أثار مشهد احتشاد إثيوبيين أمام السفارة الروسية في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا خلال الأيام القليلة الماضية العديد من التساؤلات بشأن هل هناك قوات إثيوبية تشارك في العمليات العسكرية الروسية في الأراضي الأوكرانية؟ وما هي دلالات وانعكاسات ذلك المشهد؟
رصد المشهد
انتشرت في الآونة الأخيرة صور توضح اصطفاف عدد من الإثيوبيين من الشباب وكبار السن أمام السفارة الروسية، وقيامهم بالتواصل مع أفراد أمن السفارة بهدف قبول سجلاتهم العسكرية؛ إذ يرغبون في المشاركة في العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا. وتتزايد أعداد الإثيوبيين الذي يبدون رغبتهم لمساعدة روسيا؛ إذ يتوافد 500 شخص يوميًا إلى السفارة الروسية.
وترجع هذه الزيادة إلى شائعات تم تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي بشأن استعداد روسيا لدفع ألفي دولار ثم خمسة آلاف دولار نظير تجنيد عدد من الإثيوبيين الذين لديهم خبرة عسكرية تمكنهم من الالتحاق بالقوات الروسية في عملياتها في أوكرانيا.
ولكن نجد أنه بمجرد انتشار تلك الشائعات، سرعان ما أصدرت السفارة الروسية في أديس أبابا بيانًا تنفى فيه قيام السفارة الروسية بعمليات تجنيد للإثيوبيين لصالح القوات الروسية؛ إذ أن هذا الأمر يتعارض مع القوانين الإثيوبية والروسية، وكذلك يتناقض مع اتفاقية جنيف للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 والتي تُحدد الإجراءات والضوابط الخاصة بالعمل الدبلوماسي بين الدول.
وأوضحت السفارة الروسية في أديس أبابا أن الإثيوبيين احتشدوا أمام السفارة ليعبروا عن تضامنهم مع السياسات الروسية. وقد لاقى هذا البيان ترحيبًا من جانب الحكومة الإثيوبية، فهذا البيان بمثابة رد رسمي على المزاعم التي تتحدث عن قيام البعثة الدبلوماسية الروسية في إثيوبيا بعمليات تجنيد لصالح القوات الروسية في أوكرانيا.
رؤية تحليلية
في هذا الجزء من التقرير، نُحاول تقديم رؤية تحليلية لما تم استعراضه في السابق من خلال طرح عدد من الأسئلة؛ إذ أن هناك علامات استفهام بشأن مشهد تجمع الإثيوبيين حول السفارة الروسية، هل هو مشهد عفوي؟! أي أن الإثيوبيين من تلقاء أنفسهم قرورا فعل ذلك، أم أن هذا المشهد تقف من ورائه الحكومة الإثيوبية؟
لا شك أن هناك مُحفزات دفعت الأفراد الذين توافدوا أمام السفارة الروسية؛ إذ أن الدافع في المقام الأول هو دافع اقتصادي، فالحرب الروسية الأوكرانية قد تُشكل فرصة لهم للحصول على أموال مقابل اشتراكهم في الحرب. فالمواطن الإثيوبي يُعانى من تدني مستوى المعيشة، وذلك يرجع إلى تدهور الظروف الاقتصادية جراء حرب التيجراي التي اندلعت منذ نوفمبر 2020 وجائحة كوفيد-19 وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية. وقد أدت هذه الأزمات إلى عدد من التداعيات الاقتصادية السلبية، أبرزها: تراجع قيمة العملة المحلية الإثيوبية أمام العملات الأجنبية، وارتفاع معدلات التضخم، وتزايد معدلات البطالة في البلاد، وانتشار المجاعات.
طالما أن الدافع اقتصادي، فلماذا احتشد عدد من الإثيوبيين أمام السفارة الروسية وليس أمام السفارة الأوكرانية على الرغم من طلب الرئيس الأوكراني الانضمام إلى القتال بجانبه؟ خاصة وأن هناك فرصًا اقتصادية نظير المشاركة إلى جانب القوات الأوكرانية.
في تقديرنا، نجد أن هناك تحيزًا إثيوبيًا لروسيا في هذه الأزمة بشكل غير مباشر، ويُمكن التدليل على ذلك بأن الحكومة الإثيوبية ربما قد أعطت الضوء الأخضر وسمحت بتجمهر عدد من الإثيوبيين أمام السفارة الروسية، وكذلك أتاحت للوكالات الإعلامية الغربية فرصة نقل ذلك المشهد، على الرغم من تعنت الحكومة الإثيوبية تجاه وسائل الإعلام وإعاقة عملهم في الداخل الإثيوبي، وهو ما يعني ضمنيًا دعم إثيوبيا لروسيا في حربها ضد أوكرانيا.
