سيناريوهات التحرك الإيراني لدعم “محور المقاومة” بعد سقوط “الأسد”

مثّل سقوط نظام الرئيس السوري السابق، بشار الأسد، مفاجأة للنظام الإيراني وإرباكًا لحساباته الإقليمية في الوقت نفسه. فقد كان نظام الأسد قناة الاتصال الرئيسة والناقل للمهمات اللوجستية من إيران إلى لبنان، حيث “حزب الله”، أهم ذراع مسلح لإيران فيما يخص معادلة الصراع مع إسرائيل ويدها التي كانت تستغلها في نزاعاتها مع بعض دول الإقليم، بل وفي علاقاتها مع القوى الكبرى وأهمها الولايات المتحدة الأمريكية.

لذا، فإن انهيار النظام في دمشق شكّل ثاني أهم ضربة استراتيجية قوية للنفوذ الإيراني في المنطقة بعد تدمير إسرائيل لأغلب القدرات العسكرية لـ “حزب الله” في حربها الأخيرة خلال العام الجاري، ما يجعل التقديرات تذهب على الأغلب إلى أن إيران قد تحاول إعادة تقوية جماعات ما يسمّى بـ “محور المقاومة” في المستقبل؛ نظرًا لدورها المحوري في طبيعة السياسات الإقليمية الإيرانية، وإيجاد بدائل لسقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر 2024. وفي ضوء ذلك، نتناول فيما يلي أبرز السيناريوهات المحتملة أمام طهران لتعويض وإيجاد بدائل لسقوط نظام الأسد في دمشق ومواصلة دعم ما يُطلق عليه “محور المقاومة”؛ الذي توظفه طهران بالأساس لمصالحها الاستراتيجية.

مثّل النظام السوري السابق ذخرًا استراتيجيًا للنظام الإيراني ومشروعه في الشرق الأوسط. فقد كان النظام السوري حليفًا سياسيًا قويًا لطهران في مواقفها وصراعاتها الإقليمية لعقود. وكانت أولى هذه الاختبارات قد تبلورت في وقوف دمشق إلى جانب إيران في حرب الثماني سنوات مع العراق (1980 – 1988)، فقد كانت سوريا الدولة العربية الوحيدة التي دعمت إيران بشكل واضح وواسع كانت من أبرز أشكاله قطع خطوط الأنابيب التي تمتد لأوروبا والتي كانت تدر على النظام السوري آنذاك دخولًا مالية كبيرة، إلا أن دمشق قد تخلت عن هذا من أجل دعم طهران.

واستمر التحالف السياسي بين نظامي طهران ودمشق خلال السنوات التالية، والتي تمثلت في دعم سياسي متواصل من جانب سوريا لإيران في مواقفها السياسية المختلفة في المنطقة وعلى المستوى الدولي أيضًا، خاصة في مواجهة ما كانوا يوصَفون قبل سنوات قليلة بـ “خصوم طهران” الإقليميين.

ومن ناحية أخرى، شكّل نظام الأسد الحلقة الأهم في سلسة اتصال جماعات ما يُسمى بـ “محور المقاومة”، الذي ترعاه إيران في منطقة الشرق الأوسط منذ أكثر من 40 عامًا، الممتدة من إيران إلى جنوب لبنان. فقد ساعد النظام السوري السابق في نقل الأسلحة واللوجستيات الخاصة بـ” حزب الله” اللبناني، أي أنه كان حلقة الاتصال الأساسية الناقلة لهذا العتاد التسليحي والمالي وغيره من إيران إلى “حزب الله” في لبنان، وهو الوكيل الإقليمي الأهم لطهران؛ نظرًا لموقعه الجغرافي المحاذي لإسرائيل

وخلال السنوات العشر الماضية، لم تكن سوريا حلقة اتصال فقط وناقل أو حليف سياسي للنظام الإيراني، بل امتد النفوذ العسكري الإقليمي لطهران من العراق إلى أن شمل سوريا، التي باتت معقلًا مهمًا خلال السنوات الأخيرة، التي شهدت فيها حربًا أهلية، عبر حضور وانتشار عشرات الميليشيات المسلحة الإيراني في التراب السوري إلى أن أصبحت إيران المنافس الإقليمي والدولي الأهم للقوى الخارجية الحاضرة عسكريًا في سوريا، وهو ما أكسبها في الوقت نفسه تأثيرًا على صناعة القرار في دمشق.

