مقدمة
واجه المصريُّون أزمات اقتصادية واجتماعية خلال السنوات الماضية، تفاقمت منذ بداية عام 2020؛ بسبب تداعيات جائحة كوفيد 19 التي ألقت بثقلها على الاقتصاد المصري، ما تسبب بتعطل بعض المهن والمشروعات، إضافة للقرارات الحكومية الأخيرة التي أثقلت كاهل الطبقة المتوسطة والفقيرة من فرض للضرائب والرسوم أو هدم المنازل والبيوت المخالفة وزيادة الأسعار وغلاء المعيشة، جميع هذه الأسباب دفعت بالبعض من ذوي الدخل المحدود والطبقة المتوسطة للخروج في احتجاجات تطالب بتحسين أوضاعهم المعيشية ومحاربة الفساد.
*الاقتصاد المصري بين 2014-2020
شهدت مصر منذ عام 2014 زيادة ملحوظة في نسبة الدين العام بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، حيث ارتفع الدين العام الخارجي من 46 مليار دولار في تموز/ يوليو 2014[1] إلى 111.3 مليار دولار[2]، خلال الربع الثالث من السنة المالية الماضية 2019 /2020، ما سينعكس سلبًا على الحالة الاقتصادية للبلاد لفترة طويلة.
كما شهدت انخفاض سعر الجنيه بنسبة تقدر بــ 80٪، إذ أصبح سعر صرف الدولار الأمريكي الواحد يساوي 15.65 جنيهًا مصريًا خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2020، بعد أن كان يساوي 8.8 جنيهًا، جاء ذلك بعد قرار السلطات المصرية تحرير سعر صرف العملات الأجنبية الذي صدر في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2016[3]، وحصلت بموجبه على قرض قيمته 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، وسط ترجيحات باستمرار ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصري حتى يصل إلى 17 جنيهًا للدولار الواحد في كانون الأول/ديسمبر 2022.
أزمة كوفيد 19 التي ضربت الاقتصاد العالمي كان لها دورٌ إضافيٌ في تدني الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في مصر، إذ أثرت على جميع مصادر النقد الأجنبي والاستثمار الخارجي وصادرات الغاز الطبيعي[4]، وسط توقعات بتباطؤ الاقتصاد المصري بنسبة 3.3% خلال السنة المالية المقبلة[5].
الموجة الأولى والثانية من جائحة كوفيد 19 أثرت أيضًا بشكل كبير على قطاع السياحة في مصر، والذي “يساهم بنحو 12 إلى 15 بالمئة في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ما أسفر عن خسائر تقدر بمليار دولار شهريًا”[6]، بسبب الإغلاق التام ووقف الرحلات بين دول العالم، كما أجبر كوفيد 19 المئات من أصحاب المهن الحرفية على الإغلاق بسبب قلة الطلب.
الاحتجاجات الشعبية في مصر .. أسبابها وتوزعها
تصاعدت الاحتجاجات في عموم الأراضي المصرية خلال الأشهر القليلة الفائتة، رفضًا لقرارات وسياسات الحكومة الأخيرة، أبرزها هدم المنازل والبيوت المخالفة، وقرارات أخرى كرفع أسعار الكهرباء والمياه ومترو الأنفاق[7]، وخفض وزن رغيف الخبز المدعم[8]، وزيادة أسعار الخدمات الحكومية والسلع والتعليم والصحة.
يضاف إلى ذلك خصم واحد بالمئة من رواتب الموظفين الحكوميين والعاملين في القطاع الخاص لمدة عام[9]، بدعوى المساهمة في جهود مكافحة فيروس كوفيد 19، وسط انتقادات طالت هذا القرار في هذا الوقت.
وما ساعد أيضًا في تأجيج المظاهرات ارتفاع نسبة الفقر[10]، حيث بلغت 32.5 في المئة من عدد السكان، ما يعني أن ثلث سكان مصر تحت خط الفقر، إضافة لزيادة عدد العاطلين عن العمل، إذ بلغت نسبة البطالة 9.6٪ خلال الربع الثاني من عام 2020 من إجمالي قوة العمل[11]، وسط توقعات بارتفاع المعدل إلى 19% خلال النصف الأخير من العام الجاري[12]، وفقدان 26.2% من الأفراد المشتغلين بالأسر المصرية لعملهم نهائيًا[13].