ونضع في الحسبان كذلك أن روسيا قد دعمت الحكومة الإثيوبية برئاسة آبى احمد في أزمة تيجراي، وقد اتضح ذلك في قيام روسيا بإجهاض قرار لمجلس الأمن بشأن إنهاء أعمال العنف التي ترتكبها الحكومة الإثيوبية في إقليم تيجراي على اعتبار أن ذلك شأن داخلي وليس شأن الأمم المتحدة. وأبدت موسكو موقفًا يميل نسبيًا إلى الموقف الإثيوبي عند طرح أزمة سد النهضة في مجلس الأمن الدولي بالحديث عن أهمية المشروع الاقتصادية والاجتماعية للإثيوبيين في نفس الوقت الذي تفهمت فيه موقف دولتي المصب (مصر والسودان) من ملء وتشغيل السد.
وساندت روسيا إثيوبيا كذلك في أزمة سد النهضة، حيث أعرب مندوب روسيا في مجلس الأمن عن موقف بلاده الذي يكشف عن التوافق الروسي مع الرؤية الإثيوبية بشأن سد النهضة، حيث تعترف روسيا بالأهمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمشروع سد النهضة، والذي يسهم في توفير الكهرباء للملايين الذين يعيشون في إثيوبيا.
واتصالًا بما سبق ذكره، عندما نرصد الموقف الرسمي الإثيوبي تجاه الحرب الروسية الأوكرانية الجارية، نجد أن الحكومة الإثيوبية تلتزم سياسة الحياد دون الانحياز لطرف ضد الطرف الآخر، فقد اتضح ذلك من خلال دعوة رئيس الوزراء الإثيوبي آبى أحمد جميع أطراف الأزمة الأوكرانية إلى ممارسة ضبط النفس والامتناع عن أي أفعال قد تزيد التوترات، وتغيبت إثيوبيا عن جلسة الأمم المتحدة بشأن التصويت على قرار من شأنه إدانة روسيا لانخراطها في الحرب ضد أوكرانيا، ويُمكن قراءة امتناع إثيوبيا عن التصويت لرغبتها في توزان العلاقات بين روسيا والغرب. وفى التقدير، أن السياسة الإثيوبية الرسمية تتسم بعدم الانحياز، ولكن السياسات الفعلية تكشف عن تحيز إثيوبيا بشكل غير مُباشر لصالح روسيا في الحرب.
وفى الختام، نُحاول الإجابة على التساؤل الذي تم طرحه في البداية بشأن هل هناك قوات إثيوبية تشارك في الحرب الروسية الأوكرانية؟، نجد أن الإجابة وفقًا للمصادر الرسمية الروسية والإثيوبية تفيد بعدم اشتراك قوات إثيوبية في العمليات العسكرية الروسية، ولكن يمكن قراءة مشاهد احتشاد عدد من الإثيوبيين أمام السفارة الروسية في ضوء أحد احتمالين، الأول هو وجود مساعي لإثيوبيين بالفعل للانضمام إلى القوات الروسية في عملياتها العسكرية في أوكرانيا، خاصة مع وجود خبرات قتالية لهم جراء الحرب في إقليم تيجراي والأوضاع المعيشية الصعبة التي يواجهونها، ووجود مؤشرات لرغبة إثيوبية في دعم روسيا في الحرب مع نفي ذلك في البداية كما حدث بشأن إشراك قوات إريترية في الحرب في تيجراي.
أما الاحتمال الثاني فهو أن يكون مشهد تزاحم عدد من الإثيوبيين أمام السفارة الروسية مشهدًا استعراضيًا يهدف إلى إرسال رسالة إلى الولايات المتحدة الأمريكية مفادها أن هناك تضامنًا إثيوبيًا على المستويين الرسمي والشعبي مع السياسات الروسية، وبالتأكيد أن هذا سيشكل انزعاجًا للإدارة الأمريكية، حيث أن روسيا قد استغلت توتر العلاقات الأمريكية-الإثيوبية على خلفية الانتهاكات الإثيوبية في إقليم تيجراي لتوثيق علاقاتها بالجانب الإثيوبي، فضلًا عن أن هذا التقارب الروسي الإثيوبي سيشكل ضغط بشكل غير مباشر على الإدارة الأمريكية للتفكير في التراجع عن العقوبات التي فرضتها على الحكومة الإثيوبية.
.
رابط المصدر: