- تحوَّلت التوترات الطائفية بين الدروز والسلطات الانتقالية في سورية بقيادة أحمد الشرع إلى تصعيد ميداني امتد لأيام وأخذ أبعاداً إقليمية، وأفضى إلى نتائج متناقضة.
- من بين تلك النتائج: تعزيز الشرع نفوذه في العاصمة، وتمكَّنه من تأمين طريق دمشق درعا، وزيادة الأمن حول طريق دمشق المطار، وحصره المسألة الدرزية في محافظة السويداء. في حين كرَّس الشيخ الهجري نفسه زعيماً أعلى للدروز في سورية، ورسَّخ نهجه في التقارب والانفتاح على إسرائيل.
- أظهرت المواجهة الدرزية مع سلطات دمشق ملامح صراع دولي آخذ في التبلور حول مستقبل البلاد، خاصةً بين تركيا وإسرائيل.
- ستبقى قضية الدروز في سورية ملفاً مهماً على المستويين المحلي والدولي. فمحلياً، ستكون بمثابة اختبار حاسم لقدرة الشرع على دمج المناطق المتمردة ضمن سلطته. أما دولياً، فمن المرجح أن تبقى السويداء في صلب توازنات العلاقة الإسرائيلية-السورية.
تحوَّلت التوترات الطائفية بين الدروز والسلطات الانتقالية في سورية بقيادة أحمد الشرع إلى تصعيد ميداني امتد لأيام وأخذ أبعاداً إقليمية. وقد انتقلت الشرارة عبر المناطق الدرزية من جرمانا إلى صحنايا وأشرفية صحنايا، إلى السويداء، وطالت الطلاب الدروز في الجامعات. وبينما تدخَّلت إسرائيل من أجل منع الشرع من تنفيذ مخططه لنزع سلاح الفصائل الدرزية، وقفت تركيا بجوار دمشق ولوَّحت لإسرائيل بالقوة العسكرية.
جولة الصراع مع الدروز: الخلفية والسياق
تسبَّب مقطع فيديو منسوب لأحد مشايخ الطائفة الدرزية، يُسيء فيه للنبي محمد (ص)، بموجة من الغضب، خاصةً بين السلفيين الجهاديين. الفيديو الذي نفى رجل الدين الدرزي نسبته إليه، وتبرأت “الهيئة الروحية للمسلمين الموحدين الدروز” منه، أدّى إلى تظاهرات نفذها أنصار السلطات القائمة، في عدة مدن بينها حمص، حماة، وأدلب، ودمشق وحلب نُصرةً للنبي، وتحريضاً ضد الطائفة الدرزية. في هذه الأجواء، شنَّ عناصر من فصيل مسلح في وزارة الدفاع ينتشر في بلدة المليحة الملاصقة لمدينة جرمانا، من دون سابق إنذار هجوماً يوم 28 أبريل، على حواجز الأمن العام في المدنية، ما أسفر عن مقتل 14 عشر شخص، بينهم 7 مسلحين محليين دروز واثنين من منتسبي الأمن العام. دانت المرجعيات الدرزية في جرمانا الهجوم، ووصف شيخ العقل حكمت الهجري الأكثر تصلُّباً في موقفه من حكم الرئيس أحمد الشرع، من قام به بـ “العصابات الإرهابية التكفيرية”، وحمَّل السلطات مسؤوليته. وفقط بعد يوم من اشتباكات جرمانا أعلنت وزارة الداخلية السورية أن الفيديو “مُفبرك”، وأن وحدات من الأمن العام، بدعم من وزارة الدفاع، تدخلت لفضّ الاشتباكات.
