تقديم:
إن المتتبع لأدبيات السياسة العامة يلاحظ أن تطور نظرية متكاملة ومستقلة في هذا السياق قد مر بمراحل مخاض طويلة نتج عنها وجود أطر نظرية مختلفة تصف وتحلل وتتنبأ بعملية اتخاذ القرارات. ووفقا لفلسفة توماس كون عن الثورة العلمية، يلاحظ وجود ثلاثة ثورات متتالية في مجال دراسة السياسة العامة، وهي: الثورة الكلاسيكية التي يعود إليها الفضل في تأسيس ما يعرف العلوم السيايسة، والثورة السلوكية التي يعود إليها الفضل في بروز علم السياسة المستقل، والثورة المابعدية التي أسهمت بدورها في تطوير نظرية متكاملة ومستقلة للسياسة العامة. لكن تطوير نظرية متكاملة للسياسة العامة في إطار المدرسة المابعدية لا يعني بأي حال من الأحوال عدم الاستفادة من مساهمات النظريتين الكلاسيكية والسلوكية في هذا المجال، وعليه يلاحظ أن نظرية دائرة السياسة العامة المابعدية تعتبر مستوفية لشروط النظرية من حيث: الوصف، والتحليل، والتبوء وهي سمات عجزت الأطر النظرية السابقة على تحقيقها مجتمعة.
ولا تقتصر أهداف هذا الكتاب على استعراض أدبيات السياسة العامة منذ ازدهار الحضارات القديمة، ولكنها تمتد لتشمل تطبيق مفهوم الثورة العلمية الذي طوره توماس كون في الستينيات من القرن العشرين ، حيث يتضح وجود ثلاثة أطر نظرية مختلفة للسياسة العامة وهي:
- نظرية كلاسيكية تتعامل مع السياسة العامة كنتيجة أو متغير تابع.
- ونظرية سلوكية تتعامل مع السياسة العامة كسبب أو متغير مستقل.
- ونظرية ما بعدية تعتبر السياسة العامة عملية معقدة لها مراحل متعددة ومتداخلة، وبالتالي فإنها قد تكون سببا ونتيجة في نفس الوقت.
كما يهدف هذا الكتاب إلي التعرض للبعد العملي أو التطبيقي للسياسة العامة، حيث سيتم التركيز على تنفيذ ونتائج السياسة العامة على عدة مستويات ومراحل. فالسياسة العامة ليست مجرد بارادايم يجسد وجود نظريات ونماذج وأطر نظرية كلاسيكية أو سلوكية وما بعدية، ولكنها تعتبر أيضا مجال يتم فيه دراسة سياسات عامة على أرض الواقع، مثل السياسة العامة للتعليم.
عليه، يلاحظ أن فصول الكتاب الأربعة تصف وتحلل وتتنبأ بالسياسة العامة من خلال الأبعاد التالية:
أولا، تحديد مفهوم وأبعاد السياسة العامة منذ أقدم الحضارات البشرية تمشيا مع مقولة أن السياسة العامة لا تنبع من فراغ، حيث يركز الفصل الأول من هذا الكتاب على تتبع مفهوم وأبعاد السياسة العامة منذ القدم.
ثانيا، تتبع المفهوم التقليدي لعملية صنع القرارات منذ أن نشر وودرو ولسون مقالته الشهيرة عن بروز علم الادارة العامة عام 1887، وهو مفهوم يجسد الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات في المطلق. عليه، فمفهوم السياسة العامة التقليدي يتعامل مع السياسة العامة كنتيجة تتمثل في سلطة تشريعية تصنع السياسة العامة وسلطة تنفيذية تطبق ذلك.
ثالثا، قيام الثورة السلوكية في منتصف القرن العشرين وأخذها في الحسبان توسع اختصاصات النظم السياسية المعاصرة في أوجه الحياة المختلفة، الأمر نتج عنه تطوير نظرية جديدة تتعامل مع السياسة العامة كمخرجات أو متغير مستقل.
رابعا، قيام الثورة المابعدية في نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي وتطوير نظريات ما بعدية تتعامل مع السياسة العامة كسبب ونتيجة في نفس الوقت من ناحية، وتعكس خصوصية نظرية السياسة العامة من حيث الاستقلالية وتضييق الفجوة بين النظرية والتطبيق من ناحية أخرى.
يتضح مما سبق، أن نظرية السياسة العامة المعاصرة تتسم بالتعقيد والتداخل والاستقلالية والبعد التراكمي للمعرفة البشرية. فمفهوم السياسة العامة يتسم بالتعقيد والتداخل ، نظرا لتفاوت التعامل معها كنتيجة أو سبب أو عملية من ناحية، ونظرا لأنها تعتبر مجال يتداخل مع بقية فروع المعرفة الأخرى من ناحية أخرى. كما أن السياسة العامة أصبحت علما مستقلا يدرس كتخصص فرعي في اقسام علم السياسة أو في اقسام علمية متخصصة من ناحية، ويعكس بعدا تاريخيا يعود إلي اقدم الحضارات البشرية من ناحية أخرى.