وعليه، فإن انهيار هذا النظام السوري يعني من ناحية رحيل حليف سياسي كان قبل اندلاع الحرب الأهلية قويًا على هذا الصعيد إقليميًا، ومن ناحية أخرى يعني كذلك فقدان إيران لحلقة الاتصال الأكثر أهمية في المنظومة التي ترعاها طهران والخاصة بما يُسمى بـ “محور المقاومة”، وعدم قدرتها بالتالي على نقل الأسلحة واللوجستيات اللازمة لـ “حزب الله” اللبناني من العراق إلى سوريا إلى لبنان، فضلًا عن فقدانها القدرة أيضًا على تهديد إسرائيل من الجنوب السوري عبر الوكلاء المسلحين الكُثُر الذين كانوا منتشرين في الأراضي السورية، وأهمهم جماعات الحرس الثوري ذاتها التي لطالما استهدفتهم إسرائيل بشكل متتابع ومكثف خلال الأشهر الأخيرة على وجه الخصوص.

وفي الوقت نفسه أيضًا، فإن انهيار نظام الأسد مثّل انتكاسة قوية لحضور إيران العسكري إقليميًا؛ مع رحيل الجماعات المسلحة المتعددة التي كانت حاضرة على الأراضي السورية بعد اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، وهي جماعات شكلتها إيران من شيعة أفغانستان وباكستان ومن العراق أيضًا وبعض الجنسيات الأخرى. لذا، فإن انهيار نظام الأسد قد أعاد النفوذ الإيراني الإقليمي سنواتٍ طوال إلى الوراء ويهدد بانحسارها الشديد مستقبلًا.

يبدو أن إيران بعد سقوط الأسد تريد التسليم إلى هدنة لبعض الوقت لإعادة لتفكير في مستقبل التحرك في إطار “محور المقاومة”، وذلك من حيث دوره وتشكيله، ومن ثم كيفية “إعادة بنائه وهندسته” بعد رحيل الأسد عن السلطة في دمشق. فقد أكد مختلف القادة العسكريين والسياسيين الإيرانيين في طهران خلال الأيام الأخيرة التي تلت سقوط الأسد استمرار مشروع طهران الاستراتيجي الخاص بـ “محور المقاومة”، مؤكدين أن ذلك الأخير سوف يواصل “طريقه” وأن إيران سوف تعيد تشكيله من جديد من دون الأسد.

وقد أكد على هذا الاستمرار المرشدُ الإيراني، علي خامنئي، وقادة الحرس الثوري الآخرين وأهم حسين سلامي، وذلك في الوقت الذي تتردد فيه كثيرًا على ألسنة القادة العسكريين في إيران عبارة “استمرار محور المقاومة من دون الأسد” الذي وجّهت إيران إليه اللوم على “عدم الاستماع لنصائحها” وأن ذلك هو ما تسبب في سقوط النظام، ما يؤكد على عزمهم مواصلة تحركات وأنشطة هذه الجماعات المنضوية تحت ما يُسمى بـ “محور المقاومة” خلال الفترة القادمة.

ويبدو في الوقت ذاته أن هناك نقاشات أو اختلافات في الرؤى بين قادة الحرس الثوري حاليًا بشأن مستقبل “محور المقاومة” بعد سقوط الأسد، وهو ما تشير إليه تقارير محلية عدة، ولكنها نقاشات تؤكد على أي حال أن النظام الإيراني سيحاول “إعادة بناء” ما يُسمى بـ” محور المقاومة” من جديد ولكن من دون الأسد. وتعود أسباب هذا السعي المحتمل للغاية من جانب إيران إلى توظيف هذه الأخيرة لتلك الجماعات لأغراض جيوسياسية واستراتيجية لا يمكن بالنسبة لها الاستغناء عنها؛ حيث ترى إيران، من إحدى زوايا المشهد، أن أنشطة هذه الجماعات تمثل خط الدفاع الأول عن “الأمن القومي” الإيراني أو عن إمكانية استهداف الخصوم لبقاء النظام الإيراني نفسه، ما يعني أن هذه الجماعات “لا يمكن الاستغناء عنها بالنسبة لطهران” إلا مع توافر بديلين يصعب تحقيقهما وهما تطبيع العلاقات الإيرانية مع الغرب بشكل كافٍ أو توصل إيران لقنبلة نووية.

وفي ضوء ذلك، نتطرق فيما يلي لأبرز السيناريوهات المحتملة التي قد تتبناها إيران خلال الفترة المقبلة من أجل “إعادة تعزيز قدرات محور المقاومة” الذي ترعاه، وذلك بعد سقوط نظام الأسد في سوريا، وذلك على النحو التالي:

1-تعزيز قدرات الجماعات الوكيلة الأخرى الممثلة في “الحوثيين” والفصائل العراقية بشكل غير مسبوق: 