انتقلت التوترات يوم 30 أبريل إلى بلدة صحنايا ذات الغالبية الدرزية. حاولت مجموعات مسلحة متمركزة في محيط بلدة صحنايا التسلل يوم 30 أبريل إلى داخل البلدة وأطلقت النار على حاجز تابع للأمن العام، فتصدَّى لها عناصر من “حركة رجال الكرامة” ذات العلاقات الجيدة بحكومة أحمد الشرع. رداً على ذلك، عزز الأمن العام انتشاره في البلدة وحولها، لكن أفراد من فصائل درزية داخل البلدة استهدفت أحد مقرات الأمن العام، ما أسفر عن مقتل 16 شخصاً غالبيتهم من عناصر الأمن العام. رداً على ذلك، نفَّذ الأمن العام عملية أمنية في البلدة ضد المجموعات المسلحة الدرزية التي وصفها بـ “العصابات الخارجة عن القانون”، لكنَّه لم يذكر أنَّه نفَّذ عملية مشابهة ضد المجموعات المسلحة التي هاجمت البلدة من خارجها، وتواصلت الاشتباكات العنيفة ليوم كامل قبل أن تدخل قوات الأمن العام والجيش البلدة. ووفق “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، فقد حصلت إعدامات لستة مواطنين عند أطراف بلدة صحنايا، من قبل من وصفها بـ “مجموعات رديفة لقوات وزارة الدفاع“، التي نفَّذت حملات تفتيش واسعة واعتقلت نحو 40 شخصاً. ووصلت الانتهاكات حد الإهانات الشخصية للمقاتلين الدروز بعد اعتقالهم، ولرموزهم، وحتى حلق شواربهم.
تدخَّلت السلطات على مستوى أعلى من أجل احتواء التوترات التي أصبحت عامة وباتت تهدد بارتدادات إقليمية. وفي مسعى منه لاحتواء الموقف، أصدر مفتي سورية، أسامة الرفاعي، بياناً “حرَّم فيه دم السوري”، مُحذراً من الفتن. وعقد محافظو ريف دمشق والقنيطرة والسويداء اجتماعاً مع وفد من مشايخ الطائفة الدرزية قدم من السويداء يوم 30 أبريل، حيث شدد المسؤولون عل حصر السلاح بيد الدولة. وعلى الرغم من أن عناصر مسلحة محسوبة على السلطة هي من بدأت الهجوم على البلدتين الدرزيتين في ريف دمشق، تحت ذرائع اتضح بطلانها، فإنّ أداء السلطة أظهر بوضوح أنها تستهدف إنهاء الوجود المسلح الدرزي في ريف دمشق. ولاستعادة الهدوء، توصَّل وفد حكومي سوري مع مشايخ من جرمانا إلى اتفاق بدا من بنوده إقراراً حكومياً بمسؤولية التجييش عما جرى في جرمانا. ولاحقاً تم التوقيع يوم 1 مايو على اتفاق ينص على “نزع السلاح الثقيل في جرمانا وتسليمه لقوات الأمن العام بشكل فوري”. ووفق مصادر، فقد بدأ تسليم السلاح الثقيل في المدينة يوم 4 مايو، وسط نفي وجهاء في المدينة حصول خطوة كهذه.
تحرَّكت مجموعات من فصائل السويداء “لنصرة أشقائها في العقيدة” في بلدة أشرفية صحنايا. وتوجه مئات المقاتلين من السويداء إلى ريف دمشق، إلا أن مجموعات من المسلحين البدو نفذت كمائن لهم في منطقة براق بريف دمشق، ما أسفر عن مقتل 35 بينهم وإصابة آخرين، وانسحاب المهاجمين. وبالتزامن شنَّت مجموعات مسلحة محسوبة على وزارة الدفاع هجمات متنوعة بالقذائف على قرى درزية من درعا ومن غرب محافظة السويداء حيث تعيش مجموعة من البدو، وحصل اعتداء من قبل مسلحين محسوبين على الحكومة على أحد المزارات الدرزية في محافظة السويداء. وفي إحدى الحالات، استهدفت مُسيَّرة تابعة لوزارة الدفاع مجموعة مسلحة درزية في قرية كناكر، ما أسفر عن مقتل 4 مقاتلين دروز. بذلك، قطع المسلحون الموالون للحكومة طريق دمشق السويداء الذي يعد بمثابة شريان الحياة لمحافظة السويداء.
