جاءت التطورات الأخيرة في سوريا بسقوط نظام بشار الأسد –بعد عقد من الدعم الروسي للنظام السوري– لتُشكّل ضربة قاسية للمشروع الروسي في الشرق الأوسط. خاصةً وأن نظام الأسد كان بمثابة حجر الزاوية في الاستراتيجية الروسية التي بدأت بتدخلها العسكري عام 2015 لتعزيز نفوذها الدولي، وتثبيت قواعدها الاستراتيجية في المنطقة. ومع انهيار النظام، تواجه موسكو انتكاسة سياسية وعسكرية، خاصةً مع تصاعد عدم الاستقرار، ما قد يطرح تساؤلات حول مستقبل النفوذ الروسي في سوريا ومصير قواعدها العسكرية الحيوية.
وعلى الصعيد الآخر، ألقت الحرب في أوكرانيا بظلالها على الأولويات الروسية، مُعيدَة تشكيل خارطة الاهتمامات داخل الكرملين. فرغم محاولات موسكو التقليل من حجم الخسائر في سوريا، تبدو رسالة الكرملين واضحةً بأن الصراع في أوكرانيا هو المعركة الأهم بالنسبة لروسيا، باعتباره يمس أمنها القومي بصورة مباشرة. ويتطرق هذا التقرير للإجابة على عدد من الأسئلة المهمة، من بينها: هل يمثل سقوط الأسد نهاية المشروع الروسي في الشرق الأوسط؟ وكيف ستؤثر هذه الانتكاسة على مكانة روسيا إقليميًا ودوليًا في ظل تركيزها على الحرب الأوكرانية؟
الدعم الروسي للأسد
شكّل التدخل العسكري الروسي في سوريا عام ٢٠١٥ نقطة تحول رئيسية في الحرب الأهلية السورية، حيث اتخذت موسكو من دعم نظام بشار الأسد وسيلة لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط. وقد تعددت أهداف هذا التدخل، لعل أبرزها ما يتمثل في مواجهة النفوذ الغربي، وضمان استمرارية النظام الحليف لها، وتأكيد حضور روسيا كقوة عالمية قادرة على التدخل خارج حدود الاتحاد السوفييتي السابق.
في الوقت نفسه، لعبت القواعد العسكرية الروسية في سوريا، مثل قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية، دورًا محوريًا في الاستراتيجية الروسية، حيث مثّلت بوابة استراتيجية لموسكو في شرق المتوسط وإفريقيا. وهذه القواعد لم تكن فقط مراكز عمليات لدعم النظام عسكريًا، بل امتدت أهميتها إلى تعزيز حضور روسيا الجيوسياسي، مما منحها أوراق ضغط إضافية في مواجهة القوى الغربية.
ومن منظور أوسع، كان بشار الأسد رمزًا لمشروع الكرملين الطموح لتثبيت قدمه في المنطقة. إلا أن انهيار النظام السوري المفاجئ في 8 ديسمبر 2024، بعد سنوات من الدعم الروسي المكثف، كشف عن تحديات هذا المشروع. وتزامن ذلك مع انشغال روسيا بحرب أوكرانيا وتصاعد الضربات الموجهة ضد حلفاء الأسد كإيران وحزب الله، فأصبحت موسكو عاجزة عن حماية النظام، مما مثّل انتكاسة استراتيجية كبيرة قد تُعيد خلط الأوراق الروسية.
السقوط المفاجئ
شهد نظام بشار الأسد انهيارًا مفاجئًا بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية التي أنهكت سوريا. وقد يُعزى ذلك لعدد من الأسباب، منها:
- أولًا: أسباب داخلية؛ إذ تفكك الجيش السوري بسبب استنزاف القوى البشرية وضعف المعنويات، إلى جانب الأزمة الاقتصادية والفساد الذي ضرب صفوفه. كما لم تفلح محاولات النظام دعم قواته بزيادة الرواتب في مواجهة موجة الانشقاقات والتهرب من التجنيد.
- ثانيًا: أسباب خارجية؛ حيث لعب انشغال روسيا بحرب أوكرانيا، وتراجع الدعم الإيراني وحزب الله، دورًا حاسمًا في ترك النظام معزولًا وغير قادر على الصمود أمام تقدم المعارضة.
- ثالثًا: دور التنظيمات المسلحة؛ لعبت التنظيمات المسلحة السورية بقيادة هيئة تحرير الشام دورًا محوريًا في إسقاط النظام، حيث نظمت هجومًا واسع النطاق بدأ من إدلب وانتهى بالسيطرة على دمشق خلال أسابيع. كما استغلت المعارضة تراجع الدعم الخارجي للنظام وضعف دفاعاته، ما ساهم في سقوط المدن الرئيسية دون مقاومة تُذكر. في الوقت نفسه، ساهم المجتمع الدولي في تسريع الأحداث من خلال الضغط المستمر على حلفاء الأسد وتوجيه ضربات موجهة لحزب الله وإيران، ما أضعف محور المقاومة وأجبرهم على إعادة ترتيب أولوياتهم.
ومن ثم جاء فرار بشار الأسد إلى موسكو ليُجسّد نهاية حليف استراتيجي لطالما اعتمدت عليه روسيا لتثبيت نفوذها في الشرق الأوسط. ويرى البعض أن هذا الانهيار المفاجئ، بلا شك، سيُشكّل ضربة لمشروع الكرملين الطموح في المنطقة. ويُثير تساؤلات حول مستقبل القواعد العسكرية الروسية في سوريا ومصير التحالفات الإقليمية.
