- محمود جرابعة
- ليهي بن شطريت
صعَّدت إسرائيل على لسان وزير المخابرات، إيلي كوهين، في 29 أبريل/نيسان 2021، من تهديداتها لإيران معتبرة أن “الحرب مع طهران ستتبع بالتأكيد” أي اتفاق سيء بينها وبين القوى العالمية(1). جاءت التهديدات الإسرائيلية في خضم انطلاق مباحثات أميركية-إيرانية غير مباشرة برعاية الاتحاد الأوروبي، وذلك في بداية أبريل/نيسان 2021، لإنقاذ الاتفاق النووي مع إيران، الذي انسحبت منه الولايات المتحدة، عام 2018. تزامن ذلك مع استعدادات إسرائيلية واسعة للحرب؛ حيث بدأت تل أبيب بإجراء أكبر مناورات عسكرية في تاريخها والتي كان من المخطط لها أن تستمر شهرًا كاملًا(2) لولا توقفها بسبب الحرب على قطاع غزة التي استمرت 11 يومًا وانتهت بوقف إطلاق نار من جانب إسرائيل، في 21 مايو/أيار 2021، دون أن تحقق إسرائيل أهدافها. تعكس هذه التطورات مسارًا متصاعدًا للأحداث العسكرية ما بين إيران وإسرائيل تخلَّله استهداف متبادل للسفن في عرض البحر(3) وتصاعد الهجمات الإسرائيلية ضد القوات الإيرانية في سوريا وانفجارات في منشآت تخصيب اليورانيوم الإيرانية في نطنز، في أبريل/نيسان 2021، مع وجود شبهات بأن إسرائيل تقف خلف ذلك(4)، وهو ما دفع العديد من المتابعين والمحللين إلى اعتبار الحرب الشاملة ما بين الطرفين مسألة وقت. تُحلِّل هذه الورقة استراتيجية إسرائيل الأمنية تجاه إيران وكيف تحولت على المستويات السياسية والعسكرية تجاه تفضيل الحرب العسكرية على حساب المسارات السياسية.
الاستهداف السري والعمل الدولي
بعد تأسيسها عام 1948، نسجت إسرائيل علاقات وثيقة مع إيران؛ حيث اعترفت الأخيرة بإسرائيل في عام 1950 وأقامت معها علاقات تحالف وتعاون اقتصادية وأمنية. تحولت العلاقات ما بين الطرفين بعد الثورة الإيرانية، عام 1979، إلى عداء استراتيجي وتنافس على الهيمنة الإقليمية؛ حيث بدأت إسرائيل تنظر إلى إيران باعتبارها عائقًا أمام هيمنتها في الشرق الأوسط. زادت حدة الصراع عندما وصل الرئيس الإيراني السابق، أحمدي نجاد، إلى الحكم، عام 2005 (استمر في الحكم حتى عام 2013)، وصعَّد من خطابه المعادي لإسرائيل؛ حيث بدأ الرأي العام الإسرائيلي ينظر إلى إيران النووية كتهديد وجودي لإسرائيل(5). ومن أجل التعامل مع الخطر الإيراني، كما يشير رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، أيهود أولمرت (2006-2009)، ركزت الاستراتيجية الإسرائيلية على مسارين مترابطين(6):
أولًا: استهدفت إسرائيل المشروع النووي الإيراني عن طريق العمل العسكري والاستخباراتي السري في مختلف القطاعات حول العالم مع إبقاء الإجراءات سرية وعدم اتخاذ مخاطر غير ضرورية.
ثانيًا: تعاونت إسرائيل مع المجتمع الدولي من أجل الضغط على إيران سياسيًّا واقتصاديًّا ودعمت قيادة الولايات المتحدة لمواصلة الجهود الدولية ضد إيران؛ حيث بدأ المجتمع الدولي، في عام 2006، بتطبيق عقوبات اقتصادية على إيران تُوِّجت بموافقة مجلس الأمن الدولي على القرار رقم 1737 والذي ينص على فرض عقوبات على طهران وذلك لإخفاقها في وقف برنامجها لتخصيب اليورانيوم والامتثال بالتالي لقرارات مجلس الأمن الدولي(7).