نظراً لفداحة الموقف، اجتمع وجهاء الدروز الروحيين والعسكريين ليل 1 مايو، واتفقوا على مبادرة لتخفيف التوتر، أكدوا فيها تمسُّكهم بالثوابت الوطنية والهوية السورية الجامعة، وطالبوا بتفعيل دور وزارة الداخلية والضابطة العدلية في المحافظة، على أن يكون ذلك من أبناء السويداء أنفسهم، كما طالبوا الحكومة بتأمين طريق السويداء دمشق. إلا أن الحكومة اشترطت تسليمها السلاح الثقيل في المحافظة، ما دفع الشيخ الهجري للانسحاب من الاتفاق، وإصدار بيان وصف فيه ما جرى في جرمانا وصحنايا بـ “هجمة إبادة غير مبررة”، مُفنّداً ادعاء الحكومة بأن “عناصر منفلتة” هي مَن نفَّذ المجازر، وطالب بتدخل “قوات دولية لحفظ السلام”. وتبنّى المجلس العسكري في السويداء هذا الموقف.
إلى هذا الحد كانت الأزمة سورية-سورية، لكنها ما لبثت أن أصبحت أزمة إقليمية مع دخول الجانب الإسرائيلي على خط التصعيد. اضطرت الحكومة السورية إلى تعديل موقفها وتراجعت عن مطلبها سحب السلاح الثقيل من يد فصائل محافظة السويداء. بدأ تنفيذ الاتفاق اعتباراً من 3 مايو، حيث انتشر الأمن العام على الطريق العام الرابط بين دمشق والسويداء، لإعادة فتح الطريق بين الجانبين، ودخل بلدة الصورة الكبيرة وأطلقت السلطات سراح العديد من موقوفي صحنايا وجرمانا. مع ذلك، اندلعت مواجهات على خطوط التماس في الثعلة وعرى، كما اتهمت السلطات المجلس العسكري في السويداء بتنفيذ كمين أسفر عن مقتل عنصرين تابعين لها.
التدخل الإسرائيلي وردود الفعل الإقليمية والدولية
تدخَّلت إسرائيل بشكل فعلي مع تراجُع موقف الدروز أمام السلطة وحلفائها من الجماعات المسلحة. وتنفيذاً لأمر رئيس الأركان إيال زامير قواته بالاستعداد لضرب أهداف تابعة للحكومة السورية، نفَّذت مسيَّرات إسرائيلية ضربات على محيط منطقة أشرفية صحنايا يوم 30 أبريل، ما أسفر عن مقتل عنصر أمن طبقاً لوزارة الداخلية. وتبنىَّ كلٌّ من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يسرائيل كاتس، الهجوم ووصفاه بـ “العملية التحذيرية ضد تجمع لمجموعة متطرفة”، وأكدا أن إسرائيل وجهت رسالة حادة لدمشق بأنها ستتحرك لمنع إلحاق الأذى بالدروز، وهو تعهُّد كرَّره كاتس بعد 24 ساعة.
لم تكن التحركات الإسرائيلية معزولة عن تحركات الدروز داخل إسرائيل، إذ التقى الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل الشيخ موفق طريف بزامير، وحذَّر من أن أي اعتداء على الدروز سيؤدي إلى “عواقب وخيمة”. ومنعاً لرضوخ الدروز لضغوط حكومة الشرع، قصفت إسرائيل يوم 2 مايو موقعاً تابعاً للقصر الجمهوري في دمشق، بالتزامن مع تصاعد احتجاجات الدروز في إسرائيل على نتنياهو لعدم حماية دروز سورية. ثُمَّ شن الطيران الإسرائيلي سلسلة من الغارات مساء 2 مايو، استهدفت مواقع يتمركز فيها عناصر “هيئة تحرير الشام” بصفة خاصة. وكثفت إسرائيل عمليات المراقبة للأوضاع فوق دمشق والسويداء وريف دمشق بواسطة مُسيراتها، كما أرسلت طيراناً مروحياً إلى السويداء لإجلاء جرحى دروز، وأخيراً، كشفت الحكومة الإسرائيلية عن عقد مبعوث خاص لقاءات مع ممثلين دروز داخل الأراضي السورية.
بدورهم، تداعى قادة الدروز في لبنان إلى اجتماع استثنائي يوم 30 أبريل، حذَّر فيه الزعيم وليد جنبلاط من التدخل الإسرائيلي، ومن خطورة استنجاد بعض القادة الدروز في سورية بالإسرائيليين. وبعد مشاورات إقليمية واسعة، زار جنبلاط سورية والتقى الرئيس أحمد الشرع، حيث أجرى وساطة من أجل تهدئة التوترات بين الحكومة السورية مع الدروز.
