التحوُّل الأوروبي في مواجهة إسرائيل: هل تجاوز «نقطة اللاعودة»؟

  • يُشكِّل قرار الاتحاد الأوروبي بمراجعة اتفاقية الشراكة مع إسرائيل، وقرار بريطانيا تعليق مفاوضات التجارة الحرة مع إسرائيل، تحولاً غير مسبوق في تاريخ العلاقات الإسرائيلية الأوروبية.
  • يستند التحوُّل في الموقف الأوروبي من إسرائيل إلى ثلاثة دوافع أو عوامل أساسية، تتعلق بالمنحى الإنساني الكارثي الذي اتخذته الحرب الإسرائيلية  على قطاع غزة، وتأثيراتها الداخلية في أوروبا، وكذلك بالتحوُّل الأساسي في الموقف الأمريكي.
  • التحوُّل في الموقف الأوروبي من شأنه أن يزيد الضغوط الدبلوماسية على إسرائيل لتغيير سياساتها في غزة، وسورية. ولعل قرار الاتحاد الأوروبي رفع عقوباته الاقتصادية عن سورية يندرج جزئياً ضمن هذا التحوُّل، الذي لا يُراعي فقط المصالح الإسرائيلية الضيقة، بل ينظر للمنطقة ضمن نهج أكثر توازناً.
  • يُتوقَّع أن يدفع تحوُّل الموقف الأوروبي إلى توسيع التنسيق مع الفاعلين في المنطقة لموازنة العلاقات المتدهورة مع إسرائيل. وقد يدفع ذلك الأخيرة إلى إظهار اهتمام أكبر بالمواقف الأوروبية، بدلاً من تجاهُلها.

 

يشهد الموقف الأوروبي والبريطاني – الذي ظل داعماً لإسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 – تحوُّلاً جذرياً نحوها، من طريق إجراءات مراجعة الشراكة الاقتصادية وصفقات الأسلحة ودعم الإجراءات القانونية الدولية ضد الحكومة الإسرائيلية. وعلى رغم أن دوافع هذا التحوُّل تتعلق أساساً بالمنحى الوحشي الذي أخذه التدخل العسكري الإسرائيلي في غزة منذ أكثر من عامٍ ونصف، والقيود الإسرائيلية على دخول المساعدات إلى سكان القطاع، فإنَّهُ يأتي بالتزامن مع ظهور تناقضات رئيسة بين حكومة بنيامين نتنياهو وإدارة الرئيس دونالد ترمب، والتي تشكلت بوضوح في خلال جولته الخليجية الأخيرة، والتي تشمل أيضاً الموقف الإسرائيلي في سورية.

 

تسعى هذه الورقة إلى تحليل كيفية تحوُّل السياسات الأوروبية والبريطانية من الدعم المطلق لإسرائيل، إلى المواجهة، وما هي الدوافع التي خلقت هذا الوضع الجديد، وتداعيات هذا التحوُّل على العلاقات بين الطرفين، وهل يمكن أن يؤدي إلى تغيير حقيقي على الأرض، سواء في غزة أو سورية.

 

أوروبا وإسرائيل: من الدعم إلى المواجهة

في أعقاب هجوم 7 أكتوبر 2023، حشدت الدول الأوروبية وبريطانيا دعماً قوياً لإسرائيل، وسُوِّغ ذلك بـ “حق إسرائيل غير المشروط في الدفاع عن نفسها”، وانعكس هذا الدعم في شكل زياراتٍ متوالية إلى إسرائيل قام بها أغلب القادة الأوروبيين ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ورئيسة البرلمان الأوروبي روبرتا مازولا، فضلاً عن تدفقات السلاح وإرسال قوات عسكرية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط لدعم إسرائيل، بالإضافة إلى الدعم القوي في مجلس الأمن من طريق الوقوف ضد أي وقفٍ لإطلاق النار. واللافت أن الأوروبيين في ذلك الوقت قد أيَّدوا بقوة السردية الإسرائيلية التي تختصر الصراع في مجرد حربٍ على الإرهاب، مع القفز على حقائق تعقيد هذا الصراع الممتد منذ ثمانية عقود. وقد اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في ذلك الوقت، وفي خلال زيارة لإسرائيل، فكرة تشكيل تحالف دولي لمحاربة “حماس” على غرار التحالف القائم بالفعل ضد “داعش”. كما ظهر الأوروبيون في صورة التابع للسياسة الأمريكية، حيث اصطفوا وراء إدارة بايدن في تماهٍ تامٍ مع اصطفافهم وراءها في الصراع الروسي الأوكراني. ولذلك حصل انطباع عام على نطاق واسعٍ لدى الدول العربية، والجانب الفلسطيني، وإسرائيل، وحتى لدى الأوروبيين أنفسهم بأن “لا أحد يهتم بما تفكر فيه أوروبا”، وهو ما قوَّض المصداقية الأوروبية، وجعل صورة أوروبا بوصفها قوةٍ سياسية تدافع عن القانون وحقوق الإنسان، والتي سعت لإبرازها في حرب أوكرانيا، تتدهور بسبب ازدواجية المعايير التي ترسَّخت عند دول الجنوب العالمي.

