- مع وصول الصراع الإسرائيلي-الإيراني إلى عتبة أبواب دول مجلس التعاون الخليجي، أخذت الدبلوماسية الخليجية تُسابق الزمن من أجل إعادة المنطقة سريعاً إلى حالة خفض التصعيد، إذ إن أي سيناريوهات لتوسيع هذا الصراع تضع دول الخليج في ميدان المواجهة بين إسرائيل وإيران.
- تبدو طهران اليوم أمام خيارين أحدهما أصعب من الآخر؛ فإما القبول بوقف إطلاق نار مع عودة لطاولة المفاوضات وفق شروط أقسى تتضمن تفكيك غالبية البنية النووية، أو الخروج من هذه المواجهة بأقل تنازلات مع المضي نحو تصنيع السلاح النووي وامتلاكه.
- ليس من الحكمة استبعاد سيناريو التصعيد الإيراني تجاه جيرانها العرب، والذي قد تسبقه رسائل تهديد ووعيد تهدف أيضاً لتكثيف وتيرة الاتصالات والضغوطات الخليجية على واشنطن وتل أبيب لتعبيد الطريق أمام تهدئة ومساومة بين كل الأطراف المتصارعة.
وصل الصراع الإسرائيلي-الإيراني، الذي تحول إلى حرب مفتوحة مع الهجوم الإسرائيلي على إيران في 13 يونيو 2025، إلى عتبة أبواب دول مجلس التعاون الخليجي. ويبدو أن الدبلوماسية الخليجية في عمل مستمر ودؤوب بهدف إعادة منطقة الخليج سريعاً إلى حالة خفض التصعيد، فأي سيناريوهات لتوسيع هذا الصراع تضع دول الخليج في ميدان المواجهة بين إسرائيل وإيران. ويأخذ صُنَّاع القرار في الخليج في الحسبان الاحتمالات كافة؛ من تعرُّض منشآت وأصول دولهم النفطية والغازية لهجوم، إلى احتمال حصول تلوث إشعاعي في مياه الخليج وسمائه؛ نتيجة ضرب البنية التحتية النووية الإيرانية، وغيرها من الاحتمالات. وقد حصل فعلاً أنْ تعرَّض حقل بارس الجنوبي الذي تتقاسمه قطر وإيران إلى قصف إسرائيلي يوم السبت الماضي أوقف الإنتاج الإيراني. ومن ناحية أخرى، سوف يتعامل صُنَّاع القرار في الخليج مع سؤال بات يجدد نفسه عن اليوم التالي، لكن هذه المرة عن إيجاد مقاربة جديدة لخفض التصعيد في ظل شكل جديد للنظام الإقليمي في المنطقة.
إيران أمام خيارات صعبة.. واحتمال تصدير المواجهة لجيرانها العرب
تعيش إيران هذه اللحظات (الأصعب ربما استراتيجياً وأمنياً منذ الحرب العراقية-الإيرانية) في حالة من الصدمة والانقياد نحو تأمين استمرارية حياة قيادات الحكومة والنظام نفسه. وقد وصلت إيران لهذه الحالة نتيجة لما بدا أنه تشدد على طاولة المفاوضات النووية ترافَقَ مع تراخٍ وتآكلٍ في جاهزية المؤسسة العسكرية لردع العمل العسكري الإسرائيلي المفاجئ والتصدي له. الهجمات الإسرائيلية التي بدأت فجر يوم 13 يونيو، والتي اتبعت تكتيكات عسكرية هجينة ضربت منشآت نووية، وضربت مفاصل البرنامج الصاروخي، بالإضافة لقواعد دفاع جوي وسلاح طيران، إلى جانب استهداف جزء من رأسمال إيران البشري؛ عبر تصفية بعض قادة الحرس الثوري والقوات المسلحة وعلماء ومسؤولين في المؤسسة النووية. هذا كله يترك طهران أمام قائمة من الخيارات والسيناريوهات الصعبة: فإما القبول بوقف إطلاق نار مع عودة لطاولة المفاوضات وفق شروط أقسى تتضمن تفكيك غالبية البنية النووية، وهذا ما قبلته ليبيا مسبقاً، أو الخيار الثاني وهو أنْ تخرج إيران من هذه المواجهة بأقل تنازلات مع المضي نحو تصنيع وامتلاك السلاح النووي، وهو ما فعلته دولة أخرى محاصرة في النظام الدولي، وهي كوريا الشمالية.