في المقابل، أدت التحركات الإسرائيلية إلى ردود فعل إقليمية قوية. منحت أنقرة حكومة الشرع دعماً غير مشروط في مواجهة الإسرائيليين، وما أسمته “أحداثاً عرضية ناجمة عن الاستفزاز” في جرمانا وصحنايا. ومضت أنقرة أبعد من ذلك، إذ أرسلت طائراتها لتُحلِّق في الأجواء السورية في ذات اللحظة التي قصفت فيها إسرائيل موقعاً قُرب القصر الرئاسي في دمشق، وهو ما أثار تكهنات واسعة بنشر تركيا طائراتها في أحد المطارات السورية الكائنة شمال سورية أو وسطها. على مدار يومين حلَّقت الطائرات التركية في أجواء ريف دمشق من دون أن تصل إلى دمشق.
وحذَّر الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بعد يومين من حملة القصف الإسرائيلية، إسرائيل من “تهديد السلام” في سورية، ونبَّه إلى أن بلاده لن تسمح بجر هذه الدولة إلى “صراعات جديدة”، وتعهَّد بمراقبة “التحركات الإسرائيلية المحتملة” ضد تركيا. وفي ذات الوقت رفض منح الإذن لطائرة نتنياهو المتوجهة إلى أذربيجان بالعبور من الأجواء التركية، ما أدَّى إلى إلغاء زيارته المخططة إلى باكو. وفهم الإسرائيليون الخطوة التركية على أنها تلويح من أردوغان بالتأثير سلباً على علاقاتهم المتطورة بالأذربيجانيين، حلفاء الأتراك التقليديين. وفي ظل عزم الرئيس دونالد ترمب التوصل إلى اتفاق مع إيران حول برنامجها النووي، ستزداد حاجة تل أبيب إلى الإبقاء على الحياد التركي خوفاً من أن تتلقى بمفردها موجة الانتقام الإيراني المقبل، ولضمان استمرار التعاون الأذربيجاني للوصول إلى مناطق شمال إيران، فيما لو قرَّرت حكومة نتنياهو استهداف البرنامج النووي الإيراني بضربات منفردة.
إن منع نتنياهو من السفر إلى أذربيجان عبر الأجواء التركية، كشف عن المدى الذي قد يذهب إليه أردوغان في استخدام أوراق ضغط قوية على تل أبيب من أجل كفّ تدخُّلها عن الشؤون الداخلية السورية. ونظراً للمخاطر العالية، فقد قرَّر الإسرائيليون والأتراك العودة إلى طاولة المفاوضات في باكو يوم 8 مايو، حيث تقدَّم الإسرائيليون بطلبين، الأول: “عدم وجود قوة عسكرية تهدد إسرائيل قرب الحدود مع سورية”، والثاني: “عدم وجود أسلحة استراتيجية في سورية قد تهدد الأمن الإسرائيلي”. واتفقت الدولتان على إنشاء آلية لخفض التوتر على مستوى معين، وفق ما أعلن وزير الخارجية التركي حقان فيدان في 9 مايو، الذي حذَّر من توسُّع إسرائيل “الإقليمي”.
ودانت السعودية الضربات العسكرية الإسرائيلية، بالتوازي مع تحرُّك الرياض من خلف الكواليس من أجل تهدئة التوترات بين دمشق والدروز. ووفق تقرير صحفي، فقد دعمت السعودية مساعي جنبلاط من أجل احتواء التوتر. وحكم الموقف السعودي حاجة الرياض إلى الهدوء في سورية، إذ كانت المنطقة على أبواب الزيارة التاريخية للرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى الخليج (التي جرت بين 13 و16 مايو)، حيث كانت الرياض تقود جهود إقناعه برفع العقوبات عن سورية والانفتاح على الحكومة السورية الانتقالية، وهو ما تُوِّج بقرار ترمب رفع العقوبات عن سورية يوم 13 مايو، ولقائه في اليوم التالي الرئيس الشرع بحضور ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان.