 

لكن مع تصاعُد العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، وسقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين، فضلاً عن التدمير واسع النطاق الذي طال البنية التحتية الأساسية، والمواقف المُعلَنة لحكومة بنيامين نتنياهو حول التطهير العرقي، بدأ موقف الاتحاد الأوروبي يشهد انقساماً، بين مجموعةٍ من الدول حافظت على موقف داعمٍ ومجموعة أخرى أصبحت تطرح انتقادات بشأن حجم التدخل العسكري الإسرائيلي وتأثيراته. وقد سبَّبت دعوى دولة جنوب أفريقيا على إسرائيل بشأن الإبادة الجماعيّة في ديسمبر 2023، في محكمة العدل الدوليّة، حرجاً واسعاً للدول الأوروبية، بسبب تصاعد الدعوات الحقوقية والشعبية في أوروبا المنتقدة لإسرائيل، خاصة بعد أن أمرت المحكمة إسرائيل بمنع أي أعمال إبادة، وضمان توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية العاجلة لغزة. وفي يناير 2024 طرح الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، خطةً من عشر نقاط “للسلام وإقامة دولة فلسطينية”، في تعارُضٍ تامٍ مع موقف حكومة نتنياهو، وفي تأكيدٍ على أن الدعم الأوروبي لإسرائيل لا يعني التخلي عن مبدأ حلّ الدولتين الذي يشكل أساس السياسة الأوروبية تجاه الصراع. وربما أيضاً في إطار الخروج من السلبية نحو ممارسة دور أكبر كقوة مستقلة عن السياسة الأمريكية. ومع ذلك حافظت الدول الأوروبية الرئيسة على مواقف داعمة لإسرائيل، حيث أوقفت مجموعة من دول الاتحاد، على رأسها فرنسا وألمانيا، تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، لبضعة أشهر، بسبب مزاعم بتورط بعض موظفي الوكالة في هجمات 7 أكتوبر.

 

في أعقاب هجوم 7 أكتوبر 2023، حشدت الدول الأوروبية وبريطانيا دعماً قوياً لإسرائيل (شترستوك)

 

