مناورات خطِرة: قانون «الحشد الشعبي» في العراق بين خلافات الداخل وضغوط الخارج

  • مثَّل طرح الحكومة العراقية لمشروع قانون “الحشد الشعبي”، مؤشراً إضافياً على حالة القلق التي يشعر بها وكلاء إيران العراقيون من التقلص المتسارع لدائرة نفوذ طهران الإقليمية، ومحاولة لإعادة تموضع الميليشيات الشيعية داخلياً، من طريق إعادة إنتاجها ضمن إطار قانوني ومؤسساتي جديد. 
  • يهدف مشروع قانون الحشد الشعبي الجديد إضفاء الشرعية القانونية على بنية الحشد التنظيمية العسكرية والأمنية والإدارية التي يسيطر عليها ما يُعرف بـ “تنسقية فصائل المقاومة الإسلامية في العراق”، الواجهة التي انضوت تحتها الميليشيات الولائية الأكثر قوة وارتباطاً بالنظام الإيراني. 
  • طَرْح الحكومة مشروع “قانون الحشد” في توقيت حساس على مستوى الوضع الداخلي العراقي والاضطرابات الإقليمية والدولية يُعَدّ مخاطرة، إذ يبدو بمثابة تحدٍّ لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، التي دعت الى ضرورة “حل قوات الحشد الشعبي ودمجها مع القوات الأمنية”.
  • هناك مساران محتملان لقانون الحشد الشعبي، أحدهما استمرار سحب القانون وإعادة التفاوض حوله، والثاني إجراء بعض التعديلات الشكلية على القانون ومِن ثمّ إعادة دفعه للتصويت في البرلمان، وهو الخيار المرجح حالياً.
  • تحويل “الحشد الشعبي” من حالة مؤقتة تواجه اعتراضات حتى بين الأوساط الشيعية الى تنظيم دائم منخرط بالدولة ومُسيطِر على مفاصلها الأمنية والسياسية والاقتصادية يُمثِّل خطراً جوهرياً على المحيط العربي للعراق. وتُحتِّم هذه التحديات بناء موقف عربي موحد حول هذا التنظيم ومستقبله. 

 

في خضم التحولات الجيوسياسية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط منذ 7 أكتوبر 2023، مثَّل طرح الحكومة العراقية لمشروع قانون “الحشد الشعبي”، في 12 مارس الماضي، مؤشراً إضافياً على حالة القلق التي يشعر بها وكلاء إيران العراقيون من التقلص المتسارع لدائرة نفوذ طهران الإقليمية، ومحاولة لإعادة تموضع الميليشيات الشيعية داخلياً، من طريق إعادة إنتاجها ضمن إطار قانوني ومؤسساتي جديد، بما يسمح بترسيخ نفوذها عبر دمجها في بنية الدولة العراقية، ويُصعّب استهدافها عسكرياً أو مالياً دون المخاطرة بهز استقرار العراق وجواره. وبينما أنهى البرلمان العراقي القراءة الأولى لمشروع القانون في 24 مارس الماضي، عادت الحكومة من جديد إلى سحبه بسبب خلافات داخلية وضغوط أمريكية مباشرة.

 

دوافع القانون، وظروف سحبه، وفرص إعادة تمريره في خلال المرحلة المقبلة؛ جميعها مرهونة بموازين القوى داخل البرلمان العراقي، واستعداد الفاعل الشيعي، وحجم الضغوط التي سوف تمارسها كلٌّ من طهران وواشنطن على بغداد في خلال فترة إعادة رسم خارطة النفوذ في المنطقة، وهذا ما تُسلِّط الورقة الضوء عليه.

 

تقديم قانون “الحشد الشعبي” ثم سحبه

لم تكن مسألة هيكلة هيئة الحشد الشعبي ضمن قانون جديد على لائحة أولويات القوى الشيعية حتى وقت قريب، بدلالة عدم تقديمها القانون في مراحل سابقة، بل إن الجدل الحقيقي كان منصباً على مشروع قانون “خدمة وتقاعد مُنتسبي الحشد الشعبي”، الذي كان ينتظر التصويت عليه في البرلمان بعدما استوفى جميع مراحل العملية التشريعية، وتم التوافق عليه بين الأطراف المعنية، وبالتشاور مع هيئة الحشد الشعبي نفسها.  لكن الخلاف تفجّر بين قوى “الإطار التنسيقي” حول إحدى فقراته الأساسية، المتعلقة بتحديد السن القانوني للتقاعد عند ستين سنة، نظراً لما يترتب عليها من إحالة الآلاف من عناصر الحشد على التقاعد، بمن فيهم قرابة 180 من العناصر القيادية في الميليشيات الولائية، وفي مقدمتهم رئيس الحشد فالح الفياض ورئيس هيئة الأركان عبد العزيز المحمداوي (أبو فدك) ومدير الأمن أبو زينب اللامي، إضافة إلى شخصيات نافذة أخرى محسوبة على ميليشيا كتائب حزب الله، ما أدخل القانون في طريق مسدود.