الخيار العسكري: دعم نتنياهو ومعارضة الجيش
انتقلت إسرائيل منذ العام 2009، أي بعد انتخاب رئيس الوزراء الحالي، بنيامين نتنياهو، رئيسًا للوزراء للمرة الثانية (المرة الأولى كانت بين عامي 1996-1999) إلى سياسة تصعيد المواجهة العسكرية المفتوحة مع إيران. مع اندلاع الثورة السورية، عام 2011، وزيادة الحضور السياسي والعسكري الإيراني في سوريا، زادت التخوفات الإسرائيلية من نفوذ إيران وبدأت تتعامل مع وجودها العسكري في سوريا كتهديد مباشر لها ولمصالحها الجيوستراتيجية. تعتقد إسرائيل بأن طهران قامت بتأسيس بنية تحتية مكونة من شبكة واسعة من صورايخ أرض-أرض وبطاريات مضادة للطائرات، وطائرات بدون طيار وذلك بهدف إقامة جبهة ثالثة -بالإضافة إلى جبهة قطاع غزة في الجنوب والجبهة اللبنانية في الشمال- وذلك بالقرب من مرتفعات الجولان الاستراتيجية التي تسيطر عليها إسرائيل منذ العام 1967. ومع تغير البيئة الاستراتيجية الإقليمية وما رافقها من تراجع نفوذ العديد من الدول العربية مقابل صعود نفوذ إيران، أصبحت إسرائيل تتخوف من أن إيران تسعى لتطويقها عن طريق بناء جسر بري يربط القوى الشيعية في منطقة الشرق الأوسط بالبحر الأبيض المتوسط وهو ما سيسهم في دعم حلفاء طهران في المنطقة، وخاصة حزب الله وحركة حماس. ومن وجهة النظر الإسرائيلية، فإن توسيع قدرة إيران الصاروخية وشبكة شركائها من الميليشيات تشكِّل تهديدًا خطيرًا على أمنها الاستراتيجي ومصالحها الإقليمية. لذلك، وضعت إسرائيل نفوذ إيران في الشرق الأوسط ومشروعها النووي كأولوية في عقيدتها الأمنية؛ حيث تعتبر اليوم أن التحديات الأمنية التي تواجهها تنبع من “تهديد واحد، وهو مطامع الهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط”(8).
بخلاف السياسات الإسرائيلية قبل عام 2009، بدأ نتنياهو يُولي أهمية أكبر من أي وقت مضى للخيارات العسكرية في التعامل مع إيران وهو ما أثار مخاوف المجتمع الدولي من اندلاع نزاع عسكري يمكن أن يزعزع الاستقرار الهش في منطقة الشرق الأوسط في ظل توجه أميركي للانسحاب التدريجي من المنطقة. يعتقد العديد من الإسرائيليين، بمن فيهم رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أولمرت، بأن تصريحات نتنياهو المتكررة حول رغبة تل أبيب بالتحرك منفردة ضد إيران أدت في نهاية المطاف إلى تحفيز الولايات المتحدة والقوى العالمية الخمسة (الصين، وروسيا، وأميركا، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا) إلى البدء في إجراء مفاوضات سرية مع إيران تُوِّجت بالتوقيع على الاتفاق النووي الإيراني، في 14 يوليو/تموز 2015(9). لم يؤدِّ الاتفاق النووي إلى تصدع العلاقات ما بين نتنياهو والإدارة الأميركية فقط، بل إلى انقسام إسرائيلي داخلي ما بين نتنياهو من جهة والمؤسسة العسكرية من جهة أخرى تجاه خيارات تل أبيب في التعامل مع طهران. فبينما عارض نتنياهو ومستشاروه المقربون الاتفاق وحشدوا جهودهم السياسية من أجل التحريض على إدارة الرئيس أوباما والتحالف مع دول المنطقة لعرقلة الاتفاق، كانت أصوات إسرائيلية مهمة، خاصة في وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية، ترى في الاتفاق النووي فرصة مهمة لاحتواء إيران في المنطقة والتعامل معها باعتبارها فاعلًا عقلانيًّا يسعى لحل تفاوضي بدلًا من الخيار العسكري المحفوف بالمخاطر(10). اعتقدت المؤسسة الأمنية بالإجماع تقريبًا بأن خطاب نتنياهو أمام الكونغرس وتحريضه على الرئيس أوباما كان خطأ أسهم في توتر العلاقات مع الإدارة الأميركية. وبالرغم من أن القادة العسكريين لم يتمكنوا من التعبير عن معارضتهم لنتنياهو علانية، إلا أن العديد من قادة الأمن السابقين كانوا أكثر جرأة في انتقاد نتنياهو علنًا وبقسوة؛ حيث أثار سلوك نتنياهو تجاه الرئيس أوباما تخوفات العديد من قادة الأمن السابقين بأن ذلك يمكن أن يهدد التحالف الاستراتيجي ما بين الطرفين لذلك طالبوا بطرد نتنياهو من منصبه. وكما يُعتقد في إسرائيل، أسهمت مواقف القادة العسكريين المؤيدين للاتفاق في تشجيع الإدارة الأميركية على المضي قدمًا في توقيع الاتفاق مع إيران(11).
