بسم الله الرحمن الرحيم
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)
(فصلت:53)
لقد كان البحث والنقاش حول وجود الله أو عدمه منذ القدم من أهم وأعمق المواضيع الفلسفية والدينية. وهذه النقاشات، التي يمكن العثور على جذورها في بدايات الفكر الفلسفي في اليونان القديمة بل وحتى قبل ذلك، استمرت حتى يومنا هذا، متجسدةً في مجالات العلم والفلسفة والدين. هذه النقاشات لا تقتصر فقط على الأبعاد العقلية والفلسفية، بل ترتبط بأسئلة جوهرية حول معنى الحياة والأخلاق والغاية النهائية للوجود.
على مر العصور، قدم الفلاسفة والمتكلمون براهين متعددة لإثبات وجود الله، بينما في المقابل، حاول النقاد والملحدون تفنيد هذه البراهين ورفضها. كان القرن الثامن عشر، المعروف بعصر التنوير، من أهم الفترات التي شهدت تطورات هامة في الفكر الإلحادي. خلال هذه الفترة، قام فلاسفة مثل فولتير وديدرو وبارون دي هولباخ بانتقاد الدين والدعوة إلى الفكر العقلاني. هولباخ، في كتابه «نظام الطبيعة»، أنكر وجود الله بشكل صريح، واعتبر الدين مصدرًا للجهل والخرافات. وقد كانت حركة التنوير، بأفكارها المعارضة للدين، من أهم العوامل التي ساعدت على انتشار الإلحاد والعلمانية في الغرب.
في القرن التاسع عشر، ازداد ظهور الإلحاد الفلسفي في الفكر الغربي. لودفيغ فيورباخ، الذي أكد أن الله هو مجرد تصور خيالي ابتكره الإنسان، وأن الدين يعكس احتياجات البشر ورغباتهم، كان له تأثير كبير في ترسيخ الفكر الإلحادي. آرثر شوبنهاور وفريدريش نيتشه، بنقدهما الحاد للدين والأخلاق المسيحية، ساعدا بشكل جدي على تعزيز الفكر الإلحادي. نيتشه، بإعلانه «موت الإله» وتنبؤه بحدوث أزمة روحية في الغرب، كان من أبرز الشخصيات الإلحادية في تاريخ الفلسفة. بالإضافة إلى ذلك، قام بعض فلاسفة الفلسفة التحليلية في القرن العشرين، مثل ألفريد جي آير وبرتراند راسل، بنقد براهين الإيمان بالله.
في الفلسفة الغربية المعاصرة، هناك عدة توجهات ونظريات إلحادية تعارض براهين إثبات وجود الله. بعض هذه النظريات تنكر الميتافيزيقا بشكل كامل، والبعض الآخر يشكك في إمكانية الإثبات العقلي والفلسفي لوجود الله. ومن بين هذه التوجهات نذكر المادية والطبيعية الفلسفية، والوضعية المنطقية، والوجودية الإلحادية، والإنسانية العلمانية، وما بعد الحداثة والنسبية المعرفية، وأخيرًا الإلحاد الجديد والعلمانية العلمية.
في هذا الكتاب، قام الأستاذ سليماني أميري، وهو مفكر دقيق النظر، بتحليل نقدي لبعض أهم الاعتراضات على براهين وجود الله، مصنفًا إياها في خمس فئات رئيسية: الاعتراضات المعرفية، الوجودية (الأنطولوجية)، المنطقية، اللاهوتية، والتحليل اللغوي. ولأن أحد الافتراضات المهمة في هذه المناقشات هو نقد الشك المطلق وتوضيح حدود المعرفة العقلية البشرية، فقد خصص جزءًا مهمًا من المقدمة لشرح هذا الموضوع بشكل وافٍ.
نود أن نتوجه بخالص الشكر والتقدير للأستاذ المؤلف الكريم على جهوده الكبيرة في إعداد هذا الكتاب، كما نشكر المترجم القدير الأستاذ السيّد حسن علي مطر الهاشمي على دوره الفعّال في الترجمة وإتمام النص. كما نعرب عن امتنانا لزملائنا في المركز، خاصة حجة الإسلام والمسلمين الدكتور السيد هاشم الميلاني، رئيس المركز، والأستاذ السيّد محمد رضا الطباطبائي، مدير قسم النشر، على دعمهم وتفانيهم. نأمل أن يسهم هذا الكتاب، ولو بقدر ضئيل، في تعزيز الفكر التوحيدي ورفع الوعي المعرفي والروحي في مجتمعنا المعاصر، بفضل الله وكرمه إنه قريب مجيب.
السيّد محسن الموسوي
المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية – فرع قم
تمهيد
الحمد لله الواحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، والصلاة على جميع الأنبياء والمرسلين، سيّما أفضلهم وخاتمهم محمد وعلى آله الهداة المهديين.