 

أتى ذلك بالتزامن مع احتدام الصراع حول رئاسة الهيئة نفسها، إذ تسعى عدة ميليشيات إلى إزاحة فالح الفياض من منصبه، لصالح مرشحين تابعين لها، بهدف السيطرة على موارد الحشد المالية واستغلال طاقاته البشرية والتنظيمية في المرحلة السياسية المقبلة، لاسيما في الانتخابات البرلمانية المقبلة، التي يتوقع أن يؤدي فيها عناصر مليشيات الحشد (قرابة 270 ألف مقاتل) دوراً محورياً في ترجيح كفة طرف على آخر في صناديق الاقتراع، في ظل تقديرات المراقبين بانخفاض حاد في نسب التصويت في معاقل الأغلبية الشيعية، جراء تصدي التيار الصدري لقيادة الحملات الداعية لمقاطعة الانتخابات.

 

من هذا المنطلق، فإن الجدل الظاهري حول “الخدمة والتقاعد” أرغم الحكومة على سحب مشروع القانون من البرلمان واستبداله بقانون شامل باسم “قانون الحشد الشعبي”، يُخفي في عمقه معركة استراتيجية لتثبيت النفوذ داخل الحشد، وتأمين أكبر قدر من أدوات التأثير السياسي في عراق ما بعد الصدر، حيث سيكون لكل صوت انتخابي وزن غير مسبوق في إعادة تشكيل موازين القوى داخل البرلمان المقبل، لكن الحكومة عادت وسحبت القانون الجديد أيضاً، وهذه المرة بسبب اعتراضات داخلية وضغوط أمريكية مباشرة.

 

تمكَّنت الميليشيات الولائية من فرض رؤيتها السياسية والعقائدية على الحشد الشعبي، وتحويله تدريجياً إلى سلطة موازية للدولة

 

إطار قانوني غير واضح لهيئة “الحشد”

بفعل الظروف الطارئة التي نشأت في ظلها هيئة “الحشد الشعبي”، بوصفها مظلة للميليشيات الشيعية الموالية لإيران، التي كانت منخرطة أصلاً في القتال إلى جانب القوات المسلحة العراقية قبل سنوات من سقوط مدينة الموصل تحت سيطرة تنظيم داعش في يونيو 2014، فضلاً عن ميليشيا سرايا السلام التابعة للتيار الصدري والميليشيات التي تشكلت لاحقاً بدعم من الأحزاب والعتبات الشيعية، استناداً إلى الشرعية الطائفية التي مثَّلتها فتوى “الجهاد الكفائي” التي أطلقها المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني. تمكنت الميليشيات الولائية من فرض رؤيتها السياسية والعقائدية على التشكيل الجديد، وتحويله تدريجياً إلى سلطة موازية للدولة.

 

ومنذ صدور الأمر الديواني لرئيس الوزراء حينها حيدر العبادي في فبراير 2016 الذي وضع الحشد تحت سلطة القائد للقوات المسلحة، بدأت بوادر صدام الحشد مع الدولة والتوسع على حسابها، وبدل أن تؤدي مصادقة البرلمان العراقي على قانون الحشد الشعبي رقم 40 في نوفمبر من العام نفسه، الذي تكوَّن من مادة واحدة من أربعة فقرات عامة ومختصرة، إلى إعادة ضبط العلاقة بين الدولة و الحشد، عمَّق القانون سيطرة الميليشيات على الهيئة من طريق عدم نصّه على أي آليات للرقابة والمساءلة.