عكست معارضة قادة الأمن الإسرائيليين من الاتفاق النووي الانقسام ما بين المؤسسة العسكرية ونتنياهو تجاه التعامل مع الملف الإيراني. فقبل الاتفاق النووي عام 2015، كان المعارضون الرئيسيون للضربة العسكرية على إيران هم رؤساء الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، بمن في ذلك رؤساء الأركان السابقون في جيش الدفاع الإسرائيلي، غادي آيزنكوت (2015-2019)، وبيني غانتس (2011-2014)، وغابي أشكنازي (2007-2011)، بالإضافة إلى قادة المخابرات الإسرائيلية مثل رئيس الشاباك السابق، يوفال ديسكين، ورئيس الموساد السابق، مئير داغان (الذي توفي عام 2016)(12). فداغان، الذي كان أكبر منافس لنتنياهو داخل المؤسسة الأمنية ووصف نتنياهو في إحدى المرات بأنه “خطر على إسرائيل”، كان مقتنعًا في أواخر عام 2011، بأن إيران لا تزال بعيدة نسبيًّا عن امتلاك الأسلحة النووية، وهو التقييم الذي دعمته في تلك الفترة معظم أجهزة المخابرات الإسرائيلية وذلك في معارضة صريحة لتوجهات نتنياهو. وعندما كان نتنياهو “يضخِّم” من الخطر الإيراني وأراد أن يقصف المنشآت النووية الإيرانية، في عام 2011، أعلن تامير باردو، مدير جهاز الموساد الإسرائيلي من عام 2011-2016، بأن “إيران ليست تهديدًا وجوديًّا لإسرائيل”؛ وهو ما أغضب نتنياهو(13).
الجنوح للحرب
لم يجدد نتنياهو فوزه في الانتخابات الإسرائيلية عام 2015 فقط، بل استطاع أن يزيح الجنرالات المعارضين له عن مواقع السلطة والنفوذ السياسي؛ حيث تغلَّب بوضوح على منافسيه السابقين من الجنرالات العسكريين. شكَّل قرار نتنياهو تعيين أفيغدور ليبرمان وزيرًا للدفاع، في مايو/أيار 2016، انتصارًا ثانيًا له على التوالي، وهو ما أثار استياء العسكريين وذلك بسبب عدم خبرة ليبرمان العسكرية واختلاف توجهاته المتطرفة عن السياسات البرغماتية التي يتبعها الجيش(14). فعندما كان كبار الجنرلات يعارضون الهجوم على إيران في الأعوام 2009-2012 كان ليبرمان يؤيد الهجوم ويطالب الجيش باتباع سياسة أكثر صرامة مع الفلسطينيين. كما أن الاتجاهات المتطرفة داخل المجتمع الإسرائيلي ككل، وفي الجيش على وجه الخصوص، عملت أيضًا لصالح تعزيز نفوذ نتنياهو على حساب المؤسسة العسكرية؛ حيث إن القطاع القومي الديني في إسرائيل، المعروف بتأييده الساحق لسياسات نتنياهو اليمينية، أصبح يتمدد ببطء داخل الرتب المتوسطة في الجيش(15).
مع وصول الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، للسلطة، في يناير/كانون الثاني عام 2017، والتقارب الأميركي-الإسرائيلي غير المسبوق تجاه التعامل مع الملف الإيراني، انتهى الجدل داخل إسرائيل حول جدوى الاتفاق النووي الموقع عام 2015 وبدا أن هناك إجماعًا متصاعدًا يتشكَّل تجاه تصعيد النزاع العسكري مع طهران. وبالفعل، أصبح التنسيق بين إسرائيل والولايات المتحدة عسكريًّا وسياسيًّا ضد نفوذ إيران في الشرق الأوسط، وخاصة في سوريا والعراق، أكثر وضوحًا. وبمجرد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، في مايو/أيار 2018، وتطبيقه سياسة “الضغط الأقصى” ضد إيران، تلاقت الرؤية الإسرائيلية مع طموحات إدارة ترامب في العمل بالتوازي ضد مشروع إيران النووي ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط؛ حيث لم تعد الولايات المتحدة تفصل ما بين القضايا النووية ونفوذ طهران في الشرق الأوسط، وهو الموقف الذي طالما تبنَّاه نتنياهو(16).