يبدو أول السيناريوهات المحتملة أمام إيران، فيما يتعلق بإعادة تنشيط جماعات ما تُسمى بـ “محور المقاومة” هو تعزيز قدرات جماعة “الحوثيين” في اليمن والفصائل المسلحة الأخرى الموالية لإيران في العراق. وفي ظل القيود التي قد تواجهها الفصائل في العراق خلال السنوات أو الأشهر المقبلة، سواء من الداخل من قِبل الحكومة العراقية فيما يخص إمكانية توظيف إيران لها ضد إسرائيل والمصالح الأمريكية في المنطقة أو ما يتعلق باحتمالية استهداف إسرائيل لهذه الجماعات مع قربها الجغرافي نسبيًا معها، فإنه يُعتقد أن طهران قد تتجه لاستبدال ورقة “حزب الله” اللبناني بـ “الحوثيين” في قادم الأيام، وذلك في صراعها مع إسرائيل، خاصة مع إمكانية تهديد الحركة للملاحة الدولية في البحر الأحمر أو غيره، ما يكسبها أوراق ضغط إضافية مقارنة بالفصائل العراقية. كما سيعزز من هذا السيناريو الحصار الذي سيواجه “حزب الله” اللبنانية بعد سقوط الأسد من جانب إسرائيل التي ستراقب أي نقل للأسلحة من إيران أو الخارج بوجه عام إلى ذلك الوكيل الإيراني.

2-تعزيز القدرات العسكرية للجيش والحرس الثوري الإيرانيين أو امتلاك قنبلة نووية: 

من المتوقع بشدة أن تتجه إيران خلال الفترة القادمة إلى تعزيز القدرات العسكرية لجيشها وللحرس الثوري إلى طاقتها القصوى الممكنة؛ وذلك لإحساسها باقتراب “التهديدات” منها؛ بعد الضربات الموجعة والمؤثرة للغاية التي تلقتها جماعات “محور المقاومة” في المنطقة، من حيث تراجع قدرات “حزب الله” اللبناني إلى الحد الأدنى منذ عقود وسقوط نظام بشار الأسد في دمشق. ويطرح هذا السيناريو أيضًا خيارًا آخر وهو احتمالية توجه طهران لامتلاك قنبلة نووية أو أسلحة غير تقليدية “رادعة”.

ومع ذلك، فإنه وعلى الرغم من إمكانية تحقق الشق الأول من هذا السيناريو، إلا أن توجه طهران لامتلاك قنبلة وسلاح نووي لن يكون بالأمر السهل مطلقًا؛ وذلك لأن القوى الغربية وإسرائيل لن يسمحوا بحدوث هذا الأمر، خاصة مع اقتراب تنصيب الرئيس المنتخب الجمهوري، دونالد ترامب، في 20 يناير 2025؛ إذ إن ترامب يُعد من أشد المعادين لنظام طهران ولبرنامجها النووي على وجه الخصوص، وبدا خلال الفترة الماضية بعد رحيله عن البيت الأبيض في 2021 أنه أكثر تأييدًا لاستخدام العمل العسكري ضد برنامج طهران النووي، وهو ما أكد عليه صراحة في حثه لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية في الضربة الإسرائيلية الأخيرة ضد طهران في أكتوبر الماضي.

3-احتمالية سعي إيران لإيجاد منفذ وحضور لها في المستقبل داخل سوريا:

تشير بعض التصريحات الرسمية الإيرانية إلى أن طهران قد تحاول إيجاد موطئ قدم لها في المستقبل داخل سوريا، وذلك إما عن طريق التماهي مع الإدارة الجديدة التي ستحكم سوريا أو بشكل غير مباشر عن طريق تشكيل جماعات مسلحة من الشيعة داخل سوريا؛ إذ، قد تستخدم إيران ورقة وجود بعض الشيعة في سوريا في المستقبل لتبرير أي علاقة أو حضور لها هناك، وقد يشجعها على ذلك وجود حدود للعراق مع إيران يمكن أن تستغلها الفصائل العراقية الموالية لطهران.

ومع ذلك، لا يبدو هذا السيناريو ممكنًا، في ظل تأكيد الفصائل المسلحة التي سيطرت على الحكم في سوريا على عدم السماح بوجود ميليشيات لإيران أو أي جماعات أجنبية مسلحة داخل سوريا، وهو ما يبرز بوجه عام توجهاتهم في المستقبل بشأن طهران على وجه التحديد. وفي الوقت نفسه، لا يبدو أن إسرائيل سوف تتسامح مع أي وجود أو انتشار لجماعات موالية لإسرائيل في سوريا في قادم الأيام، وهو ما أشار إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي صراحة.

الاستنتاج، مكن أن نستنتج مما سبق أن الخيارين المحتمل أن تتبناهما طهران لإعادة إحياء ما يُسمى بـ “محور المقاومة” بعد سقوط الأسد في سوريا هما تعزيز قدرات بقية الجماعات المسلحة الوكيلة لها في المنطقة، وهما على وجه التحديد “الحوثيين” في اليمن والفصائل الأخرى في العراق. وفي الوقت نفسه، يرجح أن تعمل إيران على تقوية قدرات جيشها وحرسها الثوري بشدة خلال الفترة المقبلة، أو حتى تسريع عملية إنتاج القنبلة النووية، فيما لا يُتوقع أن يعود النفوذ العسكري الإيراني مرة أخرى إلى سوريا.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M