لكن منذ منتصف العام 2024 بدأنا نشهد تحولات غير مسبوقةٍ في المواقف الأوروبية تجاه إسرائيل. في 22 مايو أعلنت أيرلندا والنرويج وإسبانيا اعترافها رسمياً بدولة فلسطين، وهي المرة الأولى التي تتخذ فيها دول أوروبية هذه الخطوة الرمزية منذ أن اتخذت السويد قراراً مماثلاً عام 2014. وفي 30 مايو أعلنت سلوفينيا اعترافها بالدولة الفلسطينية. وفي 29 يونيو تقدَّمت إسبانيا بطلب للانضمام إلى قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، لتلتحق ببلجيكا التي أعلنت في مارس من العام نفسه أنها ستنضم لدعم القضية في محكمة العدل الدولية. ومع الذكرى الأولى للحرب، في أكتوبر 2024، أصبحت المواقف المنتقدة لإسرائيل أكثر قوةً وحضوراً داخل المؤسسات الأوروبية، خصوصاً بعد أن أخذ التدخل العسكري الإسرائيلي في لبنان منحى مشابه لما يحدث في غزة. فيما واجهت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين انتقادات من المشرعين لعدم دعوتها إسرائيل صراحة إلى احترام القانون الدولي في أثناء زيارتها إلى تل أبيب. ومع تصاعُد الهجمات الإسرائيلية على قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل)، التي ينتمي قطاع منها لفرنسا وأيرلندا، أخذ الموقف الإيرلندي المنتقد لإسرائيل في التجذر، وحصل تحوّل مهم في الموقف الفرنسي، عندما دعا الرئيس إيمانويل ماكرون، إلى وقف تصدير الأسلحة لإسرائيل. وبعد أسابيع، وتحديداً في منتصف ديسمبر 2024، أعلنت إسرائيل إغلاق سفارتها في دبلن، مُشيرةً إلى ما وصفته بـ”السياسات المتطرفة المعادية لإسرائيل التي تنتهجها الحكومة الأيرلندية”. لتردّ دبلن على هذا الإجراء بالإعلان رسمياً عن انضمامها إلى قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا.

 

أما في بريطانيا، فقد أصدرت حكومة ستارمر بعد أسابيع من تنصيبها قراراً بتعليق 30 من أصل 350 ترخيصاً لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل، مُشيرة إلى “خطر واضح” من إمكانية استخدام هذه الأسلحة في انتهاك للقانون الدولي. وشملت قائمة العناصر المُعلّقة مكوناتٍ أساسية تُستخدم في الطائرات العسكرية، بما في ذلك الطائرات المقاتلة والمروحيات والطائرات المُسيّرة. وفي الوقت نفسه استأنفت تمويلها لوكالة الأونروا، والذي عُلِّقَ في عهد حكومة ريشي سوناك. ودعمت إجراءات المحكمة الجنائية الدولية ضد الحكومة الإسرائيلية من طريق التراجع عن معارضة حكومة سوناك لسعي المحكمة إلى إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وحتى قبل الفوز في الانتخابات وتشكيل الحكومة، كان حزب العمال قد تعهَّد بالاعتراف بدولة فلسطينية، عاداً هذا الاعتراف “مُساهمةً في عملية السلام”. وقد عززت العمليات العسكرية الإسرائيلية في سورية منذ سقوط نظام الأسد من حدة المواقف الأوروبية ضدها، بوصفها أصبحت عامل توتر في جميع المنطقة ومُهدداً لاستقرار الأوضاع في سورية ما بعد الأسد.

 

وعلى رغم أن التوتر الراهن بين إسرائيل وأوروبا لم يولد من العدم، بل كان حصيلة تدهور متدرجٍ، فإنَّه شهد تسارعاً واضحاً منذ أبريل الماضي. ففي 9 أبريل أعلن الرئيس الفرنسي ماكرون أن ثمة خططاً للاعتراف بدولة فلسطينية، في مؤتمر تستضيفه فرنسا بالاشتراك مع السعودية في يونيو المقبل للدفع نحو حل الدولتين. وفي 24 أبريل ألغت الحكومة الإسبانية عقداً لتصدير الذخيرة لإسرائيل. وفي 5 مايو انتقد الاتحاد الأوروبي مصادقة الحكومة الإسرائيلية على خطة توسيع العملية العسكرية في غزة المعروفة بـ”عربات جدعون”. وبعد يومين أصدرت هولندا الموقف الأكثر جذريةً من طريق دعوة وزير الخارجية كاسبار فيلدكامب إلى مراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل بشكل عاجل للتأكد من أنها تتوافق مع القواعد المتعلقة باحترام القانون الإنساني. وانتقد الوزير، في رسالة موجهة إلى كبيرة الدبلوماسية في الاتحاد كايا كالاس، إسرائيل بسبب عملياتها العسكرية في غزة وسورية، فضلاً عن فشلها في كبح جماح عنف المستوطنين في الضفة الغربية. وفي 16 مايو حذَّر زعماء سبع دول أوروبية (أيسلندا وأيرلندا ولوكسمبورغ ومالطا والنرويج وسلوفينيا وإسبانيا) من أن الآلاف من سكان قطاع غزة قد يموتون جوعاً “ما لم توقف إسرائيل هجومها على القطاع وتسمح بوصول وكالات الإغاثة الدولية.