ومن جهة أخرى، دعمت الرياض السلطات السورية لإنهاء الوجود الدرزي المسلَّح في محيط العاصمة دمشق القادر على قطع طريق المطار (جرمانا)، أو طريق درعا دمشق (صحنايا). وتهتم الرياض بشكل خاص ببقاء طريق درعا دمشق (M5) مفتوحاً، وهو الذي يشكل صلة الوصل بين دول الخليج العربي ولبنان والبحر المتوسط.
ولم تحظَ إسرائيل بدعم غربي لضرباتها في سورية. فقد بدت الولايات المتحدة بعيدة عن الأزمة، وكان موقفها أقرب إلى تكليف الحكومة السورية بالتعامل معها، إذ طالبتها “بوقف القتال الدائر، ومُحاسبة مرتكبي أعمال العنف ومُلحقي الأذى بالمدنيين، وضمان أمن السوريين كافة”، وهو موقف يتطابق مع موقف لندن حيال الأحداث. وبالتالي بدا الموقف الإسرائيلي حيال الأزمة التي تسبب بها وضع الدروز في جنوب سورية لا تحكمه تصورات استراتيجية، وإنما ينطلق من حسابات داخلية إسرائيلية.
تداعيات الجولة الجديدة من الصراع مع الدروز
خلَّفت الجولة الجديدة من الصراع بين دمشق والدروز عدة تداعيات على الصعيدين المحلي والإقليمي، منها لصالح الحكومة وأخرى لصالح الدروز.
حقَّق أحمد الشرع عدة مكاسب، فقد عزَّز سيطرته على محيط دمشق من طريق نزع سلاح الفصائل الدرزية في صحنايا وجرمانا، ما مكَّنه من إحكام قبضته على طريق دمشق–درعا (M5)، خاصة بعد إعلان “اللواء الثامن” بقيادة أحمد العودة، حلّ نفسه وتسليم عتاده لوزارة الدفاع السورية، في أبريل الماضي. وكان العودة يسيطر فعلياً على أجزاء حساسة من الطريق، ويُشكّل عقبة أمام هيمنة النظام الجديد على هذا الشريان الحيوي. كما أدت الأحداث إلى استكمال الطوق الأمني والعسكري حول السويداء من جهات درعا وريف دمشق والبادية، مما يُعزز حصار المدينة ويُقيّد حركة الفصائل.
في مقابل هذه المكاسب، فشل الشرع في نزع سلاح الفصائل الدرزية، وزاد تمسُّكها به، واضطر للرضوخ لمطلب الشيخ الهجري بتشكيل الأجهزة الأمنية والشرطية من أبناء المحافظة، بمن فيهم من كانوا يخدمون سابقاً في شرطة النظام السابق. وعزَّزت الأزمة زعامة الهجري بين الدروز وأضعفت مؤيدي الحوار مع الشرع.
إقليمياً، كرَّست الأحداث دوراً إسرائيلياً مباشراً في جنوب سورية. وبفضل الدعم الإسرائيلي، وتماسُك المجتمع الدرزي، وعلاقاته العابرة للحدود، نجحت القيادات الدرزية حتى الآن في التصدي لمحاولات السلطة المركزية فرض سيطرتها على معقلهم في السويداء. لكن الموازين مجدداً تغيَّرت بعد زيارة أحمد الشرع إلى السعودية ولقائه بالرئيس الأمريكي دونالد ترمب. ومن المرجّح أن يسعى الشرع إلى إعادة طرح مطلب نزع سلاح الفصائل الدرزية، مُستنداً إلى شرعية دولية مُستجدة، ودعم سعودي وتركي مُتزايد. وقد يلجأ إلى تصعيد ضغوط عسكرية محدودة لتعديل ميزان القوى داخل المحافظة وتقليص نفوذ الشيخ الهجري.