 

ومع دخول الميليشيات على خط السياسة بخوض الانتخابات البرلمانية لعام 2018 تحت مظلة تحالف “الفتح”، أُعيد فتح ملف العلاقة بين الحشد والدولة، ما دفع رئيس الوزراء عادل عبد المهدي إلى إصدار الأمر الديواني رقم 237 في يوليو 2019، الذي نصّ على فك ارتباط الميليشيات عن ألوية الحشد التابعة لها، وإلغاء جميع مسمياتها القديمة. لكن الوقائع على الأرض كانت قد مضت مسبقاً في اتجاه مختلف تماماً، بعدما أحكمت الميليشيات الولائية سيطرتها الإدارية والمالية والعملياتية المباشرة على هيئة الحشد، موسعة صلاحيات “مديرية أمن الحشد” على حساب وزارة الداخلية وجهاز الأمن الوطني، عبر شن حملات دهم وتوقيف للمدنيين. قبل أن تذهب خطوة أبعد حين أعلن أبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد حينها، تشكيل قوات جوية وبحرية خاصة بالحشد دون الرجوع إلى رئيس الحكومة.

 

مشروع القانون الجديد

يضم مشروع قانون الحشد الشعبي الجديد مجموعة من الفقرات الجوهرية التي تهدف بشكل أساسي لإضفاء الشرعية القانونية على بنية الحشد التنظيمية العسكرية والأمنية والإدارية التي يسيطر عليها ما يُعرف بـ “تنسيقية فصائل المقاومة الإسلامية في العراق”، الواجهة التي انضوت تحتها الميليشيات الولائية الأكثر قوة وارتباطاً بالنظام الإيراني، وأبرزها “كتائب حزب الله، وعصائب أهل الحق، وكتائب سيد الشهداء، ومنظمة بدر، والنجباء، وجند الله الأوفياء، وكتائب الإمام علي”. وأهم هذه المواد هي:

 

  1. منح الهيئة شخصية معنوية مستقلة، بما يسمح لها بإدارة شؤونها الإدارية والمالية وتسليح نفسها بالمعدات العسكرية بشكل ذاتي، وتوسيع مهامها لتشمل حماية النظام الدستوري الديمقراطي، وهي العبارة التي لم ترد في قانون أي جهاز عسكري أو أمني عراقي آخر. وبمراجعة دور ميليشيات الحشد في الانقلاب على نتائج الانتخابات البرلمانية 2021 يمكن اعتبار ذلك تخويلاً قانونياً لتدخل الحشد في السياسة تحت مظلة حماية “الحاكمية الشيعية” ومنع خروج السلطة من يد القوى الشيعية الموالية لإيران، بغض النظر عن نتائج الانتخابات.
  2. تفويض رئيس الهيئة صلاحيات واسعة، ومنحه رتبة وزير ومقعداً في اللجنة الوزارية للأمن الوطني، وتخويله سلطة مطلقة في توجيه عمليات التنظيم وإصدار التعليمات والإرشادات وتعيين المسؤولين داخل تشكيلات الحشد، دون إشارة إلى القائد العام للقوات المسلحة أو الحكومة، بخلاف ما يرد مثلاً في  قانون جهاز مكافحة الإرهاب رقم 31 لسنة 2016، الذي منح أيضاً شخصية معنوية مستقلة لكنه اشترط على رئيس الجهاز في العديد من المواضع الحصول على موافقة القائد العام للقوات المسلحة أو اللجنة الوزارية للأمن الوطني على القرارات والإجراءات التي يتخذها. وهذه صلاحيات واسعة لا تتوفر حتى لوزير الدفاع، يدعمها خلو القانون من أي آليات رقابية تضمن الشفافية في إدارة الوحدات القتالية والاستخباراتية وعقود التسليح وشؤون الأفراد الذين تضاعفت أعدادهم من دون أن تعرف مؤسسات الدولة الأخرى مثل وزارة المالية ومفوضية الانتخابات والقيادة العامة للقوات المسلحة شيئاً عنهم في ظل رفض هيئة الحشد مشاركة قاعدة بياناتها بدعوى “الخوف من وقوعها في أيدي الأمريكيين والإسرائيليين”.
  3. إنشاء أكاديمية عسكرية مُتخصصة يُمنح لخريجيها شهادات بكالوريوس في العلوم العسكرية، بما يُكرِّس ازدواجية العقيدة العسكرية في منظومة الدفاع العراقية، لاسيما في ظل توجه القانون للاعتراف بـ”مديرية التوجيه العقائدي“، التشكيل الفريد من نوعه في القوات المسلحة الذي تستخدمه الميليشيات لتعزيز الطابع الأيديولوجي لقوات الحشد.
  4. الاعتراف بشرعية الذراع الاقتصادي للهيئة المتمثل في شركة المهندس للمقاولات العامة والانشائية والاستثمارات الزراعية والصناعية، الذي يُمثِّل النظير العراقي لـ”مؤسسة خاتم الأنبياء” الذراع الاقتصادي للحرس الثوري الإيراني، وبما يسخر موارد الدولة العراقية من أجل تأمين مصادر مالية غير محدودة وغير مراقبة لتمويل الأنشطة غير الرسمية.