 

إلا أنّ البيان المشترك الذي صدر في 19 مايو عن فرنسا وبريطانيا وكندا، شكَّل ذروة الموقف الأوروبي المنتقد لإسرائيل، وربما مثَّل “نقطة لا عودة” في العلاقات مع حكومة بنيامين نتنياهو، إذ هدَّدت الدول الثلاث باتخاذ “إجراءات ملموسة” ضد إسرائيل إذا لم توقف هجومها العسكري وترفع القيود المفروضة على دخول المساعدات إلى قطاع غزة. وفي أعقاب البيان، بدأت ديناميكية أوروبية جديدة ضد إسرائيل. ففي 20 مايو، علَّقت الحكومة البريطانية مفاوضات التجارة الحرة مع إسرائيل. كما أعلنت أنها تدرس فرض عقوبات على وزراء اليمين المتطرف الإسرائيلي، وفَرضَت عقوبات ضد مستوطنين ومنظمات مُتهمين بالتحريض على العنف في الضفة الغربية. أما الاتحاد الأوروبي فقد أعلن في 20 مايو أنَّه سيُراجِع اتفاق الشراكة مع إسرائيل بسبب الوضع “الكارثي” في غزة، في قرار حظي بدعم 17 دولة من الدول الأعضاء السبع والعشرين. وفي تحوُّل لافِت في الموقف الألماني، الذي طالما كان الأكثر تحفظاً في انتقاداته لإسرائيل مقارنة مع بعض الشركاء الأوروبيين، وجَّه المستشار فريدريش ميرتس، في 25 مايو، نقداً علنياً لتصرفات إسرائيل في قطاع غزة، مُشيراً في مقابلة تلفزيونية، إلى أنَّه ما عاد بالإمكان اعتبار محاربة إرهاب حركة حماس مُسوِّغاً لحجم الأذى الذي يلحق بالسكان المدنيين. وقال ميرتس: “يجب على الحكومة الإسرائيلية ألا تفعل شيئاً يَصِل، في مرحلةٍ ما، إلى أن يكون غير مقبول حتى بالنسبة لأفضل أصدقائها”.

 

شكَّل البيان المشترك الذي صدر عن فرنسا وبريطانيا وكندا، ذروة الموقف الأوروبي المنتقد لإسرائيل، وربما مثَّل “نقطة لا عودة” في العلاقات مع حكومة بنيامين نتنياهو

 

دوافع التحول في الموقف الأوروبي

يستند التحوُّل في الموقف الأوروبي من الحرب الإسرائيلية في غزة، ومن حكومة بنيامين نتنياهو على وجه التحديد، إلى ثلاثة دوافع أو عوامل أساسية، تتعلق بالمنحى الكارثي الذي اتخذته الحرب على المستوى الإنساني، وتأثيراتها الداخلية في أوروبا، وكذلك بالتحوُّل الأساسي في الموقف الأمريكي.

 

1. الدافع الإنساني: فرضت التداعيات الإنسانية الكارثية للحرب على الأوروبيين تحولاً في موقفهم من دعم لا مشروط لإسرائيل، نحو مواجهة تستعمل فيها أدوات اقتصادية وتشريعية، حيث وصلت حصيلة الحرب إلى 54 ألف قتيلٍ مُسجَّل من سكان غزة، دون اعتبار من تُركوا تحت الأنقاض، أكثرهم من النساء والأطفال. فضلاً عن مخاطر المجاعة، حيث يواجه 2.1 مليون شخص، نقصاً غذائياً مزمناً، بينهم نصف مليون يعانون من سوء التغذية الحاد. ومنذ بدء حظر المساعدات في 2 مارس الماضي، مات 57 طفلاً بسبب سوء التغذية. ومن المتوقع أن يعاني ما يقرب من 71,000 طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية الحاد في خلال الأشهر المقبلة، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية.