الانتكاسة الروسية
مثّل سقوط نظام بشار الأسد في سوريا انتكاسة كبيرة للمصالح الروسية في الشرق الأوسط. فبعد سنوات من الدعم العسكري والسياسي، وجدت موسكو نفسها عاجزة عن منع هذا الانهيار السريع. وقد عزز التدخل الروسي عام 2015 نفوذ الكرملين، وكرّس قواعده العسكرية في حميميم وطرطوس كرموز استراتيجية لعودة روسيا إلى المسرح الدولي. لكن مع انهيار الأسد، تتعرض هذه الإنجازات للخطر، حيث باتت القواعد الروسية في سوريا مهددة وسط حالة عدم الاستقرار وغياب الحليف الذي حافظ على وجودها.
ولم تقتصر الخسائر العسكرية والاستراتيجية على فقدان النفوذ في سوريا، بل تعدّت ذلك لتلقي بظلالها على صورة روسيا كقوة عظمى. فبينما انشغل الكرملين بحربه في أوكرانيا، أدى تراجع الدعم الروسي للنظام السوري إلى تقويض مشروع موسكو في ترسيخ قوتها خارج حدود الاتحاد السوفييتي السابق. وقد يُنظر إلى سقوط الأسد كرمز لإخفاق روسيا في تحقيق استقرار دائم في المنطقة، خاصة وأن مواردها الضخمة لم تمنع هذه النهاية المفاجئة.
وعلى صعيد واسع، فإن سقوط الأسد قد يضعف هيبة روسيا ويُثير علامات استفهام حول قدرتها على حماية حلفائها في ظل تركيزها على الأولويات الداخلية والخارجية. ومن جانبه، حاول الإعلام الروسي التقليل من حجم الانتكاسة، معتبرًا أن ما حدث نتيجة إخفاق الجيش السوري، إلا أن الرسالة التي تلقتها الدول الحليفة تبدو واضحة: أن “دعم موسكو ليس ضمانًا للبقاء”.
أولوية أوكرانيا..وتبريرات الكرملين
مع سقوط نظام الأسد في سوريا، ركز الكرملين جهوده الإعلامية على تحويل الأنظار نحو الصراع في أوكرانيا باعتباره الأولوية القصوى لأمن روسيا القومي. وقد شددت الرسائل الرسمية على أن الموارد العسكرية والاقتصادية يجب أن تخدم حماية المصالح الروسية المباشرة، مما يبرر تراجع الدعم لنظام الأسد. ويهدف هذا الخطاب بالأساس إلى طمأنة المواطنين الروس بأن استقرار الجبهة الأوكرانية يأتي على حساب الانخراط في صراعات أخرى أقل أهمية، في محاولة لتخفيف وقع الانتكاسة في سوريا.
في سياق البحث عن تبريرات داخلية، وجه الإعلام الروسي انتقادات للجيش السوري، محملاً إياه مسؤولية السقوط السريع للنظام. ووفقًا للرواية الروسية، فإن الفساد وسوء الإدارة العسكرية كانا وراء انهيار الدفاعات أمام هجمات المعارضة. تهدف هذه الاستراتيجية إلى تحويل اللوم بعيدًا عن موسكو وتقديمها كقوة ملتزمة بدعم حلفائها، ولكن ضمن حدود إمكاناتها، مما يخفف من الضغوط على القيادة الروسية.
ورغم الانتكاسة، يحاول الكرملين التكيف مع التحولات الإقليمية من خلال التركيز على حماية مصالحه الاستراتيجية المتبقية في المنطقة، مثل قاعدتي حميميم وطرطوس. وفي هذا السياق، أكدت التصريحات الروسية أن هاتين القاعدتين ستظلان ركيزة للوجود الروسي في الشرق الأوسط، رغم فقدان الأسد كحليف. ومع ذلك، تفرض هذه التطورات تغيرًا في قواعد اللعبة بالنسبة لموسكو، حيث بات عليها إعادة صياغة سياستها الخارجية للتعامل مع مرحلة جديدة من التحديات.
استشراف المستقبل
مع سقوط نظام الأسد، تواجه موسكو تساؤلات حول قدرتها على الحفاظ على نفوذها في الشرق الأوسط وسط انشغالها بالحرب في أوكرانيا. في هذا السياق، قد تُجبر التطورات الأخيرة روسيا على تقليص طموحاتها الإقليمية وإعادة تقييم أولوياتها. لكن، من غير المرجح أن تتخلى روسيا عن موطئ قدمها بالكامل، حيث تظل قاعدتا حميميم وطرطوس رمزين رئيسيين لاستراتيجيتها طويلة الأمد في المنطقة.
وفي مواجهة هذا التحدي، لا تملك موسكو رفاهية الخيارات المفتوحة بشكل كامل، وقد نشهد في الأيام القادمة قيام روسيا بتعزيز تحالفاتها مع قوى إقليمية أخرى، كتركيا، أو محاولة بناء شراكات جديدة لتعويض خسائرها، خاصة من خلال بناء شراكات جديدة واتباع سياسة برجماتية مع قوى المعارضة السورية لتأمين مصالحها.
وختامًا، يبدو أن سقوط نظام الأسد يمثل نهاية حقبة مهمة في السياسة الروسية في الشرق الأوسط، حيث خسرت موسكو أحد حلفائها الاستراتيجيين، وباتت تواجه تحديات كبيرة للحفاظ على نفوذها العسكري والدبلوماسي في المنطقة. لكن هذه الانتكاسة قد تكون أيضًا بداية لمرحلة جديدة في السياسة الروسية، حيث يتعين على الكرملين إعادة تقييم استراتيجياته وتحديد أولوياته بين الأزمات الداخلية والخارجية، مع التركيز على تعزيز تحالفات جديدة وتكييف سياساته الإقليمية بما يتناسب مع التحولات المتسارعة في المنطقة