لكن الشرارة التي أدت إلى عودة الاحتجاجات إلى الشارع المصري بشكل أكبر وأوسع هي قانون رقم 1 لعام 2020 الذي أصدره الرئيس عبد الفتاح السيسي الخاص بالمباني والعقارات المخالِفة، ومنح مهلة لنهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 حتى لا يتعرض ملَّاك المباني المخالفة إلى تطبيق قانون إزالة المخالفات[14]، حيث بلغ إجمالي طلبات التصالح ما يزيد عن 2 مليون و261 ألف طلب حتى بداية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري[15].
وبعد عدة أشهر فقط من إصدار هذا القانون تمكنت السلطات المصرية من تحصيل نحو8 مليارات و600 مليون جنيه من ملف التصالح بمخالفات البناء في جميع المحافظات حتى نهاية شهر أيلول/سبتمبر الماضي[16].
تصريحات المسؤولين المصريين بتحصيل مليارات الجنيهات خلال أقل من تسعة أشهر من ملف التصالح وحده، دليل على صحة الاتهامات التي وجهها مراقبون ونشطاء بأن القرارات الأخيرة بهدم المنازل المخالفة هدفها إرغام المواطنين على شراء أراض ووحدات من الحكومة لسد العجز الحاصل في ميزانية الدولة من جيوب المواطنين بسبب تداعيات كوفيد 19[17]، ولم يكن الهدف منها التصدي لظاهرة البناء الفوضوي، كونها منتشرة في عموم البلاد منذ عشرات السنين.
وتحدد قيمة التصالح بحسب المنطقة التي يقع فيها العقار ووفق شروط محددة[18]، وحدد القانون رقم 17 لسنة 2019 غرامات تتراوح من 50 إلى 2000 جنيه للمتر المسطح الواحد من مخالفات البناء، ويستثني القانون حالات بعينها من التصالح، أبرزها: المباني التي تتضمن خللًا إنشائيًا يضر بسلامتها، أو الأراضي المملوكة للدولة.
وزادت قوة المظاهرات مع تصاعد عمليات الإزالة للعقارات التي _إن استمرت_ ستهدد بتشريد عدد كبير جدًّا من متوسطي ومحدودي الدخل في جميع المحافظات المصرية، حيث يصل عدد العقارات المخالفة إلى 2.8 مليون مبنى مخالف على مستوى البلاد[19]، وعدد الأدوار المخالفة 396 ألفًا و87 دورًا، و1.7 مليون وحدة مخالفة، وهذا يعني أن عدد الوحدات المخالفة يقترب من 20 مليون وحدة مخالفة، وفق تقرير أعدته لجنة الإسكان بمجلس النواب في شهر تموز/يوليو الفائت.
ما يميز الاحتجاجات التي جرت في شهر أيلول/سبتمبر الفائت عن غيرها مشاركة فلاحين ومزارعين طالهم قانون إزالة التعديات والتصالح في مناطق من محافظات الدلتا ومن محافظات الصعيد بصورة أكبر من المظاهرات السابقة المطالبة بالإصلاح ومحاربة الفساد، لتمتد إلى مناطق في الجيزة، والمنيا، والقاهرة، والبحيرة، والإسكندرية، وأسوان، والقليوبية، والمنيا، وأسيوط، وبني سويف، وسوهاج، والفيوم، ودمياط، والدقهلية تحت شعار “جمعة الغضب”[20]، فيما سماها آخرون “ثورة الجلاليب” (الجلباب: الزي الوطني لأغلب الشعب المصري وخاصة الفلاحين)، إذ تم رصد 164 احتجاجًا في 14 محافظة من أصل 27 خلال الفترة من 20 إلى 27 أيلول/ سبتمبر 2020، أعلاها في الجيزة بـ 83 احتجاجًا والمنيا بـ 18 احتجاجًا[21].