نتيجة للظروف الجديدة، توسعت الأهداف الإسرائيلية لتشمل استهداف إيران وبنيتها العسكرية مباشرة في سوريا وذلك لمنعها من بناء جسر بري يمر عبر العراق وسوريا ولبنان وذلك بعدما كانت إسرائيل تستهدف أكثر طرق الإمدادات والتسليح المتجهة إلى حزب الله في لبنان. في عام 2015، نشر الجيش الإسرائيلي لأول مرة نسخة غير سرية من عقيدته الأمنية والتي استحدث فيها مصطلح “الحملة بين الحروب” أو في صيغتها الإسرائيلية المختصرة: مابام(17). تقوم استراتيجية مابام على شنِّ عمليات عسكرية محدودة وذلك بهدف إحباط التهديدات وفرض سياسة الردع مع تجنب التصعيد والانتقال بالتالي إلى مستوى الحرب الشاملة. ومن الناحية النظرية، تعمل هذه الاستراتيجية على تأخير نشوب الحرب الشاملة عن طريق عرقلة “الأعداء” من تأسيس بنية تحتية عسكرية وتعزيز قوتهم وتأمين الظروف المثلى للاستعداد لنشوب الحرب الشاملة(18). طبقت إسرائيل بصورة أساسية هذه الاستراتيجية ضد نفوذ إيران وحزب الله في سوريا؛ حيث عمدت إلى تعطيل شحنات الأسلحة الإيرانية المتطورة إلى حزب الله من أجل منعه من ترسيخ نفوذه في العمق السوري. بحلول يناير/كانون الثاني 2017، قال آيزنكوت إنه حصل على موافقة بالإجماع من مجلس الوزراء الأمني لتكثيف الضربات العسكرية في سوريا. في عام 2018 وحده، قال آيزنكوت: إن إسرائيل أسقطت 2000 قنبلة على أهداف إيرانية في سوريا(19). وفي عام 2020، استهدفت إسرائيل القوات الإيرانية بأكثر من 500 ضربة صاروخية، كما صرَّح أفيف كوخافي، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، وذلك لإبطاء النفوذ الإيراني(20).
تزامنت هذه التطورات العسكرية مع تغيرات مهمة في بنية المؤسسة العسكرية التي أصبحت أكثر انسجامًا مع مواقف نتنياهو واليمين الإسرائيلي المسيطر على السياسة في إسرائيل تجاه تصعيد النزاع عسكريًّا مع إيران على حساب الحلول الدبلوماسية. فبعدما وصل نتنياهو للحكم، عمل على استبدال قيادات أقل استقلالية وأقرب إلى رؤيته السياسية بمعارضيه ضمن المؤسسات الأمنية. ومع مرور الوقت، أصبح المقربون من نتنياهو -أو على الأقل الذين يتبنَّون وجهة نظره- يسيطرون بشكل كامل على المؤسسات الأمنية الإسرائيلية، بمن فيهم مدير الموساد، يوسي كوهين، والرئيس الحالي لمجلس الأمن القومي، مئير بن شبات، واللذان يعتبران من حلفاء نتنياهو المقربين(21). فكوهين وبن شبات قادا مؤخرًا الجهود الإسرائيلية لمنع إدارة الرئيس، جو بايدن، الذي التقياه مؤخرًا في البيت الأبيض، من إعادة الانضمام إلى الاتفاق النووي لعام 2015(22). وعلى العكس من فترة ما قبل الاتفاق النووي عام 2015، تبدو القيادة العسكرية الإسرائيلية موحدة تجاه العمل العسكري ضد إيران؛ حيث لا يتوقفون عن التهديدات العسكرية العلنية ضد إيران. فيوسي كوهين هدَّد في تصريحات مؤخرًا بأن إسرائيل لا تعتبر نفسها ملزمة بالتعامل مع الجهود الدبلوماسية في الملف الإيراني مهدِّدًا بالعمل العسكري ضد إيران. وبنفس الصورة، حذَّر أفيف كوخافي، رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، من العودة للاتفاق النووي موضحًا أنه أمر بخطط عملياتية لضرب البرنامج النووي الإيراني لتكون جاهزة إذا لزم الأمر(23)؛ وذلك بصورة مطابقة لمواقف نتنياهو والأحزاب اليمينية المتطرفة والمسيطرة على المشهد السياسي. ومن أجل توحيد الخطاب الإسرائيلي ضد الاتفاق، أصدر منتدى الدفاع والأمن الإسرائيلي، والذي يضم جنرالات في الجيش وضباطًا رفيعي المستوى في وكالات الاستخبارات وجهاز الأمن العام (الشاباك)، في مارس/آذار 2021، أصدر رسالة وقَّعها 1800 ضابط وجنرال سابق تطالب الرئيس الأميركي، جو بايدن، بعدم الانضمام مرة أخرى إلى الاتفاق النووي، معتبرين أن هدف النظام الإيراني هو تدمير إسرائيل(24).
