِل خيار العودة إلى الحرب.
يتوقع أنّ أي محاولات تقوم بها إيران لتمويل إعادة الإعمار في لبنان، ستواجه عوائق سياسية وأمنية واقتصادية كبيرة، كما جرى في أزمة الطائرة الإيرانية
رابعاً، إعادة الإعمار
أكد كلٌّ من عون وسلام التزامهما بإعادة إعمار المناطق التي دمرتها الحرب الأخيرة، وكان لافتاً ربط سلام ملف إعادة الإعمار بالتنفيذ الجاد للقرار 1701 وجميع بنود اتفاق الهدنة. ويسعى عون وسلام إلى الحصول على مساعدات خارجية لتمويل عملية إعادة الإعمار. وستكون دول الخليج العربي الوجهة الأساسية للدولة اللبنانية للحصول على مساعدات لإعادة الإعمار، إلى جانب دول الاتحاد الأوروبي.
في المنظور الجيوسياسي، من المرجح أن تتقاسم الدول الإقليمية ملفات إعادة الإعمار بين كل من سورية ولبنان وغزة. وفق المؤشرات المتوفرة، تُظهِر السعودية والكويت اهتماماً أكبر من تركيا وقطر في الملف اللبناني، لاسيما بعد زيارة وزيري خارجية السعودية والكويت إلى بيروت في 23 و24 يناير 2025. علاوة على ذلك، شكلت تسمية نواف سلام رئيساً للحكومة اللبنانية انتصاراً للفريق المدعوم من الرياض في لبنان على حساب غيره من الأطراف الإقليمية، الأمر الذي يعزز موقعها في الحياة السياسية اللبنانية، ويُقدِّم رؤيتها على غيرها من الدول الإقليمية في الملفات الداخلية.
بدأ حزب الله، الذي يولي أهمية خاصة لإعادة الإعمار، مسح الأضرار والتعويض عن أهالي المناطق المدمرة مباشرة بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل. لكن قدرات الحزب الذاتية غير كافية لرفع الردم علاوة على إعادة الإعمار، لذلك سيجد نفسه مضطراً للاستعانة بالحكومة اللبنانية، التي تبحث بدورها عن العون الخارجي. يواجه الحزب تحدياً أساسياً بسبب ربط عملية إعادة الإعمار بالمساعدات الخارجية، حيث سيكون لدول الخليج اشتراطات تتعلق بحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية، وأن تحتكر قرار السلام والحرب وإلا قد يُكرر حزب الله مغامراته في المستقبل، ويهدم ما تم إعماره.
سيكون أمام حزب الله أحد احتمالين: الأول، تقديم تنازلات سياسية وأمنية لتسهيل البدء بإعادة الإعمار قبل موعد الانتخابات البرلمانية المقبلة في مايو 2026. والثاني، الإصرار على تمسُّكه بوضعيته السابقة، ما يجعله يواجه تحدي تأخر المساعدات، وما يتبعه من توظيف الاحتقان الشعبي جراء تأخر عملية الإيواء وإعادة الإعمار، بما يعزز موقع معارضي الحزب في بيئته الشيعية، تمهيداً لوصولهم إلى المجلس النيابي اللبناني، وكسر احتكار حزب الله وحركة أمل لتمثيل الشيعة نيابياً.
أما فيما يتعلق بالدعم المالي الإيراني، فعلى الرغم من وجود معلومات تفيد بتعهد طهران بإعادة إعمار المناطق الشيعية في لبنان، إلا أن عدة عوامل تعيق تحقيق ذلك على أرض الواقع. فالعقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران تجعل من الصعب إرسال الأموال إلى لبنان عبر القنوات المصرفية الرسمية، سواء للحكومة اللبنانية أو لحزب الله، كما أن القيود المتزايدة على الرحلات الجوية تحدّ من قدرة طهران على تحويل الأموال بوسائل غير تقليدية. يضاف إلى ذلك العجز الاقتصادي الإيراني نفسه، والذي يجعل من الصعب على طهران تحمّل كلفة إعادة الإعمار منفردة، خاصة في ظل أولوياتها الداخلية والتزاماتها الإقليمية الأخرى.
على الجانب الآخر، هناك تضييق من قبل الحكومة اللبنانية، مدفوعةً بطلب من اللجنة المشرفة على تنفيذ وقف إطلاق النار، لمنع دخول أي أموال إيرانية إلى لبنان، خشية أن تنتهي في أيدي حزب الله، وهو ما يعني أن أي محاولات لتمويل إعادة الإعمار من قبل طهران ستواجه عوائق سياسية وأمنية واقتصادية كبيرة كما جرى في أزمة الطائرة الإيرانية. في ظل هذه المعطيات، يبدو أن الحزب لا يستطيع التعويل على إيران داعماً رئيساً في هذه المرحلة.
مع ذلك، قد يكون رأس المال الشيعي الذي راكمه رجال الأعمال الشيعة المقربون من الحزب في أفريقيا وأمريكا الجنوبية بمثابة طوق نجاة للحزب في هذا المجال. غير أن هؤلاء المستثمرين يواجهون بدورهم تحديات كبيرة، أبرزها خطر التعرض لعقوبات دولية في حال تورطهم في تمويل مشاريع مرتبطة بحزب الله، إضافة إلى ترددهم في المخاطرة بأموالهم لصالح حزب خرج من حربه الأخيرة مُنهكاً، وما عاد بالقوة الإقليمية والدولية التي تُمكِّنه من حماية مصالحهم أو توفير ضمانات لاستثماراتهم. هذا يجعل من إعادة الإعمار تحدياً معقداً، حيث تتضاءل فرص التمويل الخارجي وسط بيئة سياسية وأمنية مضطربة.
استنتاجات
يعكس انتخاب جوزاف عون رئيساً للجمهورية، ونجاح نواف سلام في تشكيل الحكومة، التحولات الجذرية التي طرأت على موازين القوى السياسية اللبنانية، بعد التراجع الكبير في هيمنة حزب الله على القرار اللبناني. لكنّ إعادة هيكلة المؤسسات اللبنانية، وتوزيع المناصب الأمنية والإدارية، سيكونان محوراً رئيساً للصراع الداخلي في المرحلة المقبلة، لاسيما مع سعي جوزاف عون إلى استعادة السيطرة على الأجهزة الأمنية وتهميش الميليشيات، وتحديداً حزب الله.
ومن المرجح أن تشهد هذه التحولات مقاومة من قبل حزب الله وحركة أمل، خاصة في ضوء احتكارهما التمثيل الشيعي في البرلمان اللبناني. غير أن ملف إعادة الإعمار سيكون “الخاصرة الرخوة” التي يمكن من طريقها مقايضة حزب الله بالتنازلات السياسية والأمنية في مقابل الحصول على الدعم المالي المطلوب لإعادة الإعمار. ويُدرك حزب الله أن استمرار أزمته المالية، وتفاقُم الأوضاع الاقتصادية في لبنان سيُضعفان من قاعدته الشعبية، ومن نفوذه داخل الدولة، ما يجعله مُضطرًا للتكيُّف مع التغييرات السياسية الجديدة.