إن فكرة الإله في التاريخ كانت توأم وجود الإنسان وتفكيره. فكل إنسان ما أن يضع قدميه على مسرح الوجود، ويصل إلى مرحلة من النضج والوعي الفكري وتبدأ قواه الفكرية بالنشاط، حتى يكون أحد الأشياء التي تشغل تفكيره وتدفعه نحو بذل الجهود العلمية هو فكرة الإله. فهل هناك خالق ومدبّر للإنسان والكون أم لا؟ وإذا كان هناك خالق ومدبّر للإنسان والكون، فهل يمكن للإنسان أن يعلم به ويتعرّف عليه؟ وما هو طريق أو طرق التعرّف عليه؟ وبعبارة أخرى: هل يمكن للإنسان أن يُبرهن على وجود الله؟ فحتى لو لم يأخذ الإنسان وجوده ووجود الأشياء في العالم بنظر الاعتبار، هل يمكنه إثبات وجود الله؟ هل يمكن للإنسان أن يثبت وجود الله من مجرد النظر الى صرف الوجود ( برهان الصديقين)؟ وهل يتمكن من اثبات وجوده من مجرد التفكر فيه (البرهان الوجودي او المفهومي)؟
إن تاريخ البشرية يشهد على وجود أشخاص كانوا ولا زالوا ينكرون وجود الله، وعلى الرغم من أن عدد هؤلاء قليل بالقياس إلى المؤمنين بوجود الله، ولكن هل هذه الفئة القليلة إنما تنكر وجود الله عن مكابرة وعناد؟ أم أن قواهم الإدراكية لا تمتلك القدرة على الإيمان بوجوده؟
إن من بين الأبحاث الجادّة التي يتمّ بحثها اليوم في فلسفة الدين وتستقطب المخالفين والموافقين، هو بحث إثبات وجود الله؛ بحيث أن كلا الطرفين قدّم أبحاثًا جادّة في هذا الشأن. إن موضوع بحثنا في هذا الكتاب هو نقد نظرية أولئك الذين يقولون باستحالة إثبات وجود الله سبحانه وتعالى. ففي هذا الكتاب لا يدور البحث حول ما إذا كانت الأدلة ـ التي أقيمت على إثبات وجود الله حتى الآن ـ معتبرة أم لا، بل البحث يقع في مورد الأدلة التي ساقها المخالفون؛ أي الأدلة التي تسعى إلى إظهار أن وجود الله غير قابل للإثبات.
إن هذا الكتاب يتعرّض في المجموع إلى نقد أربعة أنواع من الأدلة على نفي إثبات وجود الله سبحانه وتعالى، وهي كالآتي:
1. الأدلة التي تدّعي أنه لا يمكن إثبات أيّ برهان على وجود الله.
2. الأدلة التي تنفي إقامة البراهين الوجودية والمفهومية على وجود الله.
3. الأدلة التي تدّعي أنه لا يمكن إثبات أيّ نوع من أنواع برهان الصديقين على وجود الله.
4. الأدلة التي ترى عدم إمكان البرهان الكوني على وجود الله سبحانه وتعالى.
وبطبيعة الحال يمكن تقسيم هذه الإشكالات بنحو آخر إلى خمسة مجموعات، وذلك على النحو الآتي:
1. الإشكالات المعرفية والأبستمولوجية، من قبيل: الإشكالات الوضعية، والمنظومة المعرفية لإيمانوئيل كانط، والقواعد اللسانية العمقية لفيتغنشتاين.
2. الإشكالات الوجودية والأنطولوجية، من قبيل: إنكار الوجود المحمولي والضروري.
3. الإشكالات المنطقية.
4. الإشكالات اللاهوتية، من قبيل: مسألة الشرور، ورحمة الله، وعلم الله، واختيار الإنسان.
5. إشكالات التحليل اللغوي، من قبيل: الاسمية الخاصة لكلمة «الله».
لقد تمّ تنظيم هذه الإشكالات ضمن فصلين تحت عنوان: الإشكالات العامة، والإشكالات الخاصة. وإن بعض الإشكالات بسبب التفصيلات الكبيرة فيها قد أفردنا لها فصلًا مستقلًا بها. وحيث أن بيان الإشكالات ونقدها بحاجة إلى مبان لا يمكن ذكرها بأجمعها في ذيل الإشكالات، فقد عمدنا إلى تخصيص القسم الأول من الكتاب بطرح «مباني نقد استحالة البرهان»، وتخصيص القسم الثاني ببحث «نقد استحالة البرهان»، وفي مقدمة الكتاب ـ التي هي بمثابة الفرضية المسبقة لكلا قسمي الكتاب ـ تمّ تناول بحث نقد الشك المطلق ووظيفة العقل.
وفي الختام أرى من واجبي أشكر الجهود الكريمة للمسؤول المحترم في معهد دراسات الفلسفة والكلام الإسلامي، سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد علي رضا آل بويه، والمدقق المحترم سماحة السيد علي أكبر علي زادة.