ولا تقتصر التحولات تجاه إيران على النخبة السياسية والعسكرية، بل تمتد إلى الجمهور الإسرائيلي الذي أصبح يدعم الأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة الداعمة لتصعيد المواجهة العسكرية مع إيران والتي أصبحت لاعبًا أساسيًّا في المشهد السياسي الإسرائيلي ويصعب تشكيل أية حكومة دون رضاها. عمل نتنياهو وحلفاؤه من اليمين على التحذير من شدة الخطر الإيراني وفسَّروا طموحات إيران النووية باعتبارها جزءًا من خطة لإبادة الشعب اليهودي على غرار ما فعله قادة ألمانيا النازية ضد اليهود وهو ما انعكس على الأمن الجمعي للمجتمع الإسرائيلي الذي أصبح يتعامل مع إيران وبرنامجها النووي كخطر وجودي لا مجال لتجنبه إلا بالعمل العسكري(25). ففي استطلاع للرأي أُجري عامي 2018/2019، عبَّر 73% من الإسرائيليين عن تأييدهم (مقابل معارضة 23%) لنشاط الجيش الإسرائيلي الاستباقي الهادف إلى منع الوجود الإيراني في سوريا، حتى لو كان الثمن الحرب. ومع مواصلة نتنياهو وحلفائه التحذير من الخطر الإيراني، يميل غالبية الإسرائيليين اليوم (59%) إلى العمل العسكري ضد إيران؛ حيث يفضِّل 49% منهم أن يكون ذلك بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية و(10%) حتى بدونه(26). وتعكس ميول الحرب هذه جنوح المجتمع الإسرائيلي المتزايد نحو الأحزاب اليمينية واليمينية الدينية المتطرفة، التي أصبحت تهيمن على المشهد السياسي، مع تراجع حاد للقوى المنادية بالتعايش السلمي(27).
السيناريوهات المتوقعة
تأجيل المواجهة العسكرية: ترجِّح التحولات في النخبة السياسية والأمنية الإسرائيلية ميل تل أبيب للعمل العسكري ضد إيران ومشروعها النووي وأن هذا الخيار لا يزال مرجَّحًا من الناحية الاستراتيجية بغضِّ النظر عن تشكيل أي حكومة إسرائيلية مستقبلية. فخيار التعامل العسكري مع مشروع إيران النووي أصبح مترسخًا في الخارطة السياسية الإسرائيلية التي تسيطر عليها الأحزاب اليمينية والدينية المتطرفة، والمؤسسات الأمنية التي تحولت تجاه تفضيل المواجهة العسكرية، والجمهور الإسرائيلي الذي يدعم خيارات الحرب الشاملة. ومع ذلك، يمكن القول بأن هناك عاملين يمكن أن يؤثِّرا على قرار العمل العسكري وتوقيته، وهما:
أولًا: أربكت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة حسابات السياسيين والأمنيين الإسرائيليين وأثبتت أن إسرائيل وجيشها غير مستعديْن أو قادريْن على خوض حرب طويلة الأمد ومتعددة الجبهات، وخاصة إذا انخرط فيها الفلسطينيون. همَّشت إسرائيل على مدار العقد الماضي المسارات السياسية مع الفلسطينيين واعتبرتها ثانوية، مقابل إعطاء الأولوية للتعامل مع الخطر الإيراني والعمل العسكري لمواجهته، وخاصة في سوريا. ولكن، أثبتت الحرب الأخيرة مع الفصائل الفلسطينيية أن مواجهات شاملة مع الفلسطينيين في الضفة الغربية، وقطاع غزة، والقدس، وداخل أراضي عام 48 يمكن أن تربك إسرائيل أمنيًّا وتضعف مناعتها القومية في ظل تشتت الجبهة الداخلية والانهيار السياسي الداخلي(28). فبعد الحرب، ستحتاج إسرائيل فترة زمنية للتعافي من نتائجها ومن المستبعد أن تُقْدِم على حرب جديدة في الفترة القريبة مع الصعوبات الكبيرة المرتبطة بتشكيل حكومة إسرائيلية جديدة أو استمرارها (إذا ما شُكِّلت)، واحتمال اللجوء إلى انتخابات جديدة خلال الأشهر القادمة وتراجع سياسة الردع في تشكيل جوهر عقيدتها الأمنية. فمنذ قيامها عام 1948، رسخت إسرائيل عقيدة أمنية تقوم على سياسة الردع، أي مراكمة القوة واستخدامها عند الضرورة من أجل ردع الأعداء، ولكن تضررت هذه العقيدة في الحرب الأخيرة التي فاجأت فيها فصائل المقاومة الفلسطينية إسرائيل بإطلاق أكثر من 4 آلاف صاروخ خلال أقل من أسبوعين بصورة عززت الشكوك حول مدى جاهزية الجيش الإسرائيلي لخوض حرب واسعة أو استهداف إيران عسكريًّا؛ وبالتالي فتح جبهات عسكرية متعددة تمتد من الشمال للجنوب.
ثانيًا: من المستبعد أن تُقدم إسرائيل على شنِّ حملة عسكرية ضد مشروع إيران النووي قبل انتهاء مفاوضات فيينا الحالية ما بين طهران والقوى العالمية وتبلور استراتيجية الولايات المتحدة تجاه المنطقة. فعلى العكس من إدارة ترامب التي تماهت بالكامل مع المخططات والطموحات الإسرائيلية تجاه إيران، تعوِّل إدارة بايدن على الحل التفاوضي مع طهران مع سعيها إلى تخفيض اشتباكها في ملفات الشرق الأوسط. وبغضِّ النظر عن نتائج المفاوضات، ستحتاج إسرائيل إلى ضمان دعم الولايات المتحدة ومشاركتها في أية عملية عسكرية؛ حيث يشكِّك العديد من القادة العسكريين الإسرائيليين في إمكانية نجاح أية ضربة عسكرية بعيدًا عن التنسيق المباشر مع الإدارة الأميركية(29). وكما تشير المؤسسات البحثية الاستراتيجية الإسرائيلية، فإن تحديات الأمن القومي الإسرائيلي تعتمد بصورة كبيرة على دعم الولايات المتحدة الأميركية؛ حيث يشكِّل اللجوء إلى واشنطن الملاذ الأساسي لإسرائيل، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالمواجهات العسكرية.
استمرار “الحملة بين الحروب”: مع انتظار ما سينتج عن مسار المفاوضات الجديد مع إيران، يتفق الإسرائيليون إلى حدٍّ كبير على أن أفضل نهج هو أن تستمر إسرائيل في حملة مابام وذلك من أجل إضعاف قدرات إيران في سوريا والحد من نفوذها في منطقة الشرق الأوسط. بغضِّ النظر عن نتائج مفاوضات فيينا، يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية تدعم هذا الخيار الإسرائيلي أو على الأقل تغض الطرف عنه طالما لم يتسبب في اندلاع حرب شاملة في المنطقة. لذلك، فمن المتوقع أن تستمر إسرائيل في مهاجمة القوات الإيرانية في سوريا وأن تُبقي الاشتباك معها قائمًا. بالإضافة إلى ذلك، من المرجح أن تستمر إسرائيل في العمل العسكري والاستخباراتي لتعطيل مشروع طهران النووي، ولو مؤقتًا، بما في ذلك اغتيال العلماء الإيرانيين أو تفجيرات متحكَّم بها عن بُعد كما حصل في منشأة نطنز النووية الحساسة. ويدعم هذا السيناريو التطورات الإقليمية والمناوشات العسكرية الإسرائيلية الإيرانية المتواصلة منذ العام 2018، سواء في عرض البحر أو في داخل الأراضي السورية والتي تُظهر تصميم إسرائيل على العمل على عدم السماح لإيران بإنشاء جبهة رئيسية في هضبة الجولان والتي يمكن استخدامها في حرب مستقبلية بين الطرفين. ومع أن الطرفين يحرصان حتى الآن على إبقاء المواجهات محدودة، إلا أن حادثًا أمنيًّا كبيرًا وخطيرًا يمكن أن يؤدي إلى مواجهة عسكرية شاملة وإلى تصعيد النزاع.