 

2. الدافع الداخلي: فرض هذا الوضع الإنساني في المقابل تحولاً كبيراً في المواقف الشعبية الأوروبية، التي تُعد مهمة في نظر الحكومات، لكونها رصيداً انتخابياً. ومنذ أكثر من عام بدأت استطلاعات الرأي في أوروبا تكشف عن انتقادات شعبية واسعة  لإسرائيل وتأييد للشعب الفلسطيني، ونقد للسياسات الرسمية الأوروبية. وقد وصلت هذه التأثيرات حتى للمجتمعات الأكثر تأييداً لإسرائيل تاريخياً، حيث بلغت نسبة الألمان الرافضين للحرب نحو 69%. وكذلك زادت المطالبات الشعبية بحظر تصدير السلاح لإسرائيل، والتي ظهرت بشكل أوضح في تحركات النقابات العمالية لمنع عمليات التصدير من الموانئ في إيطاليا وإسبانيا وغيرها من الدول الأوروبية. فضلاً عن المظاهرات الكبيرة المؤيدة لغزة.

 

3. العامِل الأمريكي: منذ بداية شهر مايو شهدت العلاقة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلافات بسبب عدم التوافق، أولاً، حول طريقة التعامل مع إيران. لكن هذه الخلافات تحوَّلت إلى ما يشبه الصدام في خلال جولة الرئيس الأمريكي الخليجية، لاسيما بعد إعلانه رفع العقوبات عن سورية، بالضد من رغبة إسرائيل. فضلاً عن الاتفاق الأحادي بين إدارة ترمب و”حماس” بشأن الإفراج عن الرهينة الأميركي الإسرائيلي عيدان ألكسندر، الذي بدا وكأنه إشارة إلى تهميش نتنياهو. وقبلها إعلان ترمب عن توصُّله إلى اتفاق مع جماعة الحوثي يضمن حرية الملاحة في البحر الأحمر، في الوقت الذي لم يشر الاتفاق إلى مسألة استهداف الجماعة لإسرائيل. وعندما سُئل الرئيس الأمريكي عن احتمال استمرار الحوثيين في مهاجمة إسرائيل، أجاب: “بصراحة، لا أعرف شيئاً عن ذلك”، في إشارة واضحة لأولوية المصالح الأمريكية بالنسبة له على أمن الحليف الإسرائيلي. وقد مهَّد هذا التناقض بين إدارة ترمب وحكومة نتنياهو الطريق للأوروبيين للمضي في مسارٍ أكثر حدةً في مواجهة إسرائيل.

 

مهَّد التناقض بين إدارة ترمب وحكومة نتنياهو الطريق للأوروبيين للمضي في مسارٍ أكثر حدةً في مواجهة إسرائيل (شترستوك)

 

تداعيات التحول الأوروبي إزاء إسرائيل

فيما تزال المواقف الأوروبية جاريةً، وقابلة للتصعيد، وفقاً للوضع في غزة، وطبيعة ردود الفعل الإسرائيلية المستقبلية، وكذلك وفقاً للخطوة التالية التي ستقوم بها الإدارة الأمريكية، فإن تداعيات التحوُّل في الموقف الأوروبي ستأخذ ثلاثة أبعاد. أولاً، فيما يتعلق بالعلاقة بين أوروبا وإسرائيل، وثانياً في تداعيات الموقف من إسرائيل على التماسك الداخلي الأوروبي، وأخيراً، تأثيرات هذا الموقف على الوضع في غزة والمنطقة عموماً.

 

العلاقات الثنائية

يُشكِّل قرار الاتحاد الأوروبي بمراجعة اتفاقية الشراكة مع إسرائيل، وقرار بريطانيا تعليق مفاوضات التجارة الحرة مع إسرائيل، تحولاً غير مسبوق في تاريخ العلاقات الإسرائيلية الأوروبية. في السابق كانت إسرائيل تتجاهل مواقف أوروبا لعلمها بعدم وجود عواقب، أما اليوم فربما تأخذ الأمور طريقاً مختلفاً. تُشكِّل اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، التي تم توقيعها في عام 2000، الأساس السياسي والقانوني للعلاقات السياسية والاقتصادية بين الطرفين. حيث تنص المادة الثانية على أن العلاقات يجب أن تقوم على احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية. ومن خلال هذه المادة يمكن أن يتجه الأوروبيون إلى تعليق هذا الاتفاق بسبب عدم احترام الجانب الإسرائيلي لحقوق الإنسان.