ويحمل الخياران معهما أخطاراً كثيرة، واحتمالات مجهولة لا يعرفها صانع القرار الإيراني الآن، فالخيار الأول أو الخيار الليبي سوف يقود نحو انكشاف شديد للنظام والدولة أمام تدخلات خارجية، قد تأتي تحت ذرائع مختلفة؛ ومنها مساعدة الأقليات أو إيقاف أعمال عنف قد يقوم بها النظام تجاه حركات احتجاج شعبية محتملة، وهو ما حدث في تدخل الناتو في ليبيا عام 2011. وفي هذا السيناريو لن تتوافر لإيران أداة ردع وازنة أمام الخارج، وهو ما توفره المظلة النووية.
أما الخيار الثاني فيعني أن يتمسك قادة إيران بالصبر الاستراتيجي الذي مارسوه مطولاً أمام العقوبات والعزلة الدولية التي ستزداد شدتها، حتى تصل طهران لعتبة تطوير القدرة على الردع النووي، الكفيلة بحماية النظام من أي تدخلات خارجية لإسقاطه. وتتعدد التقديرات حول طول الفترة التي ستستغرقها إيران للوصول لهذه المرحلة. فقد تتراوح ما بين 6 شهور إلى 12 شهراً حتى تبني سلاحاً نووياً وتختبره، وهذا السيناريو، إنْ حصل بالطبع، قد يؤدي إلى تخفيف الضغط الخارجي على طهران ومنحها مساحة للمناورة. ولكن يظل السؤال هو هل ستتجه القيادة الإيرانية نحو هذا السيناريو في خلال هذه الأزمة الوجودية التي تستمر فيها الضربات الإسرائيلية والرسائل المختلطة ما بين تخفيف وتصعيد التي يبعثها الرئيس ترمب؟ وهل تثق طهران بأنها ستجني القدرات النووية نفسها التي وصلت إليها كوريا الشمالية؟ خصوصاً إذا صحّت التقديرات التي تقول إن إسرائيل دمّرت جزءاً مُهمّاً من لوازم المشروع النووي الإيراني، كما أن تصريحات الرئيس ترمب تشير إلى قرار قاطع بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي.
ومن تبعات هذا السيناريو، احتمال تغيير إيران لتكتيكاتها العسكرية، فبدلاً من استهداف بنية إسرائيل الدفاعية المتطورة، وهو ما يشكل استنزافاً خاسراً لإيران، قد تتجه نظرتها نحو جوارها الخليجي لاستهداف المنشآت الحساسة والأهداف الناعمة التي تؤثر في سوق النفط والغاز وصحة الاقتصاد العالمي. هذا الخيار الصعب، إن حصل، يرسل إشارات لكل الأطراف بأن طهران قد تذهب لأقصى مدى حتى تضمن أمن النظام واستمراريته وحياة قادته.
وعلى أي حال، فإن حسابات طهران في الأيام والأسابيع المقبلة سوف تشكلها خيارات غير معروفة في اللحظة الراهنة، ومن أهمها دخول أمريكا للحرب إلى جانب إسرائيل. وليس من الحكمة استبعاد سيناريو التصعيد الإيراني تجاه جيرانها العرب، والذي قد تسبقه رسائل تهديد ووعيد تهدف أيضاً لتكثيف وتيرة الاتصالات والضغوطات الخليجية على واشنطن وتل أبيب لتعبيد الطريق لتهدئة ومساومة بين كل الأطراف المتصارعة.