قبول المسار السياسي: ترجح التطورات الحالية أن عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي مع إيران باتت وشيكة وهو ما سيضع على الأغلب النخبة السياسية والأمنية الإسرائيلية، والتي تفضِّل الحل العسكري، في مواجهة مع الإدارة الأميركية التي تميل إلى الحلول الدبلوماسية. تحولت إسرائيل خلال العقد الماضي تجاه تفضيل الحل العسكري مع إيران على حساب المسارات السياسية وهو ما ترك إسرائيل حاليًّا دون تأثير مباشر وملموس على مسار مفاوضات فيينا. ومع ذلك، إذا استنتجت إسرائيل أن الولايات المتحدة مصمِّمة على التوصل إلى اتفاق مع إيران ورجحت أن تكلفة الحرب ستكون كبيرة على جبهتها الداخلية التي أثبتت الحرب الأخيرة أنها هشَّة وغير مستعدة لحروب طويلة الأمد وخوفًا من إغضاب إدارة بايدن، فمن المحتمل أن تسمح إسرائيل للاتفاقية بالخروج إلى النور مع محاولة لتشكيلها بما يحقق مصالح تل أبيب الجيوسياسية، وخاصة إذا عالجت الاتفاقية الجديدة مدة الاتفاق، وصواريخ إيران البالستية، ونفوذ إيران في الشرق الأوسط. فإسرائيل يمكن أن تتعايش مع اتفاق نووي جديد طالما أنه يضمن أن إيران لن تتمكن من التحول إلى قوة إقليمية نووية في نهاية المطاف ويجنِّبها الصراع مع إدارة بايدن على غرار ما حصل مع الرئيس أوباما.
فشل إسرائيل: بدلًا من تحطيم إيران وتدمير برنامجها النووي، يرجِّح الإسرائيليون أن تسعى إيران لتسريع امتلاكها للأسلحة النووية التي ستعتبرها ضرورة دفاعية ضد إسرائيل وهو ما سيؤدي على الأغلب إلى عكس النتائج التي تطمح إليها تل أبيب. يسود الاعتقاد منذ فترة طويلة داخل دوائر أمنية إسرائيلية مهمة بأن العمل العسكري ليس حلًّا للمشروع النووي الإيراني وأن ذلك سيكون كارثة كاملة على دولة إسرائيل وذلك بسبب انتشار المنشآت النووية الإيرانية في جميع أنحاء البلاد وهو ما سيجعل من المستحيل تقريبًا القضاء على البرنامج النووي الإيراني بالكامل(30). ربما نجحت إسرائيل حتى الآن من خلال استراتيجية مابام أو الجهود السرية في إبطاء مخططات إيران ولكن ذلك لم يُثنِ إيران عن المضي قدمًا في طموحاتها للهيمنة الإقليمية أو امتلاك القوة النووية. بل على العكس، تقر إسرائيل بأن استراتيجيتها دفعت إيران إلى الأمام سواء فيما يتعلق بنفوذها في المنطقة أو ببرنامجها النووي(31). ففيما يتعلق ببرنامجها النووي، زادت إيران من تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% وسرَّعت بناء أجهزة الطرد المركزي المتطورة بصورة يمكن أن تسرِّع من إنتاجها للأسلحة النووية. وفي حال استمرت طهران في تخصيب اليورانيوم بنسب مرتفعة وفشلت المفاوضات الجديدة في وقفها، يسود الاعتقاد في إسرائيل بأن طهران قد تصبح على بُعد عام أو عامين من إنتاج قنبلة نووية، كما صرَّح وزير الطاقة الإسرائيلي، يوفال شتاينتس(32). بالإضافة إلى ذلك، لا تزال طهران تتمتع بوجود عسكري واسع وقوي في سوريا؛ حيث لم تنجح إسرائيل في منعها من نقل الأسلحة إلى حزب الله في لبنان أو إخراجها من سوريا التي باتت تُحكم قبضتها عليها وهو ما بات عرضة لانتقادات إسرائيلية داخلية عديدة ويثير العديد من التساؤلات عن مدى نجاح الاستراتيجية الإسرائيلية حتى الآن في التعامل مع إيران(33). فبدلًا من احتوائها، أصبحت إيران وحلفاؤها يشكِّلون تهديدًا مباشرًا واستراتيجيًّا لإسرائيل ومصالحها في المنطقة ويتمددون جيوسياسيًّا في الشرق الأوسط.
