مقدمة : –
إنّ تصدّر فنّ التّحريك العربي والإفريقي واجهة المشهد العالمي يُفسّر في –في جزء كبير منه- بتجدّد الاهتمام والرّغبة في اكتشاف هذه المجتمعات منذ الاستفاقة الشّعبيّة لسنة 2011. بالرّغم من لفت النّظر إليه أو حصوله على تتويجات في المهرجانات الأكثر شهرة (انيسي، كان والبارلينال)، وبالرغم من كونه موضوع تظاهرات ثقافية حصريّة فانّه نادرا ما يتم التطرّق اليه كموضوع بحث بمقاربة كليّة. وهو غالبا ما يعتبر منتجا ثقافيا يلقي الضّوء على التحوّلات الكبرى والطّفرات الاجتماعيّة والسياسيّة في المنطقة اذ لا تزال البحوث في مجال دراسات فنّ التّحريك المتّصلة بالفضاء الثّقافي العربي وخاصّة في القارة الافريقيّة في أولى أطوارها، كل هذا رغم نهضة هذا النّوع والطّفرة الانتاجية اللّتان رافقتا الثّورة التّكنولوجيّة والرّقميّة منذ بداية القرن الحالي. تمّ تحرير ممارسة هذا التّعبير الفنّي والتّقنية الفنيّة من القيود الماديّة والماليّة الخاصّة بهذا النّوع (كامرا، آلة عرض، شريط، الخ) عبر “دمقرطة” الوسائل الرّقميّة.
وقد لاحظت مورين فورنيس (2007) هذه الوضعيّة الهامشيّة لسينما التّحريك في الجامعة مقارنة بنظيرتها “الاخرى” أي السينما الى حدود نهاية الثّمانينات1980 (وهذا بالنّسبة الى المثال الأمريكي). سلّطت الكاتبة الضوء على سياق ظهور دراسات فنّ التّحريك في الولايات المتّحدة وفسّرته من جهة بتأثير تيّار ما بعد الحداثة على دراسات الميديا والذي اضفى مشروعيّة على دراسة الأشكال الشّعبيّة للفنّ والتّرفيه (التي اعتبرت خطأ أقلّ “جديّة”) ومن جهة أخرى بضرورة توثيق وترسيخ الذّاكرة الزّائلة لهذا الفنّ.
ومن المفارقات أنّ الإنتاجات السينمائية التّجاريّة المهيمنة على الشّاشات الصّغيرة والكبيرة هي التي تحشد الخطابات والكتابات حول هذا النّوع.
إنّ الإنتاجات السينمائية الحكوميّة على غرار فنّ التّحريك الكندي الذي تمّ دعمه بشكل رئيسي من قبل الديوان الوطني للفلم، أو الإنتاجات السينمائية لشّرق اروبا التي تحظى بوضعيّة مميّزة من طرف الأنظمة الاشتراكيّة (مقارنة ببلدان أخرى) تجد نفسها على هامش الأدبيات الدّائرة على فنّ التّحريك رغم أنّها لا يُعوِزُها “البروز”: الاعتراف الدّولي، الجوائز والتّكريمات في المهرجانات (س. باهون :2014، بيكوف: 2019 م، جان:2008).
لم تزل الإنتاجات السينمائية لفن التّحريك في افريقا والعالم العربي تجد نفسها على هامش الهامش في الدّراسات الفيلمية ودراسات فنّ التّحريك. بالرغم من ذلك فانّ منشأ الفلم في هذه الفضاءات الثقافية والجغرافية يعود الى بداية القرن الماضي، اذ انّ واحدا من اول افلام فنّ التّحريك في القارّة تمّ انجازه في1915 في جنوب افريقيا من قبل الأمريكي هارولد شاو “حلم الفنّان”(بندازي،2015). كما انّ فنّ التّحريك المصري رائد في افريقيا والعالم العربي بسلسلة الرّسوم المتحّركة “مشمش أفنديّ” للأخوين فرنكل المهاجرين البلاّروسيين في مصر، حيث كان أوّل عمل ابداعي لهما في1936. وستُعقب هذه التّجربة في 1940 ب”دكدك” الذي أنجزه المصري انطوان سليم ابراهيم الذي هاجر في سنوات السبعينات1970 الى الولايات المتّحدة اين التحق باستوديو (حنّا باربرا) باعتباره فنّان تحريك. وخلال عشريّة السّتينات 1960 نال عدد لا بأس به من هذه الشّعوب استقلاله ووافق ذلك ميلاد السّينما الافريقيّة و العربيّة.