 

 احتدم الصراع حول رئاسة هيئة الحشد الشعبي، إذ تسعى عدة ميليشيات إلى إزاحة فالح الفياض من منصبه، لصالح مرشحين تابعين لها

 

ورقة في المفاوضات الإيرانية-الأمريكية

طَرْح الحكومة مشروع “قانون الحشد” في هذا التوقيت الحساس على مستوى الوضع الداخلي العراقي والاضطرابات الإقليمية والدولية يُعَدّ مخاطرة، إذ علاوةً على أنه يبدو بمثابة تحدٍّ لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، التي دعت في الحوارات الداخلية مع العراقيين الى ضرورة “حل قوات الحشد الشعبي ودمجها مع القوات الأمنية” كما أكدت العديد من المصادر العراقية والأمريكية، فإن محاولة تمرير القانون في البرلمان من قبل قوى الإطار التنسيقي سيُواجه بمطالب مقابلة من القوى السنية والكردية التي أبدت تحفظاً على القانون ولكنها قد تُجبَر على تمريره في مقابل تمرير قوانين على نمط “السلة الواحدة”، ليس أقلها إلغاء هيئة المساءلة والعدالة وتشريع قانون النفط والغاز بما يقر شرعية العقود والاتفاقيات النفطية الكردية، فضلاً عن تنفيذ باقي بنود ورقة الاتفاق السياسي لائتلاف إدارة الدولة الحاكم، ومنها السماح بعودة النازحين إلى منطقة “جرف الصخر” المستولى عليها من قبل المليشيات، وإخراج قوات “الحشد” من المدن السُّنية، وتطبيع الأوضاع في كركوك.

 

على الأرجح فإن الفاعل الشيعي رأى في حالة الاستقطاب الطائفي التي عمَّت الساحة العراقية على خلفية  التحولات الدراماتيكية في سورية، لاسيما أحداث الساحل السوري، فرصة ذهبية لابتزاز النواب الشيعة المستقلين والمعارضين من أجل تمرير قانون الحشد، بما يُلغي الحاجة إلى أصوات الكتل السُّنية والكردية ويُعزِّز من هيمنة التمثيل الشيعي في البرلمان.

 

وأيضاً، فإن طرح القانون يُعد استثماراً لحالة التردد وعدم اليقين التي عكستها طروحات الإدارة الأمريكية حول إيران والعراق، وتراجُع التكهنات المحلية حول الضربة الإسرائيلية المتوقعة للفصائل العراقية، وكل ذلك وسَّع هامش المناورة أمام قوى “الإطار التنسيقي” في صوغ آليات التفاوض مع واشنطن حول مستقبل “الحشد الشعبي” باعتباره الضمانة الأهم لمستقبل مفهوم “الحاكمية الشيعية”، في مواجهة التحولات في معادلة القوى الإقليمية مع صعود المحور التركي على حساب المحور الإيراني.

 

ما تأكَّدَ من مصادر عراقية نافذة أن الجانب الأمريكي أبلغ بشكل مباشر رئيس الحكومة العراقي محمد شياع السوداني برفض القانون بالكامل، ما دفع الأخير بالتعاون مع مجموعة من النواب المقربين من الحكومة لتعطيل جلسات مجلس النواب وسحب القانون، غير أن إمكانية العودة لإقراره في خلال الأشهر الخمسة المتبقية من الدورة الانتخابية، ما زالت متاحة بعد إجراء تعديلات شكلية عليه، وبما يُفرغ التدخل الأمريكي لمعارضة القانون من محتواه.