خاتمة
مع سعي إدارة بايدن للعودة للاتفاق النووي مع إيران، تزداد الفجوة ما بين واشنطن وتل أبيب؛ حيث تهدف الأخيرة إلى تعطيل أي تقارب أميركي محتمل مع إيران وتهدد عوضًا عن ذلك بالعمل العسكري. تدعم توجهات تل أبيب هذه التغيرات البنيوية العميقة داخل المجتمع والسياسة والأمن في إسرائيل تجاه دعم العمل العسكري ضد إيران وهو ما سيتحتم على واشنطن أن تأخذه بعين الاعتبار وذلك بخلاف تجربة عام 2015 عندما عارض نتنياهو توجهات الرئيس أوباما. فعلى العكس من اتفاق 2015؛ حيث كان قادة أمنيون إسرائيليون مهمين يدعمون الاتفاق، فالجيش يعارض اليوم أي اتفاق جديد مع طهران، وهو ما سينعكس على مواقف أية حكومة إسرائيلية مستقبلية وربما يؤثر أيضًا على قرارات واشنطن. فمن المرجح أن يرفض أي خليفة لنتنياهو -في حال نجح خصومه في تشكيل حكومة جديدة- الاتفاق النووي وذلك في ظل هيمنة غير مسبوقة للأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة على المشهد السياسي الإسرائيلي والتي تفضِّل تصعيد المواجهة بدلًا من الحلول العسكرية. يضاف إلى ذلك أن المؤسسات الأمنية والسياسية الإسرائيلية تشكِّك بقدرة إدارة بايدن على تحقيق اتفاقية محتملة تعالج ليس فقط ملف طهران النووي، بل الأهم نفوذها في الشرق الأوسط ومشروعها للصواريخ البالستية، وهي ملفات لا تقل أهمية بالنسبة لتل أبيب عن مشروع طهران النووي. سيضع ذلك بدوره إدارة بايدن، التي لا تتفق مع التقييمات الإسرائيلية للمخاطر، في موقف حرج للغاية؛ حيث تواجه مخططات إدارة بايدن شكوكًا عميقة وعقبات محتملة في الكونجرس بسبب معارضة الجمهوريين، وجزء من الديمقراطيين، لأي اتفاق نووي مع إيران. ستلعب هذه المعارضة الداخلية، على الأرجح، دورًا مركزيًّا في التأثير على توجهات إدارة بايدن تجاه إيران وربما تعرقلها، خاصة أن الإدارة لم تبلور حتى الآن أية خطة متماسكة لتنفيذها في حال فشلت المفاوضات الجارية والتي أصبحت تركز عليها الإدارة الأميركية بشكل ضيق. وفي حال أعادة الولايات المتحدة انضمامها للاتفاق النووي، فإن الخطوة التالية ستكون على الأرجح معالجة نفوذ طهران وسياساتها التوسعية في الشرق الأوسط عن طريق التعاون والتنسيق المكثف مع تل أبيب وحلفائهما الآخرين في الدول العربية. في ظل هذه التعقيدات، يبدو أن هناك معادلة جديدة ما بين الطرفين تتشكل تقوم على قاعدة عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي مع الأخذ بعين الاعتبار المصالح الجيوسياسية الإسرائيلية مع السماح لتل أبيب بالاحتفاظ “بحملتها بين الحروب” تجاه نفوذ إيران في سوريا طالما أنها لن تؤدي إلى حرب شاملة. ومن الناحية العملية، ستختار إسرائيل على الأرجح مواصلة السعي البطيء ولكن الحازم لإحباط طموحات إيران النووية من جهة ومساعيها للسيطرة الإقليمية والتمدد في سوريا من جهة أخرى؛ وذلك بهدف ترسيخ معادلة أمنية جديدة في المنطقة لا تفصل فيها تل أبيب بين نفوذ إيران في المنطقة وملفها النووي وذلك على غرار ما تحقَّق أثناء إدارة ترامب.