أسّس الأخوان مهيب المجازان من مدرسة القاهرة للفنون الجميلة في1961 قسما لفنّ التّحريك بالتّلفزيون المصري(غزالة،2021). كما أنجز الرسّام الكاريكاتوري عصامي التّكوين محمد عرام افلام قصيرة لفنّ التّحريك للتّلفزيون الجزائري اذ سيّر قسم فنّ التّحريك الذي تأسّس في1964 بالمركز الوطني للسينما. وفي السنة نفسها 1965 تمّ إنجاز اوّل الافلام الافريقيّة: “موت غانجي” من قبل النّيجيري مصطفى الحسن اثناء اقامته الدّراسيّة بالديوان الوطني للفلم (كندا) و”العودة الى مقاعد الدّراسة” من قبل التّونسي منجي سانشو في إطار جمعياتي (جمعيّة المخرجين الشّبان التّونسيين) التي اصبحت في1968 الرابطة التّونسيّة للسينمائيين الهواة. ذهب منجي سانشو الى شرق اروبا سنة 1967 وتحديدا الى بلغاريا (بن عيّاد،2019) لإتمام دراسته. وهو شأن عدد كبير من روّاد فنّ التّحريك التّونسيين وكذلك رواد فنّ التّحريك في بلاد الشّام فقد أنجز الرسّام الكاريكاتوري السّوري موفّق قط المُجاز من معهد جيراميسوف للسينماتوغرافيا في 1982 اوّل فلم تلفزي لفن التّحريك السّوري “جحا في المحكمة” في1985، وأنجز المخرج العراقي فيصل الياسري الحاصل على شهادة في الاخراج التّلفزي من فيانا والذي كان مخرجا في تلفزيون ألمانيا الشّرقية(جمهوريّة المانيا الدّيمقراطيّة سابقا) في نهاية الخمسينات1950 وبداية السّتينات أوّل فلم عربي طويل لفنّ التّحريك “الأميرة والنّهر” سنة 1982 .
وفي اواخر الثمانينات1980 أسّس الكونغولي ورائد فلم التّحريك جان ميشال كيبوشي المجاز في دراسات التّصوير السينمائي من المعهد الوطني للفنون في كينشاسا وبعد ان تابع تكوينا في فنّ التّحريك تابعا للشركة البلجيكيّة ورشة قارفوي اسّس استوديو فيلم التّحريك مالمبي ما. بالإضافة الى انتاج اعمال المخرج، ينظّم الاستوديو المتنقّل ورشات عمل موجهة للشّباب. فقد كان الهدف التّرويج لفنّ التّحريك بما هو امتداد طبيعيّ للأشكال والتّراث الثّقافي الكونغولي (كاليس،2010). وفي الفترة نفسها، في 1989 انجز المالي مامباي كوليبالي “ملحمة سيغو” وهو على حدّ علمنا الفلم الاوّل من نوعه في البلاد.
انّ فيلم التّحريك العربي والافريقي رغم كونه غير معروف بالقدر الكافي الى حدّ اليوم قد سجّل حضوره بجدارة في التّاريخ العالمي لفنّ التّحريك. ومع ذلك على الرغم من ظهوره في اوقات مختلفة في هذه المنطقة الشّاسعة، الاّ انّ نشأته وتطوّره قد تأثّرا بقوّة بالأممية القاريّة الثلاثية وبالحركات القومية الافريقية والعربيّة في ستينات وسبعينات القرن الماضي. ولأنها ملتقى للثقافتين الافريقيّة والعربيّة وباعتبار مهرجان أيام قرطاج السينمائية (1966) مثّلت العاصمة التونسيّة خلال هذين العقدين مع فيسباكو(1969) في واغادوغو في بوركينافاسو فضاءات للتّفكير والنّقاش حول الدور البيداغوجي والفني لهذه الصّناعة في رفع درجة الوعي في “بلدان الجنوب”. فما هو حال هذا الارث اليوم في عصر العولمة؟
الهدف الاوّل لهذا المؤتمر، الى جانب تجديد الادبيات العالمية حول فنّ التّحريك، هو تسليط الضّوء على هذه السينماءات التي لم يُتطرق اليها في الادبيات الدّائرة على الصّناعة السينمائيّة. انّ اهتراء اشرطة الاعمال الاولى وغياب الرواد (على غرار: محمد عرام او مصطفى الحسن الخ) اضافة الى سرعة زوال الاعمال المعاصرة (“الويب انيمس” التي توزّع حصريّا على الأنترانت والتي تضمحل في خضم تدفّق المعلومات) هو ما يجعل من حفظ الذّاكرة وتوثيق هذه الاعمال السينمائيّة اولوية. يتعلّق الأمر إذا بضرورة توثيق فنّ التّحريك لهذه الفضاءات الجغرافية المهمشة وادراجه في التّاريخ العالمي لهذا الفنّ، وكذلك في التّاريخ الثّقافي و التّراثي لهذه المجتمعات.
الهدف الثّاني هو وضع الخطوط العريضة للحقل النّظري لفنّ التّحريك الافريقي والعربي، من خلال مقاربته باعتباره موضوعا كليا. فلا نُعنى بالعمل النّهائي فحسب، بل بالايكوسيستام الذي يساهم في انتاجه وتكوين صنّاعه وصولا الى مسالك توزيعه المختلفة. وتعد طبيعته الهجينة جوهريّا (فنّا وتقنية) وارتباطاته المعقّدة بالتّعبيرات الفنيّة الاخرى، وضعيته الهامشيّة في عالم السينما و الجامعة و اعتباره شاهدا اجتماعيا على التحوّلات الكبرى المحاور الكبرى الجديرة بالدّرس.