تقديم : –
يعاني المجتمع الدولي من العديد من الانتهاكات الجسيمة للاتفاقيات والأعراف والمعاهدات الدولية، والتي ترتكب بأساليب وحشية من قبل جماعات ضد جماعات أخرى لأسباب عنصرية أو طائفية، وتُعدّ هذه الأفعال جرائم إبادة جماعية.
وقد أصبح حماية حقوق الإنسان الأساسية من أولويات القانون الدولي، متجاوزًا بذلك القوانين الوطنية. فكل اعتداء يمس الصفة الإنسانية في الشخص، سواء من قبل الدولة أو جماعة إرهابية، يُعدّ جريمة ضد الإنسانية.
تُعتبر الحرب من أقدم الجرائم الدولية، وقد سعى المجتمع الدولي إلى تعريفها وتقييدها بالمتحاربين عبر وضع ضوابط واتفاقيات دولية، واعتُبر الخروج عنها جريمة حرب. ومن هذا الإطار، نشأت أخطر الجرائم التي تهدد المجتمع الدولي، والتي شكّل تعريفها معضلة كبيرة أمام الأمم المتحدة، إلى أن تم الاتفاق عليها في عام 2010م ودخلت حيز التنفيذ عام 2017م تحت مسمى “جرائم العدوان”.
ولتحقيق الردع والعقاب عن الجرائم والأفعال غير المشروعة، بُذلت جهود فقهية واسعة وأُنجزت العديد من الاتفاقيات الدولية، بدءًا من الحرب العالمية الأولى وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، مما أثمر عن إنشاء محاكم جنائية عسكرية لمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية.
ومع انتهاء الحرب الباردة، اشتعلت بعض المناطق في العالم من جديد بارتكاب أبشع الجرائم المهددة للسلم والأمن الدوليين، فتدخل مجلس الأمن الدولي بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وأنشأ محاكم جنائية دولية مؤقتة لملاحقة مرتكبي تلك الجرائم.
ومع نهاية القرن العشرين، وفي ظل التطور العلمي والثقافي والاقتصادي السريع، سعت بعض الدول، بعد استقرار أوضاعها، إلى إغلاق ملفات الجرائم القديمة ضد مواطنيها، فطلبت من الأمم المتحدة إنشاء محاكم مختلطة بالتعاون مع القضاء الوطني لمحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية.
ولتفادي أوجه القصور في المحاكم الجنائية السابقة، والحفاظ على السلم والأمن الدوليين، والعلاقات الدولية، والحد من ارتكاب الجرائم الدولية، وإحكام محاسبة مرتكبيها، كان هناك إجماع من غالبية دول العالم على ضرورة إنشاء قضاء جنائي دولي مستقل. يتمتع هذا القضاء بشخصية اعتبارية مستقلة، ويرتبط باتفاقيات تعاون مع الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، ويملك سلطات التحقيق، والقبض، والمحاكمة، وتنفيذ العقوبات بحق مرتكبي الجرائم الدولية.
وعليه، فإن حديثنا في هذا الكتاب سيكون عن أساسيات القانون الجنائي الدولي وما توصل إليه الفقه القانوني، مع تسليط الضوء على الجريمة الدولية وصورها، وبيان الجوانب الإجرائية والتنفيذية المتعلقة بإنشاء المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة والاستثنائية، وصولًا إلى إنشاء المحكمة الجنائية الدولية عام 1998م، وذلك بهدف ردع مرتكبي الجرائم الدولية، وتنظيم إجراءات التقاضي وتنفيذ العقوبات لتحقيق العدالة الدولية.