قوات الأمن المصرية واجهت المحتجين الغاضبين بالقنابل المسيلة للدموع والهراوات وطلقات الخرطوش، وفي حادثة واحدة على الأقل الذخيرة الحية[22]، حيث وثقت منظمات حقوقية اعتقال السلطات 1356 شخصًا في عدد من المحافظات[23]، على خلفية مشاركتهم في الاحتجاجات الأخيرة، بتهم مختلفة منها التظاهر دون إذن من الحكومة، والدعوة إلى احتجاجات غير مصرح بها والانضمام لـ”جماعة إرهابية”، ونشر وإذاعة أخبار وبيانات كاذبة، وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وطالبت منظّماتٌ حقوقيةٌّ الحكومةَ المصريةَّ بحماية حقّ التظاهر السلمي والإفراج الفوري عن الموقوفين الذين تعرضوا للاحتجاز لمجرد ممارسة حقوقهم بالتظاهر[24].
بدورها سعت السلطات لامتصاص الغضب الشعبي عبر رئيس وزرائها مصطفى مدبولي[25]، الذي أكد أن “قانون التصالح في مخالفات البناء ليس إجراء عقابيًا، ولكن يخدم المواطنين الذين استثمروا في إنشاء العقارات”، وأشار إلى إعطاء تسهيلات جديدة للمواطنين، منها تخفيضات بقيمة التصالح المقررة من الحكومة على العقارات والوحدات السكنية تتراوح بين 10 و55 % من القيم المحددة، وإتاحة سداد قيمتها على أقساط لمدة 3 سنوات بدون فوائد.
ويبدو أن تصريحات رئيس الوزراء لم تنجح في احتواء غضب الشارع المصري، الأمر الذي دفع بالرئيس عبد الفتاح السيسي إلى توجيه تحذيرات وانتقادات للمشككين بـ “قرارات الدولة وإنجازاتها”، ملوحًا بإنزال الجيش لتنفيذ قرار إزالة العقارات المخالفة إذا تمسك أصحاب المباني برفض التصالح ودفع قيمة المخالفات الموقعة عليهم[26].
هناك اختلاف بين احتجاجات 2020 و2019 في مصر من حيث المطالب والمشاركة والتوزع الجغرافي، والتي دعا إليها الفنان ورجل الأعمال المصري محمد علي المقيم حاليًا في إسبانيا عبر وسائل التواصل، فمظاهرات 2019 خرج فيها آلاف المصريين وشملت الكثير من المحافظات المصرية، وطالبت بمحاسبة الفاسدين ورحيل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وأسفرت حينها عن اعتقال المئات[27].
أما احتجاجات 2020 فكانت المشاركة فيها محدودة، لكنها واسعة النطاق[28]، ويعود ذلك إلى الاستنفار والانتشار من قبل قوات الأمن المصرية، والخوف من عمليات الاعتقال والتعذيب خلال فترة الاحتجاز، وتركزت أسبابها بشكل أساسي على الاحتجاج ضد قرارات الحكومة المصرية بإخلاء المنازل التي بُنيت بدون تصاريح رسمية، أي إنها لم تكن تستهدف السلطة ورحيل السيسي، وإنما كانت تهدف إلى حث الحكومة على التراجع عن تلك القرارات في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، لكنها تطورت لاحقًا إلى المطالبة برحيل الرئيس بسبب ردة فعل الحكومة على التظاهرات.
السخط من قرارات الحكومة والخوف من التظاهر والاعتقال دفع بالكثير من المصريين للانتقال إلى العالم الافتراضي والاحتجاج بطريقة مختلفة ضد قرارات الحكومة عبر “هاشتاغات” على وسائل التواصل الاجتماعي[29]، لتُشعل جدلًا واسعًا بين فئات مؤيدة وأخرى معارضة للرئيس عبد الفتاح السيسي، سواء من المقيمين داخل البلاد أو خارجها.
خاتمة
تتدرج الأوضاع الاقتصادية في مصر نحو الأسوأ، وسط صعود معدلات الفقر وعدم تقديم الحكومة أي حلول ممكنة لإقناع الشارع بجدوى السياسات المتخذة، سواء على الصعيد الخارجي كالديون المقترضة من صندوق النقد الدولي، أو على الصعيد المحلي كزيادة أسعار المواصلات والخبز والكهرباء، رغم ضعف القدرة الشرائية بسبب تراجع سعر صرف الجنيه أمام الدولار عقب قرار تعويم العملة وما نتج عنه من تداعيات اقتصادية، بالتزامن مع شح فرص العمل بسبب جائحة فيروس كوفيد 19.
تلك العوامل قد تؤدي إلى موجة جديدة من التظاهرات في الشارع المصري بسبب الضغوط المتتالية وارتفاع مستوى البطالة، لكن يبقى حجم أي حراك مقبل في مصر مرهونًا بمدى تقبل الناس لفكرة المشاركة فيه بالنظر إلى طريقة التعاطي الأمني مع الاحتجاجات السابقة، والتهديد بالسيناريو السوري أو اليمني أو الليبي في مصر، وبالتالي سيزداد الفقير فقرًا وستضعف القدرة الشرائية لدى شريحة كبيرة من المصريين، تحت ذريعة أن بسط الأمن مقدم على أي شيء آخر.
صحيفة الاستقلال، الدين العام في مصر.. التطور والأسباب والمستقبل
الأناضول، الدين الخارجي لمصر يصعد إلى 111.3 مليار دولار
اندبندنت عربي، رابحون وخاسرون في مصر بعد مرور 4 سنوات على “التعويم”
مبادرة الإصلاح العربي، مصر بعد فيروس كورونا: العودة إلى المربع الأول
الجزيرة، توقعات بتباطؤ نمو الاقتصاد المصري في السنة المالية 2020-2021
العين الإخبارية، فنادق الجونة تضيء بعد أسابيع من الإغلاق بضغوط كورونا
صوت الضفتين، غضب بالشارع المصري ضد وزير الكهرباء ومطالبات شعبيه بإقالته
عربي 21، احتجاج واسع بمواقع التواصل بمصر بعد تخفيض وزن رغيف الخبز
البيان، مصر تخصم 1% من مرتبات العاملين بالحكومة لمواجهة كورونا
[10] https://www.bbc.com/arabic/business-49167506
بي بي سي، معدل الفقر في مصر يرتفع إلى 32.5 في المئة من عدد السكان
الأناضول، البطالة في مصر تقفز إلى 9.2 بالمئة نهاية أبريل
أموال الغد، «المصري للدراسات الاقتصادية» يتوقع ارتفاع البطالة لـ 19% خلال النصف الثاني من 2020
مصراوي، الإحصاء: 26% من المشتغلين في مصر فقدوا عملهم نهائيًا بسبب كورونا
مصراوي، مجلس الوزراء يرد على “شائعة” جديدة بشأن التصالح على مخالفات البناء (بيان رسمي)
مصراوي، مليونان و261 ألف طلب تصالح حتى الآن .. ومدبولي: القانون لتقنين الأوضاع وحل المشكلات
اليوم السابع، التنمية المحلية تعلن 8 مليارات و600 مليون جنيه حصيلة التصالح بمخالفات البناء
عربي 21، لماذا تراجعت حكومة السيسي عن هدم المنازل وخفضت الغرامات؟
الجزيرة، هدم المنازل يجتاح القرى.. السيسي في مرمى غضب المصريين
مصراوي، التصالح قبلة الحياة الأخيرة للعقارات المخالفة.. 30 سبتمبر آخر موعد والإزالة البديل الوحيد
عربي 21، متظاهرون مصريون يمزقون صور “السيسي”.. وآخرون يحرقونها
القدس العربي، 164 احتجاجا خلال 8 أيام في مصر… ومحمد علي: مستمرون حتى إسقاط السيسي
منظمة العفو الدولية، مصر: احتجاجات نادرًا ما تحدث في الوقت الراهن جوبهت بقوة غير قانونية واعتقالات جماعية
مركز دعم التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان، تقرير وقائع القبض والاستيقاف على خلفية سياسية في مصر
هيومن رايتس وتش، مصر: يجب احترام حق التظاهر السلمي
اليوم السابع، رئيس الوزراء: قانون التصالح في مخالفات البناء ليس إجراء عقابيًا
العرب، السيسي يحاول تطويق تململ الشارع بشعار “المصلحة الوطنية”
دويتشه فيله، مصر: احتجاجات في القاهرة والإسكندرية تطالب برحيل السيسي
الحرة، “ثورة الجلاليب” في مصر تتصدر المشهد.. لماذا خرج أهل القرى وامتنعت المدن؟
دويتشه فيله، “حرب هاشتاغات” في مصر – الافتراضي أكبر من الميداني ولذلك أسباب
رابط المصدر: