منذ عام 1952، لعبت الدبلوماسية المصرية دورًا محوريًا في القارة الأفريقية، لكنها لم تكن دائمًا على مستوى التحديات والفرص التي أتاحتها هذه القارة الغنية بالإمكانات. بدأت مصر عهدًا جديدًا من العلاقات الأفريقية بعد ثورة يوليو، حيث قاد الرئيس جمال عبد الناصر جهود دعم حركات التحرر الوطني في العديد من الدول الأفريقية، مقدّمًا الدعم العسكري والسياسي والإعلامي. استضافت القاهرة القادة الأفارقة، وقدمت تدريبًا لعناصر حركات التحرر، بل وأسست منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963، ما عزز النفوذ المصري في القارة. لكن رغم هذه الإنجازات، ارتكبت الدبلوماسية المصرية أخطاء استراتيجية كان لها أثر طويل المدى، أهمها إغفال الجانب الاقتصادي، حيث ركزت مصر على الخطاب السياسي دون إنشاء روابط اقتصادية قوية تضمن استدامة نفوذها بعد انتهاء مرحلة التحرر الوطني. كما أدى تبني سياسات أيديولوجية منحازة إلى المعسكر الشرقي إلى عزوف بعض الدول الأفريقية المتحالفة مع الغرب عن التقارب مع القاهرة، مثل إثيوبيا وكينيا، مما جعل النفوذ المصري غير شامل لكافة أرجاء القارة.
مع تولي الرئيس أنور السادات الحكم عام 1970، شهدت العلاقات المصرية-الأفريقية تحولًا كبيرًا، حيث انسحبت مصر تدريجيًا من القارة لصالح التركيز على العلاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل. كانت هذه النقلة انعكاسًا لرؤية السادات التي فضّلت تأمين الدعم الغربي لمصر بعد حرب 1973، لكنه أدى إلى تراجع حاد في النفوذ المصري داخل أفريقيا. جاء توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 ليعزز هذه العزلة، حيث قامت العديد من الدول الأفريقية بقطع علاقاتها مع مصر، وبدأت إسرائيل في استغلال الفراغ المصري لبناء علاقات دبلوماسية واقتصادية مع الدول الأفريقية، خاصة في شرق القارة. كما أدى هذا التحول إلى إهمال ملف مياه النيل، حيث لم تبذل مصر جهودًا كافية لإبقاء علاقاتها قوية مع دول حوض النيل، مما سمح لإثيوبيا ببدء مشاريعها المائية دون أي تنسيق مع القاهرة.
أما خلال حكم الرئيس حسني مبارك (1981-2011)، فقد شهدت العلاقات المصرية-الأفريقية واحدة من أسوأ فتراتها، حيث تجاهلت القيادة المصرية القارة تمامًا تقريبًا. لم يزر مبارك أفريقيا إلا في مناسبات نادرة، وابتعدت مصر عن الأزمات الإقليمية الكبرى، مثل الإبادة الجماعية في رواندا (1994) والحروب الأهلية في الكونغو والسودان. أدى هذا الغياب إلى تراجع مكانة مصر داخل منظمة الوحدة الأفريقية (ثم الاتحاد الأفريقي لاحقًا)، وأفسح المجال لدول أخرى، مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا، لقيادة العمل الأفريقي المشترك. كان الخطأ الأكبر لمبارك في أفريقيا هو التعامل السلبي مع ملف سد النهضة الإثيوبي، حيث تجاهلت مصر تنامي النفوذ الإثيوبي في منطقة حوض النيل، واكتفت بسياسة رد الفعل دون استراتيجية استباقية لحماية مصالحها المائية. كما أن الاستثمارات المصرية في القارة كانت ضعيفة للغاية مقارنة بدول أخرى مثل الصين وتركيا، مما جعل النفوذ الاقتصادي المصري شبه منعدم.
بعد ثورة 2011، كانت مصر تعيش حالة من عدم الاستقرار الداخلي، مما أثر بشكل كبير على قدرتها على استعادة دورها في أفريقيا. ومع ذلك، حاولت القيادة المصرية في عهد الرئيس السيسي تصحيح المسار عبر خطوات متعددة، مثل استعادة مقعد مصر في الاتحاد الأفريقي عام 2019، وتعزيز التعاون الاقتصادي والأمني مع دول القارة. لكن رغم هذه الجهود، لا تزال مصر تواجه تحديات كبرى، أهمها أنها لم تتمكن من منع إثيوبيا من استكمال بناء سد النهضة، ما يعكس استمرار الفشل في هذا الملف الحيوي. كما أن الاستثمار المصري في القارة لا يزال ضعيفًا مقارنة بالقوى الأخرى، مما يعني أن مصر لم تستغل الفرص الاقتصادية الضخمة المتاحة في أفريقيا. كذلك، لم تبذل القاهرة جهودًا كافية لتعزيز القوة الناعمة المصرية عبر التعليم والثقافة والإعلام، مما سمح لقوى أخرى، مثل تركيا ودول الخليج، بتوسيع نفوذها الثقافي في القارة.
لا شك أن مصر لا تزال تمتلك فرصة كبيرة لاستعادة نفوذها الأفريقي، ولكن هذا يتطلب تبني سياسة أكثر ديناميكية وشمولية. يجب على مصر تعزيز شراكاتها الاقتصادية مع الدول الأفريقية، خاصة في مجالات الزراعة والطاقة والبنية التحتية، والاستفادة من موقعها الجغرافي لزيادة التبادل التجاري مع القارة. كما يجب عليها تطوير استراتيجيات أكثر فاعلية لحماية مصالحها المائية، وعدم الاكتفاء بالحلول الدبلوماسية غير المؤثرة في ملف سد النهضة. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي لمصر أن تستثمر بشكل أكبر في القوة الناعمة، عبر دعم المنح الدراسية للطلاب الأفارقة، وتعزيز الحضور الإعلامي المصري في القارة، وتنظيم مبادرات ثقافية ورياضية تربط الشعوب الأفريقية بمصر. إذا استطاعت القاهرة تنفيذ هذه الخطوات بجدية، فبإمكانها استعادة مكانتها كقوة إقليمية مؤثرة في القارة الأفريقية، وتعويض عقود من التراجع والأخطاء الدبلوماسية.