 

نجاح هذه المناورة سيخدم اتجاهين رئيسين: الأول، منح الحكومة العراقية مبرراً لتأجيل حسم موقفها من ضغوط واشنطن ريثما تتضح نتائج المفاوضات الإيرانية-الأمريكية، خاصة أن حَلّ الحشد هو قرار إيراني بالدرجة الأساس. والثاني، تأمين مخرج مُشرِّف للميليشيات الولائية التي تتفاوض الحكومة معها منذ أشهر لنزع سلاحها في مقابل دور أكبر في العملية السياسية وهياكل السلطة.

 

الخلافات داخل “الإطار التنسيقي”

الوجه الآخر للجدل بشأن قانون “الحشد الشعبي” يرتبط بالصراع الشيعي-الشيعي على السلطة والنفوذ. فمع بدء البرلمان في القراءة الثالثة لقانون “خدمة وتقاعد منتسبي الحشد” في منتصف شهر فبراير الماضي، انقسم “الإطار التنسيقي” الشيعي إلى معسكرين: معسكر نوري المالكي وقيس الخزعلي اللذين يصران على تمرير القانون والتطبيق الفوري لسن التقاعد على رئيس الهيئة وقيادة الحشد العليا. ومعسكر هادي العامري وعمار الحكيم وحيدر العبادي الذين طالبوا بمنح رئيس الوزراء صلاحية التمديد لقادة الحشد ما بين 3 إلى 5 سنوات أخرى، ريثما تُعدُّ القيادات البديلة. الأمر الذي دعا فالح الفياض للسفر إلى طهران يوم 18 فبراير، لطلب الدعم الإيراني في مواجهة خطط إزاحته، وهو ما يبدو أنه لم يتحقق، خاصة أن “الخزعلي” واصل في خلال الأسابيع التالية الضغط ليس عبر الدفع لتمرير القانون دون تعديل فحسب، وإنما لمطالبة “الفياض” علانية بالاستقالة أثناء مداخلة له في ندوة “منتدى الرافدين” يوم 5 مارس الماضي، مستنداً إلى بلوغ “الفياض” السن القانوني للتقاعد، إضافة إلى عدم جواز قيادة مؤسسة عسكرية “الحشد الشعبي” من قبل زعيم حزب سياسي.

 

وكان نوري المالكي أكثر صراحة في عرض وجهة نظره في الموضوع، فبعد أسبوع من تأكيده في مقابلة تلفزيونية أن “أمريكا طلبت حل الحشد الشعبي” مُخالِفاً تصريحات الحكومة العراقية بعدم تلقيها أي طلب مماثل من واشنطن، عاد وقال نهاية شهر فبراير الماضي إن “الحشد الشعبي يجب أن يكون موحداً وليس امتدادات تابعة لأشخاص وجهات، وأن مسؤولية القائد العام إخضاع جميع فصائل الحشد إلى سلطته”. في إشارة إلى استخدام الميليشيات للحشد سياسياً وانتخابياً. وأقرّ كذلك للمرة الأولى بوجود “عناصر وهميين في قوات الحشد الشعبي”، في معرض مطالبته بإعادة هيكلته.

 

وعلى رغم اتفاق الخزعلي والمالكي على المطلب ذاته، فإنّ هدف كل منهما مختلف عن الآخر. فبينما يسعى المالكي إلى إعادة تمركزه انتخابياً من طريق تقويض السوداني والفياض المتحالفين انتخابياً، يسعى الخزعلي إلى وضع شقيقه ليث الخزعلي في رئاسة الحشد لتعويض انخفاض مستوى تمثيل “العصائب” في القيادة العليا التي هيمنت عليها “كتائب حزب الله”.

 

تحويل “الحشد الشعبي” إلى تنظيم دائم مُسيطِر على مفاصل الدولة الأساسية يُمثِّل خطراً جوهرياً على المحيط العربي للعراق

 

المسارات المحتملة لقانون الحشد

أ) تمرير قانون الحشد بعد إجراء بعض التعديلات الشكلية عليه. وهو المسار الأكثر ترجيحاً حتى الآن. ويستند الى جملة معطيات، أهمها:

 

1. ضغط المليشيات “الولائية” القوي من أجل تمرير القانون لضمان استقلاليتها العملياتية والمالية والتشغيلية عن الحكومة العراقية قبل الانتخابات، وخلق إطار قانوني يمنع دمجها في القوات النظامية استجابة للضغوط الأمريكية، مُستفيدة من حالة الشحن الطائفي التي عمّت الشارع الشيعي على هامش الزلازل الجيوسياسي في سورية وما تلاه من أحداث الساحل السوري الدامية، التي أضعفت ارتداداتها أصوات المعارضة الشيعية للسلاح خارج سيطرة الدولة، ما سوف يدفع الأغلبية من النواب الشيعة المستقلين إلى التصويت لصالح القانون.