 

لكن الأكثر تأثيراً بالنسبة لإسرائيل ليس الاتفاق نفسه، ولكن النفوذ الاقتصادي الهائل للاتحاد الأوروبي، بوصفه أكبر شريك تجاري لإسرائيل؛ حيث يُمثِّل 32% من إجمالي تجارة إسرائيل في السلع مع العالم في عام 2024. وتأتي 34.2% من واردات إسرائيل من الاتحاد، بينما تذهب 28.8% من صادرات إسرائيل إلى السوق الأوروبية. ويُعدّ الجانب التجاري من الاتفاقية، الذي يمنح إسرائيل وصولاً تفضيلياً إلى السوق الأوروبية، الورقة الأهم التي يملكها الأوروبيون، والتي يمكن أن تُشكِّل في حالة استعمالها ضربةً كبيرة لحكومة نتنياهو.

 

أما بالنسبة لبريطانيا، فمن المتوقع أن يؤدي قرار الحكومة بتعليق المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة الموسعة إلى حرمان إسرائيل من الفوائد الاقتصادية المحتملة، وخاصة في قطاعات مثل التكنولوجيا والخدمات.

 

التماسُك الداخلي

يضيف الموقف من إسرائيل إلى الوحدة الأوروبية مسألة جديدة من مسائل الانقسام. فقد حظي قرار مراجعة اتفاق الشراكة بدعم 17 دولة من الدول الأعضاء السبع والعشرين في الاتحاد، بما في ذلك دول مؤيدة لإسرائيل تقليدياً مثل هولندا والنمسا وبولندا. ومع ذلك فإنه يكشف عن وجود انقسام، حيث هناك عشر دول ما زالت تحافظ على دعم قوي لإسرائيل، وهي: بلغاريا وكرواتيا وقبرص وجمهورية التشيك وألمانيا واليونان والمجر وإيطاليا وليتوانيا، في حين أعلنت لاتفيا “حيادها”. ومن شأن هذا الانقسام أن يُعرقِل أي خطوات أوروبية لمعاقبة إسرائيل اقتصادياً أو سياسياً. ذلك أن تعليق اتفاق الشراكة مع إسرائيل يتطلب إجماعاً من كل الدول، إلا أن الدول المؤيدة للمراجعة يمكن أن تنجح في تعليق الجانب التجاري من اتفاق الشراكة الذي يحتاج موافقة “أغلبية مؤهلة“، أي عملياً 15 دولة من أصل 27 دولة.

 

الوضع في المنطقة

حتى وإن لم يكن الموقف الأوروبي-البريطاني فارِقاً بالنسبة لإسرائيل بقدر أهمية الموقف الأمريكي، فإن هذا التحوُّل من شأنه أن يؤدي إلى زيادة الضغوط الدبلوماسية على إسرائيل لتغيير سياساتها في غزة. ولعل قرار الاتحاد الأوروبي رفع عقوباته الاقتصادية عن سورية يندرج جزئياً ضمن هذا التحوُّل، الذي لا يُراعي فقط المصالح الإسرائيلية الضيقة، بل ينظر للمنطقة ضمن نهج أكثر توازناً.

 

وطرحت المفوضية المفوضية الأوروبية برنامج دعم شامل بقيمة تصل إلى 1.6 مليار يورو “لتعزيز التعافي والقدرة على الصمود لدى الفلسطينيين”، منها 620 مليون يورو في شكل مساعدات مباشرة لميزانية السلطة الفلسطينية.

 

وعلى نطاقٍ أوسعٍ من المتوقع أن يدفع هذا التحوُّل الأوروبيين إلى توسيع التنسيق مع الفاعلين في المنطقة، مثل تركيا والسعودية ودولة الإمارات ومصر والأردن، لموازنة العلاقات المتدهورة مع إسرائيل. ومن المتوقَّع أن يدفع ذلك إسرائيل في المقابل إلى أخذ أوروبا على محمل الجد وإيلاء اهتمام أكبر للمواقف الأوروبية، بدلاً من تجاهُلها.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M