رغبة خليجية بالتهدئة مع تركيز على واشنطن
اتّسمت ردود أفعال جميع دول مجلس التعاون الخليجي بالقلق، ليس فقط للقرب الجغرافي للمواجهة الإسرائيلية-الإيرانية من سواحل دول الخليج وسمائها، وليس فقط للآثار السلبية المتعددة التي قد تصيب الخليج، ولكن أيضاً لأن هذه المواجهة الوجودية للطرف الإيراني والحاسمة للإسرائيلي، تُمثِّل ضربة لجهود خفض التصعيد والصدام التي انخرط فيها الخليج في السنوات الأخيرة. ويبدو أن صناع القرار في الخليج والمنطقة عموماً قد يبحثون عن مقاربة مختلفة لمقاربتهم السابقة، تأخذ بعين الاعتبار متغيرات عديدة وأسئلة جديدة، ومن بينها: هل أصبحت إسرائيل هي المصدر الجديد لعدم الاستقرار في المنطقة؟ وهل من الممكن إعادة بناء الثقة بين مختلف الأطراف الإقليمية والدولية مجدداً؟
في هذه اللحظة، تأمل دول الخليج أن تتجنب الولايات المتحدة المشاركة في الحرب، وهي رغبة طهران أيضاً. ويأمل الخليجيون أن تحتفظ إدارة ترمب قدر الإمكان بمسافة بينها وبين حكومة نتنياهو حتى لا تكون واشنطن طرفاً في الحرب، وهو ما قد يُعقِّد جهود التهدئة ووقف إطلاق النار لاحقاً. ويبدو حتى هذه اللحظة أن النقاش داخل إدارة ترمب -التي على رغم كل تصريحاتها ورسائلها المنحازة لإسرائيل- لا يزال مستمراً بين الأمل في العودة إلى طاولة المفاوضات، أو ربما المشاركة في الحرب؛ إن ترسخت قناعة الرئيس بعدم جدوى العودة للمفاوضات مع طهران، أو حدوث تطورات تدفع واشنطن نحو تبني هذا الخيار.
وتواصل دول الخليج، وفي مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة، اتصالاتها بين كل الأطراف للتهدئة وخفض التصعيد والعودة للحلول الدبلوماسية. فقد أجرى أمس الثلاثاء رئيس دولة الإمارات، صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، اتصالاً مع نظيره الإيراني، مسعود بزشكيان، وكان لافتاً التعبير عن “تضامن دولة الإمارات مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وشعبها خلال هذه الظروف”، أما وزارة الخارجية الإماراتية فقد أصدرت بياناً عبرت فيه عن “ضرورة إيجاد مقاربة دبلوماسية تقود الطرفين إلى التهدئة وإنهاء هذه المواجهة”.
استنتاجات اللحظة الراهنة
يبدو أن المنطقة عموماً، والخليج خصوصاً، يمران بلحظة سيولة في حالة الأمن الجيوسياسي، حيث تبدو الرغبة الفردية في النجاة هي السائدة، وحيث تبرز إسرائيل بوصفها قوة إقليمية كبرى تأخذ على عاتقها تغيير الأوضاع والحدود وربما الأنظمة السياسية، وهو ما قد يدفع عدة أطراف إقليمية للشعور بالقلق، ليس فقط على مصالحها بل على وجودها أيضاً.
من جانب آخر، يبدو أن المنطقة لا تزال عامرة بالاتفاقات التجارية والاستثمارية وبخطط ورؤى التحوّل الاقتصادي، ولكنها أيضاً منطقة تخرج الآن -ربما مؤقتاً- من دائرة خفض التصعيد والتوتر التي تناسب أجواء الاستثمارات وخطط التحوّل التي يقودها الخليج، إلى حالة السيولة التي ذكرناها سابقاً.
إن دول الخليج ستعمل مجدداً لإيجاد معادلات جديدة حول خفض التصعيد، وستستخدم هذه الدول ما لديها من أدوات ومزايا للوصول للتهدئة من جديد، ولكن بشكل أكثر استدامة، فهل تتمكّن في هذا الوقت الضاغط -بالتواصل مع الشركاء الدوليين والإقليميين- من تذليل العقبات الكثيفة أمام هذا الخيار الدبلوماسي؟