 

2. حاجة طهران الاستراتيجية لتحصين موقف “هيئة الحشد” قانونياً باعتبارها الضامن الأساسي لاستمرار الهيمنة الإيرانية على العراق، ليس باعتباره خط الدفاع المتقدم الأخير عن نظام ولاية الفقيه فحسب، وإنما القاعدة الرئيسة التي ستنطلق منها لإعادة بناء محور المقاومة في المنطقة في مرحلة ما بعد إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب. وما التقارير الأخيرة عن نقل الحرس الثوري الإيراني صواريخ أرض أرض متقدمة إلى الميليشيات العراقية وإشرافه على إعادة تنظيم وهيكلة الميليشيات الأفغانية والباكستانية وحتى السورية غرب الأنبار، سوى إشارات للأدوار المركبة المطلوب من “الحشد الشعبي” القيام بها لصالح إيران.

 

3. تباطؤ إدارة الرئيس ترمب في اتخاذ خطوات جدية للضغط على الحكومة العراقية، وتركيز كل اهتمامها على المفاوضات مع إيران، فيما يشير إلى أنها ترى أن نتائج المفاوضات هي التي ستُحدد طريقة تعاملها مع مشكلة الحشد.

 

ب) عرقلة تمرير القانون بصيغته الحالية، وبدء جولة مطولة من المناورات السياسية. ويستند هذا المسار إلى عدة معطيات، أهمها:

 

1. الخلافات بين قوى الإطار التنسيقي الشيعي بشأن مستقبل رئيس هيئة الحشد فالح الفياض وكبار قادته العسكريين والأمنيين، في ظل التنافس المحموم بين الميليشيات الولائية للسيطرة على إمكانات الحشد وتسخيرها في السباق الانتخابي.

 

2. الترجيحات برفع القوى السُّنية والأحزاب الكردية مطالب مُقابِلة فيما يخص الملفات العالقة مع الإطار التنسيقي الشيعي، مع احتمال كبير باشتراط حصول البيشمركة على معاملة مماثلة، وتفعيل مشروع الحرس الوطني السني الذي كان قانونه قد تمت القراءة الثانية له في مايو 2015 قبل أن يُهمَل، لاسيما أن هناك بالفعل وحدات ما يعرف بـ “حراس نينوى” تُرابط إلى جانب القوات التركية في معسكر “زيلكان” في ناحية بعشيقة التابعة المحافظة نينوى.

 

3.  تجاوز إيران الخطوط الحمراء عبر تزويد الميليشيات الولائية بصواريخ أرض-أرض متقدمة وبعيدة المدى، ما يرفع من احتمالات اتخاذ الولايات المتحدة المزيد من الإجراءات العقابية غير المتوقعة أو على الأقل دعم مشروع قانون “تحرير العراق من إيران” الذي قدمه النائب الجمهوري جو ويلسون، الذي يتضمن “حل الميليشيات والحشد الشعبي” مع معاقبة أكثر من 20 شخصية شيعية بارزة موالية لإيران.

 

الاستنتاجات

من الواضح أن القوى الشيعية المختلفة داخل “الاطار التنسيقي” وخارجه باتت أكثر تمسُّكاً بوجود “الحشد الشعبي” الذي تراه الضامن للحكم الشيعي للعراق، وقد تصاعدت نبرة التمسُّك بالحشد حتى داخل تلك الأوساط التي تُعَد معارضة مثل التيار الصدري وبعض الشخصيات المستقلة وأوساط مرجعية النجف، بعد المتغيرات الإقليمية الأخيرة، سواء في سورية أو على مستوى التراجع الإيراني أمام التهديدات الأمريكية الإسرائيلية.

 

إن تحويل “الحشد الشعبي” من حالة مؤقتة تواجه اعتراضات حتى بين الأوساط الشيعية الى تنظيم دائم منخرط بالدولة ومُسيطِر على مفاصلها الأمنية والسياسية والاقتصادية يُمثِّل خطراً جوهرياً على المحيط العربي للعراق. وتحتم هذه التحديات بناء موقف عربي موحد حول هذا التنظيم ومستقبله وتأثيراته على بناء علاقات عربية رصينة مع العراق.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M