ما تغيّر بعد لقاء ترمب والشرع هو منحه شرعية سياسية رمزية، كانت تنقصه منذ تسلُّمه الحكم. الجناح الدرزي الرافض للحوار، بقيادة الهجري وبدعم إسرائيلي، طالما اعتبر الشرع غيرَ شرعي، بل وصفه بالإرهابي. لكن لقاء ترمب قلب المعادلة، ومنح الشرع اعترافاً ضمنياً يُعزِّز موقعه في مواجهة خصومه داخل السويداء، ويقوّي التيار المنفتح على الحوار مع دمشق. لكن العنصر الأهم في اللقاء هو وعد ترمب برفع العقوبات، والذي إن تحقق، سيمنح الشرع موارد مالية كانت غائبة. موارد قد يستخدمها لإغراء التيار المؤيد للحوار عبر منح مناصب وامتيازات ومال، وهي أدوات ما كانت متاحة سابقاً. والسويداء تاريخياً تعتمد على دمشق في مجالات الاقتصاد، والتعليم، والعمل، فضلاً عن حاجتها للمرور عبر درعا نحو الأردن ولبنان. ومع ذلك، تبقى أي محاولة لفرض الحل بالقوة محفوفة بالمخاطر. فالدروز أقلية متماسكة، تزداد صلابتها وقت الأزمات، وتتمتع بدعم خارجي، لاسيما من إسرائيل. والتجربة التاريخية تؤكد أن كلّ من حاول إخضاعهم عسكرياً خسر الرهان.
خلاصة واستنتاجات
أفضت موجة التصعيد الأخيرة بين الحكومة السورية الجديدة والدروز إلى نتائج متناقضة. فالشرع عزَّز نفوذه في العاصمة وتمكَّن من تأمين طريق دمشق درعا، وزيادة الأمن حول طريق دمشق المطار، وحصر المسألة الدرزية في محافظة السويداء. أما الهجري فقد كرَّس نفسه زعيماً أعلى للدروز في سورية، ورسَّخ نهجه في التقارب والانفتاح على إسرائيل التي أثبتت أن تصريحات زعمائها حول حماية الدروز ما كانت تصريحات في الهواء، أما تركيا والسعودية فقد واكبتا الأزمة وتمكنتا من احتواء التوترات وتدعيم سلطة الشرع.
أظهرت المواجهة ملامح صراع دولي آخذ في التبلور حول مستقبل البلاد، خاصةً بين تركيا وإسرائيل. فقد مدّت تركيا نفوذها العسكري باتجاه دمشق وريفها، وأرادت أن تُظهر، للسوريين وللدول الإقليمية، أنها الطرف القادر على ضبط الإيقاع العسكري، ولجم إسرائيل. بالتوازي، تحركت الرياض بسرعة لاحتواء الأزمة عبر وليد جنبلاط. وفي المقابل، سعت إسرائيل إلى إفشال هذه الترتيبات عبر استثمار الورقة الدرزية، محاولةً إضعاف الشرع وخلخلة استقرار حكمه، في إطار استراتيجية إسرائيل التي تعمل على إبقاء سورية ضعيفة ومفككة.
وستبقى قضية الدروز ملفاً مهماً على المستويين المحلي والدولي. محلياً، ستكون بمثابة اختبار حاسم لقدرة الشرع على دمج المناطق المتمردة ضمن سلطته. فبعد تفكيك “اللواء الثامن” في درعا، يُعَد توسيع نفوذ السلطة الجديدة في السويداء الخطوة التالية الضرورية. لكن ليس واضحاً بعد ما إذا كان الشرع سيسلك طريق التصعيد عبر عمليات أمنية أو عسكرية أو عبر استخدام وكلاء محليين، من قبيل العشائر البدوية في الشرق أو بعض فصائل درعا في الغرب، أو سيختار مساراً أكثر هدوءاً عبر احتواء القوى المحلية وكسبها بالترغيب.
ودولياً، من المرجح أن تبقى السويداء في صلب توازنات العلاقة بين تل أبيب ودمشق. فإسرائيل لن تتخلى بسهولة عن دعمها للدروز، ويعُود ذلك جزئياً لرغبتها في إبقاء الضغط على الشرع خلال أي مفاوضات غير مباشرة تجرى معه، وأيضاً استجابةً لضغط داخلي من الطائفة الدرزية داخل إسرائيل. والسبب الثالث هو الموقع الاستراتيجي للسويداء في جنوب سورية، وهي منطقة لا ترغب إسرائيل في رؤيتها تقع تحت نفوذ جماعات متطرفة أو